عندما أقدم المخرج ستيفن سبيلبرغ على القفز من «جوراسيك بارك» إلى «قائمة شيندلر» في غضون عام واحد (1993)، أثار إلى جانب الإعجاب الكبير والنجاح الأكبر لكلا الفيلمين، حفيظة البعض وحيرته. فالفيلمان متباعدان تماماً: الأول موجّه إلى جمهور «البوب كورن» الذي لا يكترث لما حدث في أربعينات القرن العشرين، والثاني فيلم جاد لجمهور رصين. والاختلاف ليس أساساً اختلاف كل جمهور عن الآخر، بل في كنه وكيان كل فيلم على حدة.
هذه القفزة من الترفيه إلى التفكير تقع حالياً للمرة الثانية. بعد 3 أشهر من تحقيقه فيلماً عن متاعب الإعلام والسياسة في مطلع السبعينات عنوانه «ذا بوست»، يعود بفيلم يقع على بعد 20 ألف فرسخ بحري عنوانه «رَدي بلاير وَن» (Ready Player One). «ذا بوست»، كما «قائمة شيندلر»، فيلم للرأس (بصرف النظر عن إيجابيات وسلبيات كل منهما) وفيلم «رَدي بلاير وَن» للجيب. لكن المفارقة بالطبع هي القفزة الجديدة بين الجاد والترفيهي من دون رمشة عين.
زمنياً، الباع شاسع أيضاً. ما بين مطلع السبعينات، كما الحال مع «ذا بوست»، ومنتصف القرن الحالي نحو 74 سنة. «رَدي بلاير وَن» ينقلنا إلى سنة 2045 بعدما اكتظت المدن وسادت الحياة الافتراضية. هذه الحياة بات لها مكان اسمه «الواحة» أسسه مخترعٌ اسمه هوليداي (مارك ريلانس) الذي رحل قبل بدء القصّة، لكنّه يعود من خلال تسجيلات مصوّرة ليضع الأسس التي عليها سيتنافس الطامحون لوراثة مملكته الإلكترو - افتراضية. بين هؤلاء، الشاب الصغير وايد ووتس (تاي شريدان الذي شوهد مؤخراً في «قتل الغزال المقدّس» ليورغوس لانتيموس) الذي يعيش، مثل سبيلبرغ، ما بين الواقع والخيال في عالم تستطيع أن تتقمّص أي شخصية تريد في أي وضع تتمناه وتعيشه على النحو الذي ترغبه. للنجاح في اللعبة التي أسّسها هوليداي، على 5 شخصيات أن تتآلف (بقيادة وايد) وتنخرط في العمل لحلّ ألغاز متعدّدة في زمن قصير. هذا شرط للفوز أولاً بثلاثة مفاتيح سحرية ولاحقاً ببيضة عيد فصح، وبهذين الفوزين سيتمكن الفائز من امتلاك «الواحة».
الحكاية مأخوذة عن رواية وضعها إرنست كلاين وهي في الصميم لا تختلف كثيراً عن تلك التي وضعها رولد دول تحت عنوان «تشارلي ومصنع الشوكولا» سنة 1964 ونُقلت إلى الشاشة عدة مرّات. تكمن الاختلافات في التفاصيل إلى جانب أنّ رواية دول هي فانتازية بينما كلاين كتب ما يوصف بالخيال العلمي. هذا النوع الذي اشتغل ستيفن سبيلبرغ عليه 6 مرات حتى الآن كمخرج، وأضعاف ذلك كمنتج (مثل سلسلة «ذا ترانسفورمرز» لمخرجها مايكل باي).
مفادات وأبعاد
نستبعد هنا سلسلة «جيروسيك بارك» (ثم «جيروسيك وورلد») كونهما يتعاملان والخيال وليس العلم، على عكس أفلام سبيلبرغ المتوالية في سينما الخيال العلمي التي بدأت سنة 1977، بفيلم «لقاءات قريبة من النوع الثالث» واحتوت بعد ذلك على «الخارج عن الأرض» (معروف بـE.T. The Extra Terrestrial) سنة 1982، ثم «ذكاء اصطناعي» (2001)، و«تقرير الأقلية» (2002)، و«حرب العالمين» (2005)، وصولاً إلى «رَدي بلاير وَن».
دوماً كانت أفلام الخيال العلمي ستاراً لموضوع كامن في ثنايا الأفكار المطروحة فيه. سبيلبرغ التهم أفلام الخمسينات من هذا النوع وهذه كانت مثالية في حملها أبعاداً عن الحرب الباردة والغزو المرتقب من الشيوعيين إذا ما لم يوحد الأميركيون جهودهم للذّود عن البلاد. الخطر الشيوعي تمثل في غزاة من الكواكب الأخرى تريد أن تطيح بالأسس الإنسانية للعالم الحر، لكنّها تشهد مقاومة باسلة من الأفراد العاديين. أكثر هذه الأفلام تعبيراً عن هذا الوضع كان «غزو مختطفي الجسد» (Invasion of the Body Snatchers) لدون سيغل (1956).
سيغال شاهد هذا الفيلم وسواه مراراً في نشأته وانتظر الفرصة الملائمة لتحقيق أول فيلم خيال علمي له وهو «لقاءات قريبة من النوع الثالث» (Close Encounters of the 3rd Kind)، وهو كان ثالث فيلم حققه للسينما (أي مع استبعاد أفلام طويلة حققها للتلفزيون ولو أنّها عرضت خارج الولايات المتحدة في صالات السينما العالمية مثل «مبارزة»، 1971) ولو أن سبيلبرغ أنجز فيلماً فقير الإنتاج للغاية سنة 1964 (عندما كان عمره لا يتجاوز السابعة عشرة اسمه «Firelight») عرضته تجارياً صالة واحدة واستثناه النقاد من قائمة أفلامه الفعلية.
«لقاءات قريبة...» حوى ثيمة البيت المنهار بفعل خلاف الزوجين وانطلاق صبي ورجل (كلٌّ على حدة) صوب جبل يدركان أن مركبة فضائية ستحط قربه. هذه الثيمة مستوحاة مما عصفت به أحداث سبيلبرغ العائلية ذاتها، لكنّ البعد الأهم هو الإيحاء بأنّ أهل الفضاء ليسوا غزاة كما ساد المفهوم السابق، بل مخلوقات أكثر ذكاءً من الإنسان.
«الخارج عن الأرض» (1982)، عاد للتركيبة ذاتها حيث المخلوقات ذكية، لكنّه أضاف إليها صفة البراءة التي تلتقي وبراءة الأطفال الذين يكتشفون وجود أحد هذه المخلوقات (نُعت بـ«إي تي»). في هذين الفيلمين رغبة المخرج في توفير صورة مغايرة لما أُنجز سابقاً عن الكائنات الغريبة (Aliens) التي تثير الخوف والدمار.
لكنّ هذا التباعد عن الأمس كان مرحلياً بدليل فيلمه الخامس من هذا النوع وهو «حرب العالمين» (War of the Worlds). هنا نجد راي (توم كروز) منفصلاً عن زوجته (الخلاف الزوجي في أكثر من فيلم آخر من أعمال سبيلبرغ التي تتجاوز الستين مخرجاً) ولديه ولدان يسعى للدفاع عنهما والحفاظ على حياته من غزو لقوى إلكترو - ماغنتيكية تصيب الأرض وتتفتق عن وحوش ميكانيكية هائلة.
الفيلم مأخوذ عن آخَر أنجزه بايرون هاسكِن سنة 1954 (عن رواية لجورج بال)، لكن في حين أنّ الفيلم السابق كان حول مواجهة بين الغزاة الملحدين ممثلين بصحون طائرة، نجدهم الآن ينبعون من تحت الأرض في إيحاء من أنّ الغزاة هم من أهل الوطن الأميركي. ربما من المهاجرين. كما توحي داكوتا فانينغ حين تسأل أبيها كروز: «هل هم إرهابيون؟». كذلك ففي حين كان النصر حليف الأميركيين المعتصمين داخل الكنيسة (كرمز للإيمان) في الفيلم السابق، فإن النصر هنا حليف مقاومة العلم بالعلم.
«ذكاء اصطناعي»، و«تقرير الأقلية» مختلفان. الأول (عن سيناريو اشتغل عليه ستانلي كوبربك كفيلم قادم لم ينجزه) عن صبي مصنوع علمياً يبحث مستقبلاً عن عاطفة إنسانية تحتويه، والثاني عن تجسس السلطات على الأفراد العاديين، ما يذكّرنا بواقع المؤسسات الإلكترونية الحالية.
«رَدي بلاير وَن» ليس توليفة تابعة لأي من هذه الأفلام إلا بكونه فيلم خيال علمي. لكن فحواه، وعلى عكس الأفلام السابقة، هو الترف الصناعي المستقبلي مع خيط من الصراع بين الإنسان والعلم لا يتوجه به سبيلبرغ صوب إدانة أي طرف.