كتب حاول البيت الأبيض منعها... وغيّرت أميركا

من سيرة مالكوم إكس إلى «النار والغضب»

غلاف «عناقيد الغضب»  -  غلاف السيرة الذاتية لمالكوم إكس  -  غلاف «ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل  -  غلاف «أن تقتل الطير المحاكي» لهاربر لي
غلاف «عناقيد الغضب» - غلاف السيرة الذاتية لمالكوم إكس - غلاف «ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل - غلاف «أن تقتل الطير المحاكي» لهاربر لي
TT

كتب حاول البيت الأبيض منعها... وغيّرت أميركا

غلاف «عناقيد الغضب»  -  غلاف السيرة الذاتية لمالكوم إكس  -  غلاف «ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل  -  غلاف «أن تقتل الطير المحاكي» لهاربر لي
غلاف «عناقيد الغضب» - غلاف السيرة الذاتية لمالكوم إكس - غلاف «ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل - غلاف «أن تقتل الطير المحاكي» لهاربر لي

لم يحظ كتاب سياسي في القرن الحادي والعشرين إلى الآن بالشعبيّة والانتشار اللذين حصل عليهما كتاب الصحافي الأميركي مايكل وولف «النار والغضب: داخل بيت ترمب الأبيض». وولف الذي عبّر عن سعادته الغامرة بالإقبال غير المسبوق على كتابه والذي صدر بالفعل يوم الجمعة الماضي متضمناً انتقادات لاذعة لشخص الرئيس الأميركي دونالد ترمب وأفراد عائلته وأسلوب إدارته.
ووجّه المؤلف شكراً ساخراً للرئيس من موقع «تويتر» على مساهمته بخلق شعبيّة منقطعة النظير لمولوده الجديد، وتساءل في مقابلة تلفزيونيّة إلى «أين يمكنه إرسال علبة من الشوكولاته لترمب تعبيراً عن امتنانه». وبالفعل فإن هذا الإقبال النادر على كتاب ذي محتوى سياسي تسبب به ساكن البيت الأبيض نفسه أكثر من أي شخص آخر، إذ بدا غاضباً فوق العادة مما ورد في المقتطفات التي سرّبت إلى «الغارديان» وصحف غربيّة كبرى حتى قبل صدوره، هائجا أمام الكاميرات للدفع بأهليته بل وعبقريته الاستثنائيّة في مواجهة ادعاءات «النار والغضب» الذي ما لبثت أن أدانته سارة ساندرز المتحدثة باسم البيت الأبيض بوصفه «محض أكاذيب» و«خزعبلات صحف صفراء» و«فانتازيا لا تستند إلى الوقائع»، بينما وجه محامو الرئيس إلى ناشر الكتاب مطالعة تحذيريّة من 11 صفحة تدعوه فيه للامتناع عن التوزيع تحت طائلة الملاحقة القانونيّة.
وبحسب موقع أمازون فإن «النار والغضب» قفز خلال يوم واحد إثر هجوم البيت الأبيض عليه من المكانة 48449 في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً على الموقع إلى المرتبة الأولى، بينما قدّم الناشر موعد صدوره عدّة أيام تجنباً فيما يبدو لأية إجراءات قانونيّة لمنعه، واصفاً إياه بأنه «إضافة نوعيّة للجدل السياسي في البلاد»، وأكد بعدها أن ربع مليون نسخة قد بيعت بالفعل خلال أيام معدودات، ذلك بالطبع إلى جوار ألوف النسخ الإلكترونيّة التي يتم تحميلها على مدار الساعة.
ولعل تلك المفارقة تُثبّت بحد ذاتها بعضاً مما ورد في نص وولف من وصف الرئيس ترمب بكونه رئيسا لا يقرأ، ولا يستمع، ولا يثق بأحد. إذ لو كان قرأ في ذاكرة محاولات خنق الكتب ومنع نشرها ومصادرتها وفرض قيود على توزيعها - لا سيما في الولايات المتحدة - لكانت استمهلته العِبرة بكون النهايات دائماً تأتي عكس النتيجة المُرادة. فعلى الرغم من كفالة الدستور الأميركي - أقلّه على الصعيد النظري - حق التعبير للأميركيين، فإن مصالح النشر الكبرى التي يتحكم عدد محدود منها بسوق الكتب تمارس رقابة ذاتيّة شديدة تسمح بتداول الأعمال التي ترى أنها تخدم السرديّة السائدة فحسب، مما يقلّص هامش الحضور أمام كل سرديّة نقيضة. وحتى تلك الأعمال التي تتجرأ على طبعها دور نشر مغمورة أو ينشرها المؤلفون على حسابهم فإنه كثيرٌ ما تعمد جماعات الضغط الأميركيّة المختلفة والمتعددة الاتجاهات وأتباعهم من الغوغائيين إلى رفع دعاوى قانونيّة أو حتى ممارسة ضغوط مباشرة على الناشرين أو المدارس والمكتبات العامة لإزالة أعمال معينة من التداول بحجة تطرق تلك الكتب لأمور منافية للأخلاق أو قضايا عرقيّة أو دينيّة حساسة. لكن تلك الأعمال تحديداً تحولت دائماً إلى موضع إقبال متزايد، وأصبح بعضها كلاسيكيّات في عالمي الأدب والسياسة.
ولعل بانوراما خاطفة لأهم الكتب التي تعرضت لمحاولات المصادرة والمنع - في الغرب عموماً والولايات المتحدة بالذات - تُظهر كم أن النتائج كانت حتماً عكسيّة لتوجهات سلطات الرقابة ومحاكم التفتيش، بداية من نسخ الكتاب المقّدس التي نشرها مارتن لوثر ومشايعوه باللغات المحليّة الأوروبيّة قبل 500 عام تقريباً، وانتهاء بـ«النار والغضب» راهناً. فرواية (المحبوبة - 1987) لتوني موريسون مثلاً والتي فازت بجائزة «بوليتزر» وتعد مؤلفتها أهم روائية أميركيّة ذات أصول أفريقيّة تعرضت لحملة شعواء من قبل تجمعات أولياء أمور طلبة أميركيين اتهموا الرواية بأنها مفسدة لأخلاق أولادهم وتسببوا لسنوات كثيرة في سحبها من المدارس وعدة مكتبات عامة.
كذلك كان الأمر مع (السيرة الذاتيّة لمالكوم إكس - 1965) التي كتبها ناشط الحريّات الأميركي المعروف مالكوم إكس بالتعاون مع أليكس هيلي، وتعرضت إلى صنوف من المصادرات ومحاولات المنع بوصفها مُلهمة للإتيان بأعمال العنف ونص مليء بالكراهيّة ضد العرق الأبيض، وقبلها روايات (نداء البريّة - 1903) لجاك لندن، و(الغابة - 1906) لأبتون سينكلير، و(غاتسبي العظيم - 1925) ل ف. سكوت فيتزجيرالد، و(ذهب مع الرّيح - 1936) لمارغريت ميتشل، و(كانت عيونهم ترقب الإله - 1937) لزورا هورستون، و(عناقيد الغضب - 1939) لجون شتاينبيك، و(لمن تقرع الأجراس - 1940) لإرنست هيمنغواي و(حارس حقل الشوفان - 1951) لجيه دي سالينجر، و(الرّجل الخفي - 1952) لرالف إليسون، و(أن تقتل الطير المحاكي - 1960) لهاربر لي.
وحديثاً لم تسلم سُباعية (هاري بوتر - بداية من 1997) لجيه. كيه. رولينغ - وهي الأوسع مبيعاً لسلسلة روائية في التاريخ المسجل - من محاولات منع ومقاطعة عمدت إليها مجموعات دينيّة أميركيّة محافظة اعتبرت السلسلة تجميلاً للسحر الأسود وترويجاً للشيطانيات في عقول الناشئة، بالإضافة إلى عدة كتب مرجعيّة عن تاريخ حركات التحرر في المكسيك، ونضالات الهنود الحمر، والنظريّات النقديّة للعرق وغيرها، وجميعها تعرضت إلى محاولات المنع والمصادرة من قبل جهات متقاطعة عدّة، بل ومُنع تدريسها - كتباً وموضوعات بحث - في جامعات كبرى مرموقة داخل الولايات المتحدة وحتى وقت قريب. لكنّ هذه العناوين كلها - وهي مجرد نماذج لقوائم طويلة من كتب تعرضت للحظر والمنع والتضييّق عليها في الولايات المتحدة - تعد اليوم من معالم الأدب والفكر الأميركي - بل والعالمي -، حتى وصفتها مكتبة الكونغرس في معرض عن منع الكتب أقامته مؤخراً بأنها «الكتب التي شكّلت أميركا».
حتما، كان على الرئيس ترمب ولو لهذه المرّة فحسب، الذهاب إلى القراءة أو الاستماع لخبير بعالم النشر عن سلطة النصوص الممنوعة في التاريخ، وكيف أنّها تنتهي بدافع من محاولات المصادرة والمنع كما أيقونات من ضوء. لربّما حينها لم تشتعل ناره ولم تطاول أصابع غضبه «النار والغضب»، فمضى ككثير من الكتب السياسية التي تصدر في كل وقت ليقرأها ويحتفي بها جمهور محدود سرعان ما يتجاوزها، تاركاً إيّاها على رفوف الضباب. لقد منح دونالد ترمب - الإمبراطور الذي لا يقرأ - حروفاً حاول خنقها تذكرة الخلود من غير أن يدري.


مقالات ذات صلة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
يوميات الشرق زينة صالح كيالي تسلط الضوء على موسيقيات من لبنان (المؤلفة)

زينة صالح كيالي لـ«الشرق الأوسط»: الجمهور اللبناني لا يعترف بموسيقييه الكلاسيكيين

هجرتُها إلى فرنسا عام 1987 وفَّرت لها اكتشاف أهمية الموسيقى في تكوين شخصية الناس. وهناك اطّلعت من كثب على الهوية الوطنية للتراث الموسيقي اللبناني...

فيفيان حداد (بيروت)

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».