وضع باحث سعودي حداً للجدل والاستنتاجات والآراء والتكهنات حول آثار وشواهد قرية «الفاو»، أحد المواقع الأثرية الشهيرة في جنوب السعودية، وعدّها المؤرخون والآثاريون من صور الحضارة العربية قبل الإسلام، مُزيحاً اللثام عن سرّ بعض الجوانب الغامضة في بعض مواقع القرية من الحفر والقنوات والأحواض الصخرية، وغيرها في الموقع الشهير وبعد عمليات الكشف والتنقيب في الموقع التي جرت خلال العقود الماضية، وما نشر عنها وعن قبيلة كندة التي يقال: إن قرية الفاو كانت من مساكنهم. وركز الباحث على الحفر الصغيرة المدفونة التي يزخر بها الموقع، موضحاً دلالتها ورابطاً ذلك بوجود علاقة بين هذه الحفر والنباتات البرية الموجودة في مناطق نموها في المنطقة، والبعيدة عن مناطق آثار القرية، معلناً أن هذه الشواهد القريبة من القرية تؤكد أنها كانت مدينة صناعية كبيرة لإنتاج مواد خفيفة النقل وغالية الثمن وعالمية الاستهلاك، وكانت تضم جاليات كبيرة مستقرة من أمم أخرى غير سكانها العرب، جاءت للعمل في التعدين التي اشتهرت بها القرية.
وأبلغ «الشرق الأوسط» الباحث حميد مبارك الدوسري، أنه خلال زيارته للمنطقة بحثاً عن النباتات البرية بحكم التخصص، لفت نظره وجود أعداد هائلة من الحفر الصغيرة المدفونة في مناطق نمو تلك النباتات البعيدة عن منطقة الآثار، وأنها قد تفسر لنا بعض الجوانب الغامضة من تأريخ الموقع، معتبراً أن تفسيرات الباحثين لم تكن مقنعة عن سبب وجود قرية في هذا المكان بالذات دون سواه، كما أن ما نُشر عن التنقيب لم يشمل جميع الآثار الموجودة في الموقع كما يبدو، إضافة إلى أن تفسير الغرض من وجود بعض المرافق التي كشف عنها لم يكن منطقياً.
وذكر الباحث، أن ما نشر من معلومات عن القرية مثير حقاً، لكنه يتسم بالغموض في جوانب كثيرة منه، كما أن تفسير بعض موجودات الموقع تتعارض مع بعض الأمور البديهية البسيطة، فمثلاً البئر الموجودة في (السوق)، واسعة جداً على غير المعتاد وعمقها 5 أمتار فقط، والماء أعمق من ذلك بكثير، بدليل أن المقابر أعمق منها، وفي أسفلها أحواض صخرية وألواح من الحجارة، ومساحة (السوق) من الخارج 25×30 م، فهل هي سوق حقاً؟ وهل تلك الحفرة بئر ماء؟ أم أن لها غرضاً آخر؟ إذا علمنا أنه يقابلها من الشرق من خارج سور السوق برج مرتفع على قواعد ضخمة مقسمة من الداخل إلى أنصاف دوائر مغطاة، ومملوءة بالرمل الناعم النظيف والبرج كله في حوض كبير أو بركة متصلة بقناة متجهة نحو الجبل، وقيل عنه: إنه ربما يكون لتصفية الماء وتحويله إلى البئر عبر قناة مخفية، أما الآبار المنتشرة في الموقع فهي أكثر من 120 بئراً، وهو عدد هائل، في مساحة صغيرة، وقد فسر ذلك بأنه دليل على اهتمام أهل قرية بالزراعة والبساتين، مع علم الجميع أن أرض القرية جيرية غير صالحة للزراعة أصلاً، وعدد تلك الآبار مقارنة بعدد السكان وتوزيعها والمسافات بينها تدل على أنها لغرض آخر غير الزراعة، كما فسر وجود الحفر الدائرية في المنطقة الجبسية حول المساكن بأنها أحواض لزراعة الأشجار! وهي أحواض منتشرة في المنطقة كلها على مسافة تبلغ 30 كيلومتراً جنوب البلدة، استخدام جذوع النخل وسعفه في البناء ليس دليلاً على أن النخل زُرع محلياً، بل يمكن جلبها من الواحات القريبة كما جلب غيرها من المواد، كما أن ذلك لا يعني أنه لا توجد شجرة ولا نخلة في القرية، لكن الزراعة - إن وجدت - ليست مهنة للسكان، ولا من المهن الرئيسية لهم.
وتوصل الباحث من خلال دراسة الغطاء النباتي الموجود في المنطقة إلى وجود علاقة بينها وبين السكان، طارحاً بعض الشواهد التي تؤكد أن قرية الفاو عبارة عن مدينة صناعية كبيرة قامت على تعدين وتصنيع وتصدير المواد المنتجة من الرواسب الجيرية التي تحتويها المنطقة، ومن رماد النباتات الملحية التي تنمو بكثرة في المكان، ومن تلك المواد على سبيل المثال: البورق، والصودا، والقِلِي، وغيرها من المواد التي يمكن تعدينها بطرق، بعضها بدائي بسيط، وبعضها متقدم في مقاييس العلم في ذلك الزمان، وتلك المواد تستعمل في إنتاج الزجاج، وصناعة المنظفات التي تطورت فيما بعد إلى الصابون، وصناعة النسيج، والأدوية، وفي تحنيط الموتى، مشدداً على أنه ربما تكشف التنقيبات في المناطق المتبقية التي لم تجرِ فيها حفريات حتى الآن، عن وجود أماكن لتصنيع بعض تلك المواد في شكلها النهائي للاستهلاك المحلي أو للتصدير.
وذكر الباحث حميد الدوسري، أنه من خلال دراسة الغطاء النباتي والنباتات السائدة في المنطقة، تبين أن الكثير منها ينتمي إلى الفصيلة السرمقية (Chenopodiaceae)، وهي الفصيلة التي تنتمي النباتات الملحية halophyte إليها، ومعروف أن النباتات الملحية قادرة على امتصاص المواد القلوية من التربة بكميات كبيرة، وتبقى تلك المواد في رماد تلك النباتات بعد إحراقها بتركيزات عالية على هيئة كربونات البوتاسيوم أو كربونات الصوديوم أو خليط منهما، وكان القدماء يستخرجون من رمادها القلي المستعمل في التنظيف والصودا المستخدمة في صناعة الزجاج وغيرها، وذلك باستخدام ماء الجير وبعض مشتقات الجبس والنباتات الملحية مصدراً متجدداً للرماد؛ لكثرة أنواعها وسرعة نموها، وبعضها حولي ينبت كل عام، وبعضها الآخر شجيرات معمرة، لكنها سريعة النمو.
ومعروف أن الجبس والجير يوجدان في أماكن كثيرة، والنباتات الملحية تنمو في أماكن كثيرة أيضاً، لكن وجودهما معاً، إضافة إلى أمور أخرى جعلت هذا الموقع مميزاً، وهي النقطة التي ربما تفسر لنا الكثير من خفايا الموضع.
وأشار الباحث الدوسري إلى أن النباتات الملحية ظلت المصدر الوحيد للقلي والصودا عبر العصور، وازداد الطلب العالمي عليها مما حدا بالإسبان والبرتغاليين إلى زراعة بعض الأنواع منها في مستعمراتهم، ثم نقلها بالسفن أو نقل رمادها إلى أوروبا أيام النهضة الصناعية فيها، واستمر الحال على ذلك إلى القرن التاسع عشر حين صُنعت الصودا كيماوياً.
ولفت الباحث إلى أنه يمكن إعادة النظر في تفسير بعض المرافق في البلدة وما عُثر عليه في المعابد من تماثيل تؤكد وجود جالية كبيرة مستقرة من أمم أخرى غير عرب جاءت للعمل في التعدين، يرجح أنها من بلاد الشام وشرق أوروبا، كما يفسر لنا وجود الرموز والأشكال الحجرية الدالة على أماكن التعدين أو رموز المعادن أو ذات المضامين الدينية التي نقلها الوافدون معهم من الحضارات الأخرى، ووجود هذه الجاليات غير العربية قد ذكرته المصادر الأخرى التي فسرت قدومهم بأنه حملات غزو أو لحماية مصالح مهددة أو (استعمار) أو غير ذلك، كما يمكن للمؤرخين ربط ازدهار الحياة في قرية وتعرضها للدمار بقيام الحضارات في المناطق الأخرى التي كانت تستورد المواد منها، فازدهار الحياة في البلد المستهلك، يقابله ازدهار للحياة في البلد المصدر (المنتج)، والاضطراب الأمني في أحدهما يؤثر سلباً على الآخر، كما أن اكتشاف طرق تصنيع جديدة (تطوير) للإنتاج أو مصادر بديلة للمواد الخام في مكان آخر، أو نفاد المخزون في البلد المصدر يؤدي إلى النتيجة نفسها المذكورة سابقاً.
ورأى الباحث، أنه إذا كانت المدينة «القرية» تمارس أنواعاً أخرى من التجارة غير تصدير منتجاتها واستيراد حاجاتها الأساس أو محطة للقوافل التجارية؛ فذلك لا يتعارض مع وضعها كمنطقة إنتاج صناعي لمواد خفيفة النقل، وغالية الثمن وعالمية الاستهلاك، لافتاً إلى أن الموضوع يحتاج إلى دراسة تفصيلية تبين الطرق القديمة التي كانت تستخدم في إنتاج البورق المعروف الآن boric acid والقِلِي potassium carbonate والصودا soda ash أو sodium carbonate، وسوف تتضح لنا أسرار تلك الحفر والقنوات والأحواض الصخرية، وغيرها من الآثار.
الفاو السعودية... مدينة صناعية وسط الصحراء قبل عشرات القرون
باحث يكشف الدلالات الأثرية للحفر الصغيرة في «قرية الجاهلية»
الفاو السعودية... مدينة صناعية وسط الصحراء قبل عشرات القرون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة