بالنسبة لفنانة تجميل يتركز عملها على رسم الوجوه بالألوان، بدت لورا ميرسييه في غاية البساطة. تركت شعرها على سجيته، بين المنسدل والمنكوش، وبشرة طبيعية تُعطيك الانطباع بأن صاحبتها لم تُكلف نفسها جهد وضع أي كريمات أو ماكياج عليها. ثم أتذكر أن هذا المظهر الطبيعي، سواء تعلق الأمر بالألوان أو بالتركيبات البسيطة، هو وصفتها التي حققت لها النجاح وجعلتها تبني اسمها على المستوى العالمي. عندما أشير إلى استغرابي كيف أن خبيرة مثلها تبيع الجمال لنساء العالم لكن لا تضع أي مساحيق على وجهها، ترد ضاحكة: «من قال لك إني لا أضع أي ماكياج، إنها خبرة ثلاثة عقود.. لا أخفيك أني قضيت وقتا لا بأس به قبل حضوري وأنا أعمل على إخفاء علامات التعب التي كانت تعتري وجهي بسبب السفر الطويل». وتتابع: «فلسفتي أو بالأحرى الأسلوب الذي أصبح يرتبط بي أن الماكياج الناجح هو الذي لا يكون واضحا أو صارخا».
كانت عيناها تشعان بالحماس وهي تستدل على قولها بمجموعة من المستحضرات وضعتها على الطاولة وقالت إنها من مجموعتها الأخيرة، إضافة إلى مستحضرات تعيد طرحها دائما لأن المرأة العارفة لم تعد تستغني عنها مثل «سيكريت كاموفلاج» وكريم الترطيب الملون وهلم جرا من المنتجات التي تُشرف على أدق تفاصيلها حتى تأتي بالمستوى الذي ترضى عنه.
من يعرف لورا ميرسييه يعرف أنها واكبت عدة تغيرات، عدا عن كونها امرأة تحب الجمال والأناقة. كل هذا يجعلها تعرف تماما مكامن ضعف بنات جنسها، أو بالأحرى مخاوفهن. ولا تستثني هنا أية واحدة منهن. فكما تعاملت مع فتيات لا تتطلب حياتهن الكثير من الاهتمام اليومي بمظهرهن، تعاملت أيضا مع نجمات من مستوى مادونا وجوليا روبرتس، ممن تترصدهن عدسات الباباراتزي في كل مكان وزمان.
اللافت أنها عندما تتحدث عن لائحة زبوناتها، وهي طويلة جدا، فإنها لا تبدو مبهورة بنجمات هوليوود ولا تعتبرهن أهم أو أقل من أي امرأة أخرى. ما يُؤكد هذا الإحساس إشارتها إلى أن الاجتهاد الشخصي هو الذي يفتح أبواب النجاح وليس مصاحبة المشاهير والنجوم.: «أنا (بيتوتية) بطبعي ولا أميل إلى السهر أو الشللية، لهذا لم أكن أحضر الحفلات التي كان يحضرها غيري على أساس أنها مهمة لربط علاقات تفتح الأبواب» . وتتابع: «أدركت منذ البداية أنه لا بد لي من وضع خطوط حمراء، على الأقل فيما يتعلق بحياتي الخاصة..صحيح أني كنت مستعدة لمسايرة الوضع ومتطلبات العمل، إلا أني لم أكن مستعدة للسهر إلى آخر ساعات الفجر، ولا إلى تناول المنشطات حتى يرضوا عني وأشعر بالانتماء للشلة».
وتضيف: «الأضواء لم تغوني يوما ولا النجومية.. منذ صغري لم أحلم أن أكون مشهورة بقدر ما كنت أحلم بأن أكون فنانة. وحتى الآن لو خُيرت لقلت إن حُلمي الأول بأن أكون رسامة من حقبة ذهبية للفن لا يزال يراود خيالي». عُشقها للرسم حقيقة لم تحاول إخفاءها، بل العكس تُصرح دائما بأنه كان دافعها لاحتراف فن التجميل «فقد وجدت رسم الوجوه أقرب شيء إلى فن الرسم» حسب قولها.
بعد أن تأكدت من رغبتها، قررت الانخراط في معهد لتعلم فنون التجميل والماكياج على الأصول، فهي لا تؤمن بأنصاف الحلول ولا تقبل بأن تكون مجرد فنانة ماكياج لا بأس بها. بعد تخرجها في معهد الفنون بباريس انخرطت في معهد «كاريتا» الشهير حيت تدربت كفنانة ماكياج. في هذه الفترة بدأت تستمتع أكثر وأكثر بما كان مجرد بديل للرسم في البداية. اكتشفت أن فن وضع الماكياج لا يختلف كثيرا عن رسم لوحة فنية وأنه الأقرب إلى حبها الأول. بعد التخرج عملت كمساعدة لثيبو فابر، وهو خبير متمكن عمل كمدير فني لكثير من الشركات مثل «لانكوم» و«كلارينز»، وغني عن القول إن تدربها على يديه كان له الفضل في فتح أبواب العمل أمامها. ومع ذلك لم تمر سوى فترة وجيزة حتى ثارت الفنانة بداخلها وتمردت على العمل الوظيفي وقررت أن تستقل بنفسها لتعمل كفنانة ماكياج متعاونة مع مجلات فرنسية براقة. بعد ستة أعوام، وفي بداية الثمانينات، انتقلت إلى نيويورك. كانت من بين فريق تم اختياره لكي يتولى إطلاق نسخة أميركية من مجلة «إيل» الفرنسية. لم تكن النقلة سهلة بالنسبة لفرنسية حتى النخاع. فهي لم تكن معروفة في الأوساط الأميركية من جهة، كما كان أسلوبها الفرنسي الطبيعي في وضع الماكياج جديدا على الذائقة الأميركية من جهة ثانية، الأمر الذي فرض عليها أن تبدأ من الصفر تقريبا مثل أية مبتدئة حتى تُثبت نفسها، وهو ما لم يكن سهلا فضلا عن الحرب التي تعرضت لها من قبل أعضاء المدرسة الأميركية التقليدية. تُعلق: «ثم لا تنسِ أننا نتكلم عن حقبة الثمانينات، الحقبة التي كان فيها الماكياج قويا والألوان صارخة، من ظلال الجفون الزرقاء والخضراء إلى أحمر الخدود الوردي الدرامي وأحمر الشفاه القاني وما شابه». حتى الآن لا تزال هذه الحقبة وألوانها تستفزها وتُثير أعصابها كلما تذكرتها. لحسن الحظ أن مجلة «إيل» لم تكن تريد أن تسبح مع التيار الأميركي، لهذا منحتها ورقة بيضاء أن تستعمل أسلوبها الطبيعي في جلسات التصوير الخاصة بالنجمات والعارضات. وجاءت الصورة جديدة ومُنعشة شدت الانتباه والإعجاب على حد سواء. لكن في الوقت الذي كانت فيه المجلة ملاذها ومتنفسها، لم تكن العملية خارج إطار العمل بنفس البساطة والسلاسة.كانت أغلب زبوناتها لا يزلن يطلبن منها وضع كريمات أساس ثقيلة وألوان صارخة، وبما أنها لم تكن في وضع يُخول لها معارضتهن لأنها كانت تحتاج إلى العمل «كان علي مسايرتهن» «وكل ما كان بإمكاني القيام به أن ألعب معهن لعبة القط والفأر بتخفيف سماكة الكريمات قدر الإمكان». من الأشياء التي تتذكرها ميرسييه أنها فوجئت بأن عالمها الجديد لم يكن بريئا، ولا المنافسة فيه شريفة. فالكل يريد أن يعمل ليرسخ مكانته ويحقق النجاح، وكان البعض أحيانا «لا يتورعون أن يدوسوا عليك أو يطعنونك من الخلف لكي يصلوا إلى مبتغاهم..لا أخفيك أن الأمر شكل لي معاناة كبيرة، لأنني بطبعي مسالمة ولم أخض في حياتي حروبا مماثلة. كوني بيتوتية لم يكن في صالحي، من ناحية أني لم أنتمِ إلى فريق بعينه يدافع عني ويحميني». مع الوقت، توقفت عن المقاومة وتركت كل من يريد أن يتخطاها يفعل ما يشاء. ولأنها كانت متعاونة بالقطعة وتحتاج إلى العمل لكي تدفع الفواتير الشهرية، توصلت إلى أن الطريقة الوحيدة هي أن تجد لها أسلوبا خاصا يُميزها عن غيرها من فناني الماكياج من أبناء جيلها. ونجحت استراتيجيتها، لأنها سرعان ما كسبت ثقة النجمات لتبدأ الطلبات تنهال عليها في التسعينات تحديدا. كانت هذه هي الفترة التي شهدت تنامي موجة «المينيماليزم» المضادة لـ«ماكسيماليزم» الثمانينات. أسلوبها الطبيعي والهادئ كان يُجسد معنى «القليل كثير». وهكذا بدأ الحظ يبتسم لها من جديد. ورغم ذلك لم تستكن للحظ أو تثق في الوضع. فعشر سنوات من الصراعات غير المهنية علمتها أنه لا بد لها من البحث عن بديل يقيها شر الحاجة في عالم يفتقد إلى الولاءات الطويلة وتحكمه العلاقات الشخصية.
البديل كان أن تؤسس شركة خاصة بها، تمنحها ليس الأمان فحسب، بل أيضا تُعيد لها شغفها بالماكياج كفن وليس كتجارة. «اشتقت إلى شيء يُحفزني ويُذكرني بالأسباب التي جعلتني أصبح فنانة ماكياج، مثل مزج الألوان واللعب بتركيبات المواد». تذكرت أنها وعدت نفسها وهي في عمر الزهور بأن تبتكر في يوم من الأيام خافي عيوب يُموه عن كل الشوائب، واستغربت كيف تأخرت الشركات الكبيرة عن ذلك. شعرت بأن المجال مفتوحا أمامها بالنظر إلى أن هذه الشركات التي تمتلك إمكانيات هائلة تأخرت كثيرا ولم تكتشف إلا مؤخرا أهمية أن تُدخل اللون الأصفر في كريمات الأساس من أجل ذوات البشرة الزيتونية. وهكذا بدأت فكرة إطلاق مجموعة خاصة بها تُلح عليها. كل ما كانت تحتاجه هو رأسمال وعقل تجاري، لأنها كانت تعرف أن قدراتها لا تشمل هذا الجانب. تغير كل شيء عندما التقت سيدة أعمال من تكساس آمنت بأفكارها، وأبدت استعدادا لتمويل مشروعها، لتبدأ ميرسييه مرحلة جديدة من حياتها.
بدأت تقابل زبوناتها في المحلات لتعليمهن كيفية استعمال مستحضراتها للحصول على مظهر مشرق ونضر وطبيعي. كانت هذه الفترة جد ممتعة لأن هذه اللقاءات المباشرة شجعتها على الاستمرار والتطوير وعلى تسويق المظهر الطبيعي الذي آمنت به منذ بدايتها. لم تكن مقابلة الزبونات في المحلات بدافع تجاري بقدر ما كانت لإعطاء فرصة لهن للاستفادة من كل مستحضر إلى أقصى حد «فهذه المستحضرات لا تكتسب حياة وروحا إلا عندما تلامس البشرة وتتجانس معها». الآن وصلت لورا ميرسييه مرحلة تشعر فيها بأنها يمكن أن تسلم المشعل للعاملين معها على أن تتولى مهمة الإشراف من بعيد. حان الوقت لكي تقطف ثمار ما زرعته على مدى عقود. لا تنوي التقاعد، لأنها لا تزال صغيرة على ذلك، لكنها تحلم بالعودة إلى مسقط رأسها بالبروفانس لتمارس هواية الرسم وتساهم في جمعيات خيرية، أهمها منظمة لورا ميرسييه لسرطان الرحم. فالهدف من الألوان كان ولا يزال بالنسبة لها لزرع البسمة في الوجوه وليس لإخفائها تحت أقنعة مُبهرجة.