كانت الأحلام الكبرى كلها أمامنا... أمام البشرية التي دخلت منعطفاً حاسماً بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن هناك بديل عن الحلم. وهو حلم بالحب والسعادة على هذه الأرض الفانية، والمساواة والعدالة لمعذبيها وضحايا طغاتها وجلاديها. وهج، وعنفوان، وانتفاضات وثورات، ودماء كالأنهار، وسجون تكفي أسماؤها لردع المشاغبين، ومشانق تنصب، وثكلى وأيتام في كل مكان، ومع ذلك، بقي الحلم متوهجاً، براقاً، ملوّناً. لم تنجح كل بلايا العالم في اغتياله. كان ينعكس على وجوهنا تيهاً ونوراً، ويرفع أعناقنا فتستطيل حتى تعانق السماء، ويغور في أعماقنا فيغسلها من درء اليأس، الذي يتغلل فينا بين حين وحين. حلم لم يهدأ، بل يمضي قدماً باتجاه النهايات التي لا تبين في الطريق، بل مرسومة في الرؤوس، المشرئبة دائماً. كان مشكاتنا التي تضيء. وكنا نمضي سريعاً في الطريق، نتطلع دائماً إلى أمام، لأن هناك شيئاً في الأمام.
وفجأة، كأننا كنا على غفلة، لاهين بأحلامنا، اكتشفنا أن الأمر لم يعد كذلك، وأن هناك خطأ ما، لم نزل لحد الآن نجهل كنهه. فجأة لم تعد هناك نهايات نمضي باتجاهها. لم تعد هناك مشكاة تضيء. كل شيء يمشي على سطح صفيح بارد. أين مضى الحلم الذي لا تسعه الأرض، المتوهج حتى في سراديب الليل؟ وكيف انطفأ؟ وانطفأت معه الإشراقات الكبرى التي أضاءت التاريخ، وحركته، ورفعته على عُمد من نار ونور.
أين اختفت الآمال الكبرى، والمعارك الكبرى؟
تبدو الطريق الآن وكأن نهاياتها قد استبدلت ببداياتها في عملية خداع ماهرة. يبدو وكأن شيئاً، شرقاً وغرباً، قد تسطح مع الأرض. بل كل الأرض تبدو وكأنها قد فقدت ملحها. كل شيء يبدو باهتاً الآن.
لا طعم على ألسنتنا. لا نزال على الطريق ندب حسب قوانين الطبيعة ذاتها، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل لإنسان. لا نزال هنا، لكننا لم نعد هناك... في مملكة الأحلام العظيمة. لا نزال هنا، حالنا حال الأشياء، التي قد تحركها بين حين وحين عاصفة ما، ثم يرجعها إلى مكانها الأبدي قانون وجودها الطبيعي. لا نزال نتناسل، وتمتلئ بنا المعمورة، لكننا لا نملك شيئاً نشحن به خيال الذين يأتون. ماذا سنقول لهم؟ ما عدنا نملك أحلاماً لنعديكم بها، بل آمالاً مع وقف التنفيذ. ومع ذلك، لتنخدعوا طويلاً. لا نعرف بعد. لم نعد نعرف. كأن الأشياء تتداعى. كأن ييتس كتب قصيدته العظيمة «المجيء الثاني» يوم أمس فقط، وليس قبل نحو قرن، عن عالم تجتاحه قوة اضطراب جديدة، فتسود الفوضى في كل مكان، وتتداعى الأشياء، ويهتز المركز، ويرتفع مد مغموس بالدم. مشهد كابوسي: الصقر يدور ويدور، ولا يسمع حتى صوت مروضه. لا يزال الصقر يدور، وكأنه لم يتعب من الدوران:
النسر يدور ويدور في حلقة آخذة بالاتساع،
لا يستطيع أن يسمع مروضه،
الأشياء تتداعى، المركز لا يصمد،
الفوضى سائبة في العالم،
المد المغموس بالدم سائب، وفي كل مكان
تغرق طقوس البراءة.
أين اختفت أحلامنا الكبرى؟
أين اختفت أحلامنا الكبرى؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة