خريف بيروت مسرحي بامتياز، وإضافة إلى العروض الجديدة والجميلة التي تغزو مسارح العاصمة وكذلك بعض المناطق، أخرج رائد فن الإيماء فائق حميصي من جعبته «مشوار 45» سنة قضاها على الخشبات، مبدعاً ظريفاً، طريفاً، متواصلاً مع جمهوره من دون كلام، ممثلاً بليغاً مقتصداً في الحركة قدر الممكن.
وعلى «مسرح الرابطة الثقافية» في طرابلس، وضمن «أيام طرابلس الثقافية» التي ينظمها «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» وعلى مدى أكثر من ساعة ونصف، استرجع حميصي بصحبة رفيقي الدرب الممثلين عايدة صبرا، وزكي محفوض، مقاطع من أعمالٍ تعود إلى الفترة ما بين 1972 إلى اليوم، كانوا قد قدموها معاً. فرصة لأولئك الذين لم يعاصروا تلك الفترة ليستعيدوا ما خبأه صندوق فرجة المسرح اللبناني من كنوز، وقليل من النوستاليجا اللذيذة لمن كانوا قد استمتعوا بهذه العروض كاملة، في حينه.
بدأ فائق حميصي منفرداً، باسكتش هزلي لوالد يعتني بطفله، ويعاني ما يواجه رجلاً مرتبكاً وهو يهتم برضيعه في غياب امرأته. ستارة سوداء صغيرة في منتصف المسرح شكلت خلفية صغيرة، تمكن أمامها المؤدون من إخراج مواهبهم التي قليلا ما نكتشفها في أعمالهم الناطقة. عيادة صبرا أبدعت وهي تستخرج موهبتها في رقص الباليه، الفن الذي تعلمته صغيرة، ونسي جمهورها في غمار متابعتها في أعمالها المسرحية المتلاحقة، وفي تقمصها لدور الست نجاح الذي أثار إعجاباً كبيراً، وتحولت من خلاله في التلفزيون والمسرح ومن ثم اليوتيوب إلى نجمة في النقد الاجتماعي.
هذه المرة الست نجاح التزمت الصمت، نبشت ثياب الرقص، وقفت على رؤوس أصابعها وأدت منفردة، ومع زوجها الممثل الظريف والموهوب زكي محفوض، وأيضاً كان ثمة مشاهد للثلاثي معاً. أدت عايدة صبرا أيضاً دور عارضة «مانوكان» في واجهة العرض. يغرم بها صاحب الدكان فيراقصها تارة ويلاطفها تارة أخرى، مرة تبدو متجمدة كلوح، واقفة كرمح، ومرة أخرى، تدب فيها الحياة، ويمارسان رقصاً مشتركاً ويقومان بخطوات ثنائية مرحة. تتالت الاسكيتشات من أعمال، «في غرام الدنيا»، «رافع الأثقال»، «فستان السهرة»، «مايسترو»، «تدريب عسكري في غير محله»، «فيلم عربي قديم»، وغيرها من أعمال مرّت. كان صوت فائق حميصي من وراء الستارة، يذكّر الحضور، في كل مرة، باسم العمل الذي سيرون منه مقطعاً، وحين جاء دور «تقاسيم» قال: «لا تحاولوا أن تفهموا ما الذي نفعله، لأنّنا أنفسا لا نعرف». هذه المصارحة الفنية، لم تمنع الجمهور من الاستمتاع بهذه المشاهد التي جمعت الثلاثي في أداء مشترك غايته إمتاع المتفرج بانسجامية حركية لا تعني بالضرورة معنى محدداً، بقدر ما تلفت النظر إلى جمالية الحركة الجسدية الانسجامية حين تتناغم بين مؤدين موهوبين على المسرح.
ربما كانت الاسكتشات الأكثر طرافة في هذا العرض المفاجأة - لأنّه يأتي من أزمنة ذهبية ويحمل ذكريات عفية - هي التي يختفي فيها المؤدون وراء الستارة ولا يرى المتفرج منهم سوى أكفهم. بأربع أيدٍ أو ست، أو ثمانٍ، نرى حيناً مشهداً طريفاً لفم تعبث به يد طبيب الأسنان، أو لحظة استيقاظ صباحية لشخصين، على صوت صياح الديك. وتقول عايدة صبرا معلقة. الأداء الإيمائي بالأكف، من دون بقية الجسد، معروف في العالم، لكن عادة ما تغطى الأيدي بالجوارب أو بقماشة بيضاء، لكنّ ترك الأكف عارية هذا هو الجديد الذي عملنا عليه في لبنان، وتفردنا به، وهذا ليس شائعاً أبداً.
أطل زكي محفوض في اسكتش «حلاقة على الناشف»، واسكتشات أخرى، وفائق حميصي «رافع الأثقال» بكل ما تتطلبه هذه الحركات من شد وتعابير قاسية في الوجه، وإبراز لعضلات الجسد. وتتابعت المشاهد الإيمائية مع موسيقى، أو وسط صمت لا تعكره حتى أنفاس الحضور، في إعادة استكشاف لأحد أشد الفنون المسرحية بلاغة وأكثرها تقشفاً.
فائق حميصي الخارج من مدينة طرابلس الذي استلهم أوّل ما استلهم شوارعها وأحياءها، قال: «من هنا بدأنا وإلى هنا نعود». زكي محفوض هو الآخر ابن المدينة.
وذكّر في بدء العرض رئيس «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» صفوح منجد أنّ «بدايات الفنان حميصي في التمثيل، كانت على المسارح المحلية في طرابلس إلى جانب الفرق التمثيلية لا سيما فرقة الفنان عبد الله الحمصي (أسعد) والفنان صلاح تيزاني (أبو سليم)، ثم كان انتقاله إلى ابتداع شخصية فنية مستقلة قائمة على فن الإيماء اكتسبها من خلال نظرته الثاقبة في ملاحقة أعمال المهنيين والباعة في أسواق مدينته ومحاولة تقليدهم لاحقا من خلال حركات صامتة». وقال أيضاً: «انتقل بعدها حميصي إلى العاصمة لينخرط في أعمال فنية في المسرح والسينما والتلفزيون؛ ولكنّه كان دوما يعود إلى الإيماء ويعزز شخصيته الفنية».
«مشوار 45» سنة من فن الإيماء في لبنان
عايدة صبرا تعود إلى الباليه... وحميصي ومحفوض لكل تقاسيمه
«مشوار 45» سنة من فن الإيماء في لبنان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة