ما الهدف من الإجازة؟ سؤال يراودني دائما، وكيف يختار الواحد منّا وجهته السياحية؟ وما الذي ينشده منها؟ هل يطلب الراحة والاستمتاع بالطبيعة والمكان والهواء النقي؟ أم ينشد الزحام والضوضاء وصخب المدن وهواءها الملوث؟
للسنة الثانية على التوالي قضيت إجازة ممتعة بكلّ ما فيها، ليست بالطويلة المملّة، ولا بالقصيرة الناقصة، في مكان لم أحسب من قبل أنه موجود بكل ما فيه وما يزخر به من مزايا، زرت الريف النمساوي بطبيعته الخلّابة والطقس البديع الذي يخيّل إليك أنه يستجيب لكلّ ما تتمناه ويخطر على بالك، من اعتدال المناخ إلى زخات المطر والشلالات والأنهار، وجداول المياه والجبال التي تكسوها الغابات وبدائع النباتات، تظللها السحب حيناً، وحيناً تحنو عليها فتحتضنها من منتصفها بحيث يبدو أعلاها مشمساً وأدناها ممطراً، أو كما قال النابغة الذبياني:
كالأقحوانِ غداة غبّ سمائه جفّت أعاليه وأسفله ندي
كل ذلك يحدث خلال شهر أغسطس (آب) أو (آب اللهّاب) كما يُسمّى أحياناً في البلدان الحارة.
رسمتُ برنامج الإجازة بعناية حيث سافرنا بالطائرة إلى مدينة (سالزبرغ)مع توقّف في مطار فرنكفورت بألمانيا، ومدينة سالزبرغ هي متوسطة من حيث المساحة وعدد السكان، وهي مدينة جميلة تحتضنها الطبيعة الخلّابة من كل جهاتها، وبها المطار الأقرب إلى الريف، حيث أقمنا فيها ليلتين في فندق ذي مبنى تراثي يخيل إليك أنه من مباني العصور الوسطى، وكانت ملاحظتنا الأولى هي عدم وضع عبوّات ماء للشرب في الغرف، وعندما سألنا عن ذلك اندهشنا حين ذكروا أن السبب هو أن ماء الصنبور في الغرفة هو من أعذب المياه الصالحة للشرب في العالم، بل ومن أبردها، وهكذا ودّعنا المياه المعبّأة واستمتعنا بهذه الميزة الفريدة طوال الرحلة، حيث أخذنا نعبّ من المياه كلّما رأيناها في شكل صنابير في الشوارع، أو جداول تنساب من الجبال، أو أنهار نغترف منها باليدين.
بعد ذلك انتقلنا بالقطار خلال أربع ساعات إلى مدينة (هالشتات) الأثرية بما تحمله هذه الكلمة من معنى، حيث تقع محطة الوصول على ضفة بحيرة لتجد أمامك قاربا ينقلك إلى الضفة الثانية من البحيرة حيث توجد المدينة التي تنسب إلى البحيرة في اسمها أو العكس، وتسمو على الوصف بما أحاطها الله به من جمال الطبيعة، إذ يحلو التمتع بإحدى الرحلات على متن القوارب المنتشرة في البحيرة صغيرها وكبيرها، ولفَتَنا في هذه المدينة كثرة السياح من شرق آسيا خصوصا الصينيين، وتخيلنا أن السبب قد يكون تاريخ المدينة الموغل في القدم، وأن اليونيسكو قد أدرجتها ضمن قائمة التراث العالمية.
أقمنا في هذه المدينة ثلاثة أيام، ثم ارتحلنا بالسيارة خلال ساعتين إلى محطتنا الأخيرة وهي مدينة (بادجاستين) وهي مدينة متوسّطة هادئة وادعة حالمة، يتوسطها واحد من أكبر وأشهر شلالات الريف النمساوي، يؤمّه السائحون من كلّ مكان، حيث ينحدر من الجبال الشاهقة بصوت هادرٍ تكاد لا تسمع سواه في المدينة، وقد أبهرني وشدّني هذا الشلال إلى حدّ ملازمة مشاهدته يوميّا خلال مدّة إقامتنا هناك، ويقع بجانبه مبنى عتيق جميل زينت واجهته بصور مكبرة لزوّار المدينة من المشاهير، ومن أبرز تلك الصور صورة الملك سعود رحمه الله، حين زيارته لها عام 1962م، وتشتهر هذه البلدة بخصائص فريدة من بينها تلفريك ينقلك إلى مرتفع يبلغ نحو ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر حيث أقيم جسر فريد وممرات معلقة للمشي والتقاط الصور والتنزّه في درجة حرارة تقارب التجمّد، ويتوافر في المكان مطعم ومقهى حيث يحلو الجلوس في إحدى شرفاته والاستمتاع بارتشاف مشروبك الدّافئ المفضّل.
تتوافر وسائل الانتقال في هذه المدينة وفيما بينها وبين غيرها من مختلف مقاطعات الريف من خلال القطارات التي يُعتمد عليها كثيراً في الترحال، أو من خلال السيارات، أو بواسطة حافلات النقل العام النظيفة المتطّورة التي يُضرب بها المثل في الانضباط في المواعيد، واللافت للنظر أنه لا يوجد في هذه المنطقة إشارة مرور واحدة حيث يعرف كل طريقه، ولذلك لم أشاهد فيها حادثاً مرورياً البتّة، وبمناسبة الحديث عن القطارات فقد عنّ لنا أن نلغي - عند العودة - مقطع الرحلة بالطائرة من تلك المدينة إلى فرنكفورت ونسافر بدلا من ذلك بالقطار، شجّعنا على ذلك توافر الرحلات مباشرة إلى فرنكفورت، ورغم أن الرحلة امتدّت حولي ثماني ساعات فإنها مضت في غاية الراحة، ولم نشعر أننا كنّا في سفر، فقد كانت عربات القطار فخمة ومهيّأة، والمناظر خلال الطريق كلها تبعث على المتعة والتأمّل في الطبيعة الآسرة الساحرة، واللافت أننا لم نواجه من يسألنا: من أنتم أو يطالبنا بوسيلة إثبات رغم انتقالنا من بلدٍ إلى آخر.
يوجد في أعالي المرتفعات مكان يسمى (سبورتجاستاين) لا يصله سوى السيارات، وهو مكان بديع آسر للألباب من حيث الطبيعة وارتفاع الجبال المحيطة به، وبرودة الجو، وانسياب الشلالات منها يمينا ويساراً ومن أمامك ومن خلفك حينما تقف مندهشاً من روعة المكان والتقاء الجمال والمتعة والإبداع فيه، كما تنساب الأنهار والجداول، إمّا متعانقة أو متجاورة وإما يحضن بعضها بعضاً بعد تجاوز انحداراتها الجبلية.
اللافت في هذا البلد هو طيبة سكانه، فكلّ من يقابلك في الطريق يلقي عليك التحية بأسلوبه الخاص، إمّا بالابتسام وإما بإشارة من يده، أو بنبرة هادئة من صوته، وكأنه يرحّب بك أو يدعوك للعودة.
ولن تجد من يغالي أو يبالغ في الأسعار حين يعرف أنك أجنبي، أو يحاول استغلالك أو غشّك، وبلغ من لطفهم أنك عندما تسأل أحداً، وإن كان بائعاً في محلّ مثلاً عن مكان أو عنوان أو سلعة ليست متوّفرة عنده أن يحرص على الخروج معك إلى الشارع ويصف لك ما تبحث عنه ولا يتركك حتى يتأكّد من معرفتك له.
ولم أشاهد شرطيّاً أو جنديّاً من أي مرجعيّة كانت طيلة رحلتي لا في الشوارع ولا على بوّابات المتاحف والمعارض والإدارات الحكومية ومحطّات القطار حتى المطارات (في العام الماضي كان دخولنا عن طريق مطار فيينا) لم أشاهد فيها عسكريّا واحداً.
ومن المهم الإشارة إلى أنه لا يوجد في هذه الأماكن أسواق تجارية شهيرة، ولا مدن ملاهٍ كبيرة، ومن ثمّ لا أعتقد أنها مكان مثالي لبعض الفئات كالشباب والشابّات بل هي مكان أمثل للمتقاعدين، ومتوسّطي الأعمار حيث يحلو التريّض والصعود والنزول مشياً من خلال المرتفعات والمنخفضات في جو يراوح بين مطر يتساقط ثم يتوقّف، وشمس تبدو ثم تحتجب. بقي أن أخبركم عن الطعام، فإنك تجده في كلّ مكان في المطاعم المنتشرة على شواطئ البحيرات وعلى الهضاب والتي يغلب عليها الاعتدال في السعر، ورغم أنّ لدي (عقدة) في تناول معظم الأصناف - كما تقول عائلتي - فإنني لا بدّ أن أجد ما يصلح لي خاصة من الأطعمة البحريّة، وحتى إن لم أجد ما أريد فإنني ألجأ إلى (البيتزا) التي تعدّ من الأطعمة الشائعة الطبيعيّة، بخاصّة ما كان نباتيّاً منها، وهو ما أفضّله.
الريف النمساوي... يختصر معنى السفر
طبيعة خلابة وشعب طيب وبلاد آمنة
الريف النمساوي... يختصر معنى السفر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة