الإسكندرية تمحو فيلا لورانس داريل التاريخية من الوجود

كتب فيها «رباعية الإسكندرية»... وعاش بها ملك إيطاليا فيكتور إيمانويل

TT

الإسكندرية تمحو فيلا لورانس داريل التاريخية من الوجود

بعد 10 سنوات من محاولات منع هدمها، تم أول من أمس، هدم فيلا «أمبرون» الشهيرة، التي أقام بها الأديب البريطاني لورانس داريل، وكتب فيها «رباعية الإسكندرية»، قبل 60 عاماً، التي كانت بداية لتيار ما بعد الحداثة في الأدب العالمي، وعاش بها ملك إيطاليا فيكتور إيمانويل سنوات المنفى، ومات بها، والفنانة عفت ناجي، والفنانتان الإيطاليتان إميليا أمبرون وكليا بادارو، فقد كانت شاهدة على فصل من فصول تطور الحياة الثقافية والتشكيلية في مصر.
ورغم أن الفيلا كانت مسجلة تحت رقم 1687 ضمن قائمة التراث المعماري المحظور هدمه بالإسكندرية، فقد استطاع المقاول المالك للفيلا استصدار حكم قضائي، بإخراجها من مجلد المباني التراثية وهدمها، ومحوها من الوجود. واستيقظ أهل حي محرم بك العريق على صوت معاول الهدم، وهي تمحو فيلا «أمبرون» من الوجود.
«الشرق الأوسط» كانت من أولى الصحف التي أطلقت صرخة تحذير من هدم فيلا «أمبرون» في مقال نشر بتاريخ 15 مايو (أيار) 2008 تحت عنوان «يدمرون منزل لورانس داريل لبناء برجين... والبعض يريده متحفاً»، وبالفعل تحركت عدة مبادرات للمجتمع المدني في محاولة لمنع هذه الجريمة، ومنها مبادرة «أنقذوا الإسكندرية»، إلا أن كل الجهود ذهبت سدى.
كانت فيلا «أمبرون» من أهم معالم حي محرم بك، الذي ولد فيه توفيق الحكيم وهند رستم وليلى مراد وبهيجة حافظ وأدهم وسيف وانلي، وشيدت عام 1920. وكانت ملكاً لعائلة المقاول والمعماري الإيطالي ألدو أمبرون، الذي كان مؤسس البنك الإيطالي المصري، وزوجته الفنانة التشكيلية إميليا أمبرون، وكان البرج الأثري الملحق بالمنزل من أروع وأهم ما يميز تصميمها، حيث يشبه في شكله الخارجي «برج كوم الناضورة الأثري» الذي يشبه فنار الإسكندرية القديم... وكان الكاتب الإنجليزي لورانس داريل قد استأجر الطابق العلوي من القصر، وسكنه لمدة عامين ونصف العام في الفترة من 1943 وحتى 1945، كما استأجرتها الفنانة التشكيلية عفت ناجي وزوجها سعد الخادم، وقد أوصت قبل وفاتها بتحويل الفيلا إلى متحف لأعمالها، ولكن وريثها سلم كل متعلقاتها ولوحاتها لمتحف شقيقها الفنان ناجي بالقاهرة.
وقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصور هذه الجريمة، التي تعبر عن حالة الذهول والصدمة التي يعيشها أهل المدينة، التي باتت تفقد كل معالمها الكوزموبوليتانية، التي بات ما بقي منها على حافة الهاوية.
تقول المرشدة السياحية الزهراء عادل لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف هذه الفيلا كانت مزاراً سياحياً متميزاً، يأتي إليه عشاق داريل ورباعيته، يتعرفون على المكان الذي عاش فيه، من مختلف الجنسيات... لقد صدمت أنا و(فوج) سياحي من الأساتذة بالجامعة الأميركية بالقاهرة كانوا يودون زيارة الفيلا التي ألهمت داريل كتابة (رباعية الإسكندرية)، وحينما وصلنا للمكان وجدناها عبارة عن أكوام ترابية، فكانت صدمة كبيرة لي ولهم»، مضيفة: «هذه مأساة أن يتم هدم واحد من أهم المزارات الثقافية والسياحية بالمدينة، بدم بارد، ودون تحرك أي جهة، هي كارثة بكل المقاييس. لقد كنا نسعى ونتمنى من الدولة أن تجعلها فندقاً صغيراً من نوعية (الفنادق البوتيك)، وتوضع على الخريطة السياحية، لكن للأسف لا حياة لمن تنادي».
قبل 10 سنوات، كانت مكتبة الإسكندرية ممثلة بالدكتور محمد عوض، مدير مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط (أليكس ميد) آنذاك، قد طالبت في احتفالية كبرى بمناسبة مرور 50 عاماً على صدور «رباعية الإسكندرية» بضرورة حماية الفيلا من الهدم، حيث كان الملاك الحاليون يحاولون هدمها تدريجياً باقتلاع أرضيتها الرخامية المصنوعة من الرخام الإيطالي، وتدمير حديقتها العامرة التي كانت تزهر بأندر الأشجار، لتشييد برجين سكنيين.
بكل أسى، يقول الدكتور محمد عوض، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة الإسكندرية، رئيس لجنة الحفاظ على التراث العمراني بالإسكندرية لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف لم تشفع للفيلا قيمتها المعمارية أو الأدبية، أو كونها مزاراً سياحياً أمام القاضي الذي أصدر حكماً بإخراجها من مجلد التراث»، مضيفا: «ما حدث تجنٍ صارخ على التراث الذي بات من آخر اهتمامات الدولة، فقيمة الفيلا ليست فقط كونها تتميز بطراز معماري مميز يعود لفترة الحرب العالمية الأولى، ولكن كونها شهدت كتابة رواية من أهم الروايات في التاريخ الأدبي للإنسانية، وكتب بها داريل عدداً من أروع أشعاره، وكانت تحتضن صالونات ثقافية وفنية تجمع بين فنانين أوروبيين ومصريين»، ويؤكد عوض أن «التحرك الفردي لا يكفي.
لا بد من تعديل قانون الحفاظ على المباني الأثرية حتى لا تتكرر المأساة».
كان داريل قد زار الإسكندرية في عام 1977، بعدما أقنعته قناة «BBC» بتصوير فيلم عنه عنوانه «روح المكان». ولن يكون أبلغ مما كتبه داريل نفسه في مذكراته عن هذه الزيارة، وما تركته في نفسه من شجون، وكأنه يرثي الإسكندرية، وما آلت إليه في القرن الحادي والعشرين، وكأنه يلومنا على تقصيرنا في حق عروس المتوسط، فكتب عن تلك الفيلا التي باتت سراباً: «تغير الحي الكائن به المنزل. اختفت القصور والفيلات والمساحات الخضراء والحدائق التي كانت تميز حي محرم بك، وحلت محلها كتل خرسانية قبيحة عارية من الجمال والذوق. أما المنزل، فما إن وقعت عيناي عليه حتى انعقد لساني من فرط المفاجأة. ما هذا الخراب والإهمال الذي بدا واضحاً على كل ركن من أركانه.
فالسور الخارجي صدئ، وتآكلت أعواده، وبوابته العريضة الضخمة مالت على جنبها. الجدران تصدعت، وسكن جوانب أركانها العنكبوت. الحديقة تحولت لمكان موحش مهجور. أين ذهب المنزل الساحر، الذي كان محاطاً بحديقة غناء تحوي أندر وأجمل الخمائل والأشجار؟ أين ذهبت النافورة الرخامية بديعة الصنع والتماثيل، والأعمدة الرخامية، وساعة الزهور الرخامية المنقوشة عليها الحروف اللاتينية، والمصور عليها مسار الشمس، التي كانت تعد من أندر الساعات. ثم صعدت عبر السلالم الرخامية إلى البرج الأثري، الذي كتبت فيه أروع القصائد والروايات، ثم دخلت غرفة الطعام، حيث كنت أجلس لتناول العشاء... كل شيء تبدل وتغير وذهب إلى غير رجعة... خرجت للشوارع مرة أخرى، فلم أشعر بالراحة، فالإسكندرية التي عرفتها منذ ثلاثين عاماً غير إسكندرية اليوم... فإسكندرية الماضي كانت المدينة ذات الأجناس الخمسة، واللغات الخمس، والمعتقدات الاثني عشر... أما اليوم فهي عنصر واحد... معتقد واحد هو الإسلام، كما أن تراثها المعماري الجميل الذي كان يميزها عن بقية مدن مصر، أصبح مهدداً بالفناء والضياع، فقد تم هدم معظم الفيلات ذات الطراز المعماري المتميز، وحلت محلها كتل خرسانية عارية من الذوق وفن العمارة أطلقوا عليها اسم مساكن».



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.