بعد أن أخرج جورج كلوني «رجال النُـصُـب» (The Monuments Men) سنة 2014، أراد، كما يقول لي، أن يتوقف ويفكر ملياً بماهية الفيلم التالي: «كنت أمر بمرحلة من النشاط الدائم. كنت انتهيت من ذلك الفيلم ومقبل على مرحلة شخصية خاصة هي زواجي من أمل (علم الدين) وكنت أيضاَ في حاجة إلى مراجعة اختياراتي من المشروعات الكثيرة التي كانت أمامي».
هذا ما استدعاه للتوقف عن العمل مخرجاً وقبول أدوار في أفلام من إخراج أصدقاء له، فلعب دور مبتكر عالم الغد في «تومورولاند» من إخراج براد بيرد، ثم شخصية الممثل المخطوف في «مرحى، قيصر» للأخوين كووَن، وشخصية مقدم البرنامج المالي على شاشة التلفزيون في «وحش المال» لجودي فوستر.
يعود كلوني الآن إلى الإخراج بفيلمه الجديد «سوبربيكون» الذي افتتح في مهرجان ڤينيسيا (حيث تم الشطر الأول من اللقاء) وعرض في مهرجان تورونتو قبل أيام. يختار النجم عودة ذات صدى في فيلم بموضوع مزدوج: زوج يتخلص من زوجته ليرث تأمينها لتخلو له شقيقتها (التي تعلم ما فعل)، وعائلة أفرو - أميركية تنتقل للعيش في هذه البلدة الصغيرة المشمسة التي اختارها سكانها (والأحداث تقع في الخمسينات) مكاناً لعيش نظيف، مريح، مشمس و... من دون أفرو - أميركيين.
وعلى نحو متواز، يقدم كلوني خطي الأحداث كما لو كان يتعامل مع موضوعين مختلفين، لكنهما في الواقع موضوع واحد متصل، محدد بحكاية تشويق عائلية والآخر محدد بإطار اجتماعي واسع.
الموضوع الذي يحيط بجنوح الزوج (يقوم بدوره مات دامون) الإجرامي ليستأجر رجلين بلا قيم اجتماعية للقيام بالجريمة، هو من كتابة الأخوين كووَن قبل سنوات عدة. عندما قاما بإخراج «فارغو» سنة 1996 الذي احتوى أيضاَ على مؤامرة زوج للتخلص من زوجته باستقدام قتلة، ركنا هذا المشروع جانبا إلى أن قام كلوني بشراء حقوقه، مضيفاً إلى السيناريو الذي قام بكتابته مع شريكه في الإنتاج غرانت هسلوڤ الموضوع الاجتماعي الذي يصب مباشرة في رحى ما يحدث اليوم من هزات عنصرية وشغب عرقي في الولايات المتحدة، معيداً الموضوع الذي تسبب في قيام الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر إلى الطرح.
«الشرق الأوسط» التقت النجم على مرحلتين من خلال مهرجاني ڤينيسيا وتورونتو، وكان هذا الحوار:
> كيف وجدت الإقبال على الفيلم في مهرجان ڤينيسيا بالمقارنة مع الإقبال عليه في «تورونتو»؟
- وجدته جيداً، لكن الاختلاف كبير بين المهرجانين؛ وذلك بسبب أن كل مهرجان ينطلق من ثقافة مختلفة عن الآخر. «ڤينيسيا» يحاول أن يكون المهرجان الفني الذي تلتقي فيه كل الثقافات، وهو بالفعل ذلك؛ فهو ينتمي إلى التقاليد التي تم تأسيسها في أوروبا وحتى في أميركا. لكن «تورونتو» يتعامل أساساً مع الجانب الإعلامي ومع السينما كصناعة. الاختلاف يشمل سبب وجود كل منهما على صفحة المهرجانات الدولية.
> تحدثنا قبل المقابلة عن أين يبدأ وأين ينتهي دور السيناريو الأصلي الذي وضعه كل من جووَل وإيتان كووَن. لكن هل حاولت في «سوبربيكون» استعارة كوميديتهما الساخرة التي عادة ما تصاحب أفلامهما؟
- لا. لكني حافظت على تلك الموجودة في السيناريو. المسألة برمتها هي مسألة ساخرة وسوداوية.
> تقصد مسألة قيام رجل يعيش حياة رغيدة بتدبير مقتل زوجته ليرثها وليخلو له المجال مع شقيقتها؟
- نعم. حاولت ألا أتعامل مباشرة مع الجانب الساخر لتلك الحكاية، بل أتركها كما هي. المشاهد يستطيع التعامل مع الحدث المتوالي أمامه بالطريقة التلقائية المناسبة والطبيعية. الأخوان كووَن رائعان فيما يقومان به، وهما ماهران في عملهما وفي رسم ملامحه واستخراج مكامن السخرية فيما يتعرضان له. نعم هناك، في رأيي، سخرية في «سوبوربيكون»، لكنها منتمية إلى غرابة الوضع الماثل.
> ماذا عن الاستعانة بمات دامون ليلعب دور الزوج المتآمر الذي تسبب بمقتل زوجته ثم ارتكب بنفسه جرائم أخرى؟ هو أيضاَ شخصية نموذجية في أفلام كووَن؟
- هذا مستورد من أسلوبهما. هل تذكر «يا أخ أين أنت؟» (O Brother Where Art Thou?). مثلت فيه دور شخصية تحمل مفهوماً كلاسيكياً في وضع مختلف لم يعتد عليه الجمهور. هذا ليس جورج كلوني كما عرفناه. هذا حاولته أيضاً مع مات دامون في هذا الفيلم. هو في مـعظم أفلامه الممثل الذي تعرفه على نحو معين. هنا هو على نحو مختلف.
> هل هذا هو السبب الذي من أجله اخترته للدور، أم أنك تحب العمل مع أصدقائك ومات دامون من بينهم؟
- هو طبعاً من بين أصدقائي من الممثلين. لكنه في الأساس ممثل متنوع بامتياز شديد. يقوم ببطولة السلسلة الناجحة «جاسون بورن» بقدرة فذة، كما يمثل شخصية إنسان ساذج بالقدرة نفسها. من الصعب أن تجد ممثلاً يَـضرب في فيلم ويُـضرب في فيلم آخر بالمصداقية ذاتها.
> ماذا عن جوليان مور؟
- جوليان مور كانت مثالاً للمرح وسهولة القيادة. تعرف كل شيء. لا تحتاج معها إلى أن تشرح الدور وما تريده منها تحديداً. تعرف ذلك وتتجه إلى تنفيذ ما تريد. حدد اتجاهك واتركها للتنفيذ.
غداء على الواقف
> طبعاً الجانب المهم الآخر من الفيلم هو رسالته المناوئة للعنصرية، وأعتقد أن توقيتها مناسب جداً؟
- لم يكن هذا التوقيت في البال مطلقاً. حدثت وقائع شرلوتسڤيل بعد أن صوّرنا الفيلم، لكن هناك وقائع وأحداثا عنصرية سبقت شرلوتسڤيل؛ لأن الوضع ماثل منذ عقود.
> هل بدأت التفكير في الموضوع العنصري باكراً؟ في أي مرحلة من مراحل حياتك؟
- كنت في السابعة من العمر عندما تم اغتيال مارتن لوثر كينغ، وبعد ذلك روبرت كندي. كنت ملماً بذلك. نشأتي العائلية لم تكن لتسمح أن لا أكون ملماً. بعد اغتيال روبرت كندي الذي وقع بعد 24 يوما من اغتيال كينغ، جمعت ألعاب السلاح التي كانت عندي وأعطيتها لوالدي (المذيع التلفزيوني نك كلوني، 83 سنة حالياً) وهو أخذها إلى برنامجه وقال: «ابني أعطاني ألعابه هذه. لا يريدها».
> كان ذلك موقفاً منك ومن والدك ضد العنف.
- طبعاً. كثير من الأميركيين كانوا يعتقدون أن العنصرية انتهت مع نهاية الحرب الأهلية وتحرير العبيد. لكن أفقنا على أن نارها ما زالت متأججة. وهي حالة تقع من حين إلى آخر لتكشف أننا ما زلنا كأميركيين نعاني منها إلى اليوم.
> موقفك من الحياة السياسية والاجتماعية اتضح منذ فيلمك «تصبحون على خير وحظاً سعيداً» (Good Night، and Good Luck 9)، وفي كل أفلامك الأخرى التي أخرجتها لديك هذا التعليق على زمن مضى كان يمكن له أن ينجز حاضراً أفضل.
- هذا صحيح تماماً. هذا منشأه أنني من الذين اعتقدوا، أننا كأميركيين نمضي قُـدُما وأن الأحداث العنصرية أو أي سواها ما هي إلا عثرات. الحياة من بعدها ستستقيم.
> ربما لأجل التخفيف من ثقل هذا الحديث...
- نعم...
• نتحدث عن جانب آخر من حياتك... إيطاليا مثلاً. قرأت لك أكثر من مرّة إعجابك بإيطاليا وكيف تمضي فيها وقتاً طويلاً حتى من قبل الزواج من السيدة أمل... ما الذي يجذبك إلى هناك؟
- كانت نكتتي الدائمة هي أن الإيطاليين يفعلون كل شيء أفضل منا نحن الأميركيين باستثناء الحكم. الآن لم أعد أستطيع استثناء الحكم (يضحك). عندما اشتريت منزلي قرب (بحيرة) كومو، فكرت بالأمر على نحو اقتصادي. اشتريه اليوم وأبيعه في الغد وأربح منه. لكني لاحـظت شيئاً غريباً أو كان غريباً بالنسبة لي: عمال البناء يأخذون الوقت كل ساعة ظهر. يفرشون الطعام الذي هو عادة رغيف خبز وكأس نبيذ ويمضون الساعة في راحة وسعادة. قلت في بالي هؤلاء يعيشون أفضل مني. لخمس وعشرين سنة وأنا أتناول وجبة الغذاء واقفاً. هناك أدركت أن هناك معنى أفضل للحياة من تلك التي نعيشها هنا.
> لا أعرفك قبل 25 سنة، لكني ألاحظ أنك دائم الابتسامة. في كل مقابلاتنا السابقة لم تصل مرّة واحدة متجهماً...
- ولماذا أتجهم؟ ما هو الداعي؟ اسمع. في كل صباح استيقظ متفائلاً، وهذا تعلمته أيضاً من الإيطاليين. لا أستيقظ وأقول إن علي الذهاب إلى العمل في هذا الجو البارد. أعتبر اليوم مغامرة أخرى أنا مقبل عليها في حياتي. أنا أعيش مثل الزينة على سطح الكيك (Like icing on the Cake). لم يكن مفترضاً بي أن أكون في هذا الموقع الذي أعيشه الآن. لقد عملت من صغري. عملت بائع تأمين جوال من بيت إلى بيت. عملت في قسم السيدات في محل لبيع الأحذية. عملت في قطع السجائر بثلاث دولارات و33 سنتاً في الساعة. لم لا أكون سعيداً اليوم؟
حال قد يحدث مع الجميع
> بالطبع، إذن أنت سعيد بحياتك الزوجية. لا داعي للتخمين هنا...
- هذه الحياة توفر الاستقرار. لا أعرف ما هو السن المناسب للاستقرار، وأظن أن لكل منا ظروفه ورأيه الخاص في ذلك. لكني نعم سعيد، وعندي ولدان أشعر حيالهما بالمسؤولية، وهذا شيء رائع.
> هل تفتقد شيئاً الآن كان متاحاً لك قبل الزواج؟
- لا أعتقد. لكني أفتقد أشياء أخرى حدثت لي بعد أن أصبحت ممثلاً معروفاً. مثلاً أحب أن أمشي في «سنترال بارك» في نيويورك مع زوجتي وأولادي، لكن ذلك لم يعد ممكناً. في بداية عملي كانت الأولوية إيجاد العمل والمال. الآن الأولوية هي للحياة الخصوصية.
> الحديث في هذه الشؤون هو اغتراب بالنسبة لي؛ ولذا أعود إلى الأفلام (يضحك). في «سوبربيكون» نجد تلك البلدة النموذجية أو التي يبدأ الفيلم بها كما لو كانت نموذجية، وفجأة هناك عداء عنصري كبير ضد عائلة سوداء؛ لأنها جرأت على الانتقال للعيش هناك. كيف واتتك هذه الفكرة؟ هذه لم تكن في سيناريو كووَن على ما أعتقد.
- لا. لم تكن. قبل كل شيء هذا الفيلم لم يُـكتب ليتحدث عن عنصرية محددة. الذي حدث هو أنني، وقت كتابة السيناريو، كنت أسمع أنباء عن عزل المكسيكيين والمسلمين. بناء حاجز على طول الحدود مع المكسيك وتحميل المسلمين مسؤولية ما يقع من أعمال إرهابية. ثم شاهدت فيلما تسجيلياً عنوانه «أزمة في ليڤيتاون» حيث تم تسييج منزل لعائلة أفرو – أميركية، ووضعوا أعلام الولايات الفيدرالية عليها. ما تشاهده في الفيلم حدث بالفعل. لكن العائلة السوداء في الفيلم لا تمثل السود الأميركيين فقط، بل تمثل كل الأقليات. قد تكون عائلة مسلمة أو آسيوية أو سوداء. ما يحدث في فيلمي قد يقع مع عائلة مسلمة أو مع أي أقلية أخرى.
> هذا يقع في الحادي والعشرين..
- عندما تسمع ترمب يتحدث عن أننا سنجعل أميركا أمة عـظيمة مرّة أخرى، هو لا يتحدث عن أميركا السبعينات، بل عن أميركا الخمسينات. عن فترة أيزنهاور وليس عن فترة نيكسون أو فترة ريغان. إنه يتحدث عن الفترة التي اعتقد الأميركيون أنهم يعيشون حياة جيدة وبسيطة. لذلك؛ تدور الأحداث هنا في تلك الفترة لأني أريد أن أوضح أننا ما زلنا نتوهم أننا بخير وسعداء.
> انتهيت مؤخراً من فيلم Ocean›s Eight الذي تقوم بإنتاجه أيضاَ. هل يختلف عن الأجزاء السابقة كثيراً؟
- لفكرة ما زالت واحدة باستثناء أن المخرج (غاري روس) يختلف والممثلين ليسوا الطاقم نفسه.
> هل لك دور في هذا الفيلم؟
- لا. لا أنا ولا أي من الفريق السابق. إلى حد بعيد هذه بداية جديدة.1 George Clooney جورج كلوني