المعنويات المرتفعة لسكان القرى الحدودية مع سوريا، دفعت اليان ملحم (72 عاماً)، لسؤال ضابط في الجيش اللبناني عما إذا كان مسموحاً له بالمشاركة في المعركة ضد «داعش». حاول إقناعهم بأنه عسكري متقاعد في الجيش، وكان موكلاً مهام تذخير المدافع أثناء خدمته. لكن الجواب جاءه بالاعتذار؛ إذ أبلغه الضابط المسؤول، بعد أن شكره، أن الجيش «لا يحتاج إلى مقاتلين».
دفع الجيش اللبناني بآلاف المقاتلين إلى خطوط المواجهة مع «داعش» في شمال شرقي لبنان. وتحولت بلدات الفاكهة، ورأس بعلبك والقاع، إلى ثكنة عسكرية كبيرة. نصف دقيقة هي المدة الفاصلة بين مرور آلية عسكرية وأخرى من البلدة إلى الجرود وبالعكس، بينما يحمل العسكريون أعتدتهم أثناء توجههم إلى الخطوط الأمامية التي تبعد خمسة كيلومترات عن بلدة رأس بعلبك. وعلى الخط السريع بين بعلبك والقاع، تعبر آليات عسكرية، وشاحنات نقل تنزل الدبابات المعدة للتوغل في الجرود الحدودية.
يؤكد حجم الانتشار وكثافة الحركة، أن الجيش أنهى استعداداته العسكرية قبل ساعات من انطلاقة المعركة التي أعلنها قائد الجيش صباح أمس. صحيح أن لا حاجة إلى مقاتلين ولا متطوعين، لكن معنويات السكان، ومشاعر التأييد للجيش، دفعتهم إلى طلب المشاركة في مساعدة لوجيستية. لم يرفض الجيش هذا الطلب، فاندفع كثيرون من أبناء تلك القرى نحو الثكنات العسكرية المستحدثة، عارضين تقديم المساعدة.
يقول العنصر الكشفي في رأس بعلبك حنّا بيطار (17 عاماً): إن «السكان يرتادون الثكنة للمساعدة في تعبئة المياه للعسكريين على الجبهة، أو لتوضيب وجبات الطعام لهم. يضيف: «لأننا نريد أن نشارك في المعركة كلٌ حسب طاقته، عرضنا مساعدة لوجيستية، وهو أقل ما يمكن أن نقدمه للجيش الذي يخوض معركة تحريرنا من الإرهابيين».
يتحدث أبناء البلدة عن أن 3 مجموعات من نساء البلدة والعناصر الكشفية، يبلغ تعداد كل واحدة 60 شخصاً على الأقل من النساء، يرتادون المطبخ العسكري في ثكنة رأس بعلبك للمساعدة في إعداد الطعام للعسكريين المنتشرين في الجرود، وأن هؤلاء يقدمون المساعدة اللوجيستية فقط، بينما تؤمّن قيادة الجيش المواد الأولية. وتوفر تلك المساعدة بتجهيز السندويتشات الطعام لآلاف العسكريين المنتشرين على الجبهة.
والواقع هنا، أن الجيش، تؤازره قوة من المدنيين، ليس بالتأييد والعواطف والمعنويات فحسب، بل بالمساعدة اللوجيستية التي لا تقتصر على الشباب والكهول والجمعيات النسائية والفرق الكشفية، بل وصلت إلى مشاركة راهبات من قرى القلمون في سوريا في مؤازرة نساء رأس بعلبك بمهامهن اللوجيستية. قد يكون ذلك من المفارقات البالغة في المعركة؛ إذ إن الجيش اللبناني يقاتل عناصر متطرفة معظمها قدم عبر سوريا، في المعركة، بينما يؤازره سوريون عانوا من الإرهاب، مما يؤكد أن المعاناة على الحدود اللبنانية والسورية واحدة، وتحفز الجهود المدنية المشتركة لمؤازرة محاربيه.
ويؤكد شخصان من البلدة، أن رئيسة دير مار يعقوب في قارة السورية، وصلت قبل أربعة أيام مع راهبات من الدير إلى رأس بعلبك، وعرضن تقديم المساعدة اللوجيستية والخدمات الطبية.
- حماسة «للتخلص من الإرهابيين»
الحماسة لخوض المعركة في رأس بعلبك، تنطلق من اعتبارين مهمين، أولهما أن عناصر متطرفة من تنظيم داعش تحكم سيطرتها على مناطق واسعة من الجرود؛ ما يمنع السكان من الاهتمام ببساتينهم وأرزاقهم والعمل في مقالع الضخر والحجر في المنطقة. أما الاعتبار الآخر، وهو الأهم، أن البلدة كانت عرضة لهجمات من التنظيم، كان أعنفها في العام 2015 حين سقط 15 عنصراً وضابطاً من الجيش اللبناني، خلال هجوم صده الجيش للتنظيم على تلة الحمراء المحاذية للبلدة، وأحبط مخططاً لاحتلال البلدة.
يقول رئيس بلدية رأس بعلبك دريد رحال، إن الأنباء عن المعركة «لم تنعكس خوفاً في البلدة»، مضيفاً: «على العكس، فقد شهد العام الحالي أكبر تواجد للسكان في الصيف. كل أبناء البلدة موجودون فيها»، مشدداً على أن الناس «تشعر بأن هناك تحدياً، ويجب رفد الجيش بالمعنويات».
ويشير رحال إلى أن القصف العنيف الذي ينفذه الجيش: «لم يدفع السكان للخوف»، فهؤلاء «قضوا ليلتهم على الشرفات حين كانت مدفعيات الجيش وراجمات الصواريخ تدك مواقع الإرهابيين»، لافتاً إلى أن الأهالي «متشوقون للتخلص من جسم غريب إرهابي يسيطر على التلال المواجهة للبلدة، خلق توتر أمني وسرق عناصره المعدات الزراعية ومعدات الآبار الارتوازية، والمعدات التي تستخدم في المقالع والكسارات، حتى بلغت خسائر أحد سكان البلدة 800 ألف دولار». ويضيف: «الناس لديهم ثقة بالجيش اللبناني؛ وهو ما دفعهم إلى طلب مؤازرة الجيش وعرضهم لتقديم مساعدات لوجيستية».
- تعزيزات مستمرة
يبلغ عدد سكان بلدة رأس بعلبك، نحو 8 آلاف نسمة من المسيحيين، ويسكنها في الشتاء نحو 5 آلاف نسمة، باتت منذ العام 2013 عرضة لهجمات عناصر متطرفة تسيطر على جرود القلمون الغربي السوري. وانتقلت السيطرة على الجرود منذ العام 2015 إلى تنظيم داعش، وشهدت البلدة أقصى هجمات إرهابية في ذلك الوقت، قبل أن يعزز الجيش اللبناني انتشاره في الجرود ويتلقى دعماً بريطانياً وأميركياً بشكل خاص، لتمكينه من صد الهجمات، وحماية أمن البلدة، وتأمينها من الهجمات الإرهابية.
ولم ينقطع الجيش، منذ تلك المرحلة، عن استهداف تحركات المتشددين في الجرود المقابلة، ونفذ عمليات قضم تدريجي للتلال المقابلة، بهدف توفير مظلة أمان للبلدة الحدودية. وبعد عملية خاضها «حزب الله» ضد عناصر تنظيم «النصرة» في جرود عرسال، الشهر الماضي، تمدد الجيش على جرود عرسال شرقاً؛ ما مكّنه من الإشراف نارياً على مواقع سيطرة «داعش»، وبدأ بالدفع بتعزيزات إضافية إلى المنطقة الحدودية بغرض الاستعداد للمعركة الحسم ضد «داعش».
ومنذ الشهر الماضي، لم تنقطع التعزيزات التي سبقت موعد إطلاق العملية، فعلى الطريق الواصل بين بعلبك والقاع، تتنقل الآليات العسكرية بشكل كثيف جداً، من بينها إنزال مدرعات جديدة للجيش وآليات ثقيلة. وفي سهل رأس بعلبك، استحدث الجيش مرابض جديدة للمدفعية، ومراكز جديدة تبدو واضحة للمارة.
وبالموازاة، تواكب سيارات الدفاع المدني والصليب الأحمر اللبناني التعزيزات العسكرية في المنطقة؛ إذ عزز الصليب الأحمر مركزه في رأس بعلبك بسيارات إضافية وبنحو 30 عنصرا إضافيا، استعدادا للمعركة. كما استحدث مركزا له في بلدة القاع، يضم 10 سيارات مجهزة لنقل الجرحى.
ورغم هذا الحشد، لا يزال السكان تواقون للمشاركة العسكرية بالمعركة. يقول اليان ملحم: «حين يطلبنا الجيش سنكون حاضرين لخوض المعركة». ويضيف: «العمر لن يمنعني من المشاركة، فأنا شاركت في أربع معارك ضد إسرائيل أثناء خدمتي في الجيش، وكنت في قسم المدفعية. الآن على استعداد للمشاركة في تذخير المدافع بالقذائف لضرب الإرهابيين. نحن وراء الجيش بالدعم والتأييد، ومستعدون لنكون إلى جانبه في المعركة حين يطلب ذلك».