بعد مسيرة من النفي والشعر والأدب... رحيل الروائي التشيكي ميلان كونديرا

صاحب «كائن لا تُحتمل خفّته» وإصدارات كثيرة شهيرة

الروائي التشيكي ميلان كونديرا (أ.ف.ب)
الروائي التشيكي ميلان كونديرا (أ.ف.ب)
TT

بعد مسيرة من النفي والشعر والأدب... رحيل الروائي التشيكي ميلان كونديرا

الروائي التشيكي ميلان كونديرا (أ.ف.ب)
الروائي التشيكي ميلان كونديرا (أ.ف.ب)

بعد مسيرة طويلة من الأزمات والفلسفة والأدب، يرحل الكاتب الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا تاركاً وراءه إرثاً من الزخم الروائي والنقدي لمحبيه حول العالم.

كان كونديرا يجعل من القارئ بطلاً إضافياً في روايته، الأمر الذي يجعلك تقرأ ما يكتبه لمرات كثيرة دون ملل، ربما لأن أفكاره ولغته الأدبية تُدخلك عالمه مع شخصيات روايته من باب البطولة، وتجعلك حاضراً في كل المشاهد كأنك تشاهد ما تقرأه بكل مهارة.

الكاتب الفرنسي التشيكي ميلان كونديرا عام 2005 (أ.ف.ب)

توفي كونديرا عن عمر يناهز 94 عاماً، أمس (الثلاثاء)، وفق ما أعلنت الناطقة باسم «مكتبة ميلان كونديرا» في مدينة برنو التشيكية، حيث وُلد، لتكون محطته الأخيرة بعد سنوات من النفي، كأنه يقول كلماته الشهيرة: «لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره إلى الأفضل ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم تعد هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة؛ ألا نأخذ العالم على محمل الجد».

وقالت أنا مرازوفا، لوكالة الصحافة الفرنسية: «للأسف، أستطيع أن أؤكّد لكم أنّ ميلان كونديرا توفّي أمس (الثلاثاء) بعد معاناة طويلة من المرض».

وُلد كونديرا عام 1929 لأبٍ وأمٍّ تشيكيين، كان والده، لودفيك كونديرا عالم موسيقى ورئيس جامعة برنو. كتب كونديرا الشعر في المرحلة الثانوية، وبعد الحرب العالمية الثانية عمل تاجراً وعازفاً على آلة الجاز قبل أن يتابع دراسته في جامعة تشارلز في براغ حيث درس علم الموسيقى والسينما والأدب وعلم الأخلاق. تخرج في 1952م وعمل بعدها أستاذاً مساعداً ثم محاضراً لمادة الأدب العالمي في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية.

كونديرا عام 1963(أ.ب)

في أثناء هذه الفترة نشر شعراً ومقالاتٍ ومسرحياتٍ والتحق بقسم التحرير في عدد من المجالات الأدبية.

التحق بالحزب الشيوعي في عام 1948، وتعرض للفصل هو والكاتب جان ترافولكا عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليهما، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970.

نشر في عام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظَ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف كونديرا ككاتب مهم إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى «غراميات مضحكة».

أدت رواية كونديرا الأولى «النكتة»، وهي عمل من الفكاهة السوداء حول دولة الحزب الواحد التي نُشرت في عام 1967، إلى حظر كتابته في تشيكوسلوفاكيا بينما جعلته أيضاً مشهوراً في وطنه.

وجُرّد كونديرا من جنسيته عام 1979 بعد 4 سنوات من مغادرته بلده للإقامة في فرنسا. كما تعرّض للملاحقة خلال حكم النّظام السّابق في تشيكوسلوفاكيا، بعد طرده الحزب الشيوعي من صفوفه، وتحول إلى الخروف الضّال في عرف مثقّفي النّظام.

عند نجاحه في بلوغ فرنسا، أقام كونديرا في الطّابق الثلاثين من برج سكني في رين، غرب البلاد، التي وصفها بـ«المدينة البشعة حقاً». وكان يُدرّس الأدب المقارن في جامعتها كأستاذ زائر. وفي عام 1979 وقع عليه الاختيار للتّدريس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، فانتقل إلى العاصمة.

كونديرا يمشي بجانب مقهى في وسط باريس عام 1975 (أ.ف.ب)

وفي السنة نفسها، جرّدته تشيكوسلوفاكيا من جنسيته، فبادر الرئيس فرنسوا ميتران، إلى منحه الجنسية الفرنسية. وفي كتاب بعنوان «الشطط والشفقة»، وصف مؤلفه بوريس ليتفينوف، أسلوب تعامل النّظام التشيكي مع كونديرا بالقول: «ليس الكاتب من أدار ظهره لموطنه، وإنّما الوطن هو من وضع الكاتب خارج القانون، وأجبره على العمل السري». بعد خروجه من بلده، تمتع كونديرا بحرّية التعبير، وصار في وسعه، لأول مرة، أن يكتب دون خشية الملاحقة أو مقص الرقيب. وكانت رواياته قد لقيت شهرة عالمية بفضل ترجماتها إلى لغات كثيرة، لا سيما «كائن لا تُحتمَل خفّته» عام 1984 التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي بطولة جولييت بينوش ودانيال دي لويس.

خلال حضوره حفلا أدبيا في باريس عام 2010 (أ.ف.ب)

وفي عام 1995 انتقل إلى الكتابة باللغة الفرنسية مباشرةً بعد تمكنه منها. وكان مما قام به مراجعته وتدقيقه كل رواياته المترجمة إلى الفرنسية من قبل. وهو أحد الأدباء القليلين الذين أعادت دار «غاليمار» الباريسية العريقة نشر كامل مؤلفاتهم، وهم على قيد الحياة، في سلسلتها الشهيرة «لا بلياد».

وفي عام 2019 ذهب سفير التشيك لدى فرنسا بيتر درولاك، ليسلّم الكاتب الكبير، شهادة جنسية وطنه الأم التي كان محروماً منها. وقال السفير في تصريح لصحيفة «لوفيغارو»، إنّ ما قام به هو «عمل رمزي مهم جداً وعودة رمزية لأكبر كاتب تشيكي باللغة التشيكية». وقدّم السفير اعتذار شعبه للكاتب الذي تعرض خلال سنوات منفاه لكثير من حملات الهجوم.

بحضور زوجته فيرا هرابانكوفا، التي لعبت دوراً في ترتيب الاجتماع، استقبل كونديرا السفير الذي أوضح أنّ الكاتب يكره الطقوس والصّور، قائلاً: «كان اللقاء بسيطاً جداً مع الكثير من الحميمية والدفء الإنساني. وكان كونديرا بمزاج معتدل، وقد تناول شهادة الجنسية مني وقال: شكراً».

برفقة زوجته في براغ في 14 أكتوبر 1973(أ.ف.ب)

وأضاف أنّ المبادرة جاءت من رئيس الوزراء أندريه بابيس، الذي سبق له أن زار كونديرا خلال وجوده في باريس لحضور مئوية الحرب العالمية الأولى. وفوجئ بابيس يومها بأنّ الكاتب الكبير صاحب رواية «المزحة» لم يستعد جنسيته التشيكية. وحسب السفير، فإنّ السبب توترٌ كان قائماً بين أوساط المسرحي والأديب التشيكي فاكلاف هافيل، وبين كونديرا، بسبب ترشيحات لجائزة «نوبل» التي لم يفز بها. واستمرت الجفوة حتى بعد وصول هافيل إلى الرئاسة.

على الرغم من حمايته الشديدة لحياته الخاصة، فقد أجرى عدداً قليلاً فقط من المقابلات وأبقى معلومات عن حياته الشخصية بعيداً عن التداول. اضطر كونديرا إلى إعادة النظر في ماضيه في عام 2008، عندما أصدر معهد جمهورية التشيك لدراسة الأنظمة الشمولية وثائق تشير إلى أنه في عام 1950، عندما كان طالباً يبلغ من العمر 21 عاماً، أخبر كونديرا الشرطة عن شخص ما في مسكنه. أُدين الرجل في النهاية بالتجسس وحُكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 22 عاماً، وفق ما ذكرت وكالة «أسوشييتد برس» للأنباء.

خلال حضوره حفلا أدبيا في باريس عام 2010 (أ.ف.ب)

دافع الباحث الذي أصدر التقرير، آدم هراديليك، عن التقرير بوصفه نتاج بحث مكثف حول كونديرا، وقال كونديرا إن التقرير كذب، وقال لوكالة الأنباء التشيكية (سي تي كيه) إنه يرقى إلى مرتبة «اغتيال كاتب».

في عيد ميلاده هذا العام، افتُتحت مكتبة مورافيا في برنو «مكتبة ميلان كونديرا» في أحد طوابقها، وعرضت جزءاً من مجموعته من نسخ المؤلف بعشرات اللغات التي تُرجمت كتبه إليها.

زائر في مكتبة ميلان كونديرا في برنو يقرأ في أبريل الماضي (أ.ف.ب)

كان يترشح كونديرا مراراً للفوز بجائزة نوبل للآداب، لكنه لم يحقق ذلك.

وقال توماس كوبيتشيك، مدير مكتبة كونديرا، للتلفزيون التشيكي العام: «ليس الأدب التشيكي فحسب، بل فقد الأدب العالمي أيضاً واحداً من أعظم الكتاب المعاصرين، وأحد أكثر الكتاب ترجمة أيضاً».

وروت زوجته فيرا كوندروفا للإذاعة التشيكية أخيراً أن فكرة فتح مكتبة راودتها في الحلم قبل خمس سنوات. ورأت في المبادرة «خطوة تنطوي على دلالات رمزية، إذ إن ميلان وُلد في برنو ويعود إليها». وأضافت: «يمكنه أن يرحل (ذات يوم)، لكنه سيبقى حياً في برنو. سيأتي الناس للقائه. المنزل الذي وُلد فيه يقع على بُعد عشر دقائق من المكتبة».

وقال رئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا، المولود أيضاً في برنو، إن كونديرا كان قادراً على «جذب أجيال كاملة من القراء عبر جميع القارات» بعمله.

وأضاف فيالة على «تويتر»: «ترك وراءه أعمالاً روائية رائعة».



وَصْف الخبز المكسيكي بـ«القبيح» يُفجّر جدلاً على وسائل التواصل

الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
TT

وَصْف الخبز المكسيكي بـ«القبيح» يُفجّر جدلاً على وسائل التواصل

الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)

أثار انتقاد صريح وجَّهه خباز بريطاني إلى الخبز المكسيكي موجة واسعة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، انتهت باعتذار علني.

ففي مقابلة ضمن بودكاست عن الطعام أُعيد تداولها عبر الإنترنت، قال الشريك المؤسِّس لمخبز «غرين راينو» في مكسيكو سيتي، وأحد الأسماء المعروفة في عالم صناعة الخبز الدولية، ريتشارد هارت، إن المكسيكيين «لا يملكون في الحقيقة ثقافة خبز تُذكر»، مضيفاً: «إنهم يصنعون السندويتشات باستخدام لفائف بيضاء قبيحة، رخيصة الثمن ومصنَّعة على نحو صناعي».

وسرعان ما انتشرت تصريحاته عبر منصات «إنستغرام»، و«تيك توك»، و«إكس»، واتهمه كثير من المكسيكيين بالاستخفاف بتراث بلادهم من الخبز التقليدي وإهانته.

وذكرت «أسوشييتد برس» أنّ ما بدأ خلافاً حول الخبز سرعان ما تحوَّل إلى نقاش وطني أوسع حول هوية الطعام، ليس فقط بشأن مَن يُعرّف التقاليد المطبخية المكسيكية، بل أيضاً حول النفوذ المتزايد للأجانب في عاصمة تشهد توتراً متصاعداً بفعل تدفُّق المغتربين الأميركيين والسياح.

وقالت دانييلا ديلغادو، وهي طالبة جامعية في مكسيكو سيتي: «لقد أساء إلى مجتمع الخبازين في المكسيك، وإلى كلّ الناس هنا الذين يحبّون الخبز، وهم تقريباً الجميع».

جدل يتجاوز الخبز إلى سؤال الهوية والذاكرة (أ.ب)

«لا تعبثوا بالبوليو»

امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بالميمات ومقاطع الفيديو الساخرة، والدفاعات الحماسية عن الخبز المكسيكي. وسارع المستخدمون إلى الإشادة بالأنواع اليومية الشائعة، من خبز «البوليو» القاسي المُستَخدم في شطائر «التورتا»، إلى خبز «الكونتشا» الشهير في المخابز الشعبية في الأحياء. وفي كثير من الأحيان، تُمثّل هذه الأطعمة البسيطة عنصراً جامعاً بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وتمسّ جوهر الهوية الثقافية للبلاد.

ورغم أنّ خبز القمح أُدخل إلى المكسيك خلال الحقبة الاستعمارية، فإن هذا الغذاء الأساسي تطوَّر ليصبح تقليداً وطنياً مميّزاً، يمزج بين التقنيات الأوروبية والأذواق والمكوّنات المحلّية. ولا تزال المخابز الصغيرة في الأحياء تُشكّل اليوم جزءاً محورياً من الحياة اليومية في المدن والبلدات، بوصفها مراكز اجتماعية بقدر ما هي مصادر للغذاء.

وأثار الحادث تساؤلات واسعة حول سبب إقدام رائد أعمال أجنبي على انتقاد علني لعنصر غذائي مُتجذّر بعمق في الحياة المكسيكية. وبالنسبة إلى كثيرين، عكست تصريحات هارت إحباطات قديمة تتعلَّق بحصول الطهاة وأصحاب المطاعم الأجانب على مكانة واهتمام يفوقان نظراءهم المحلّيين، فضلاً عن المخاوف المُرتبطة بتسارع وتيرة «التحسين الحضري» في العاصمة.

وجاء في منشور لاقى انتشاراً واسعاً عبر «إكس»: «لا تعبثوا بالبوليو».

«فرصة للتعلّم»

ومع تصاعُد الانتقادات، أصدر هارت اعتذاراً علنياً عبر «إنستغرام»، قال فيه إنّ تعليقاته صيغت بشكل سيئ، ولم تُظهر الاحترام اللائق للمكسيك وشعبها. وأقرَّ بردّ الفعل العاطفي الذي أثارته، مُعترفاً بأنه لم يتصرّف بصفته «ضيفاً».

وقال في بيانه: «ارتكبت خطأً، وأندم عليه بشدّة».

وسبق لهارت أن عمل في مخابز فاخرة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان جزءاً من مشهد الخبز الحِرفي المتنامي في مكسيكو سيتي، وهو سوق تستهدف في الغالب زبائن من الطبقتَين الوسطى والعليا، وكثيراً ما يكونون من الأجانب الباحثين عن خبز العجين المُخمّر والمعجنات الأوروبية بأسعار تفوق بكثير أسعار مخابز الأحياء الشعبية.

ولم يُسهم الاعتذار في تهدئة الجدل فوراً. ففي حين قبله بعض المستخدمين، رأى آخرون أنه لم يتطرَّق إلى القضايا الأعمق المُتعلّقة بالسلطة الثقافية، ومَن يملك حق انتقاد التقاليد المكسيكية.


حتى الدلافين تشيخ ببطء مع الأصدقاء!

الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
TT

حتى الدلافين تشيخ ببطء مع الأصدقاء!

الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)

بيَّنت دراسة علمية جديدة أنّ ذكور الدلافين قارورية الأنف التي تنسج صداقات قوية وطويلة الأمد تتقدَّم في العمر بوتيرة أبطأ، مقارنة بأقرانها الأكثر عزلة، ممّا يسلّط الضوء على الدور المحوري للروابط الاجتماعية في تحقيق شيخوخة صحية لدى الثدييات.

وتُعرف الدلافين قارورية الأنف بقدرتها على تكوين صداقات تمتد لعقود، على غرار علاقات الرفقة التي يشهدها البشر. وقد أظهرت دراسات سابقة أنّ ذكور هذا النوع تقضي وقتها معاً في اللعب، وركوب الأمواج للمتعة، والراحة جنباً إلى جنب، وتشكيل روابط اجتماعية عميقة وطويلة الأمد.

ويقتصر هذا النمط من الترابط الاجتماعي على الذكور، إذ يُعرف أنّ صداقات إناث الدلافين تتأثّر بوجود صغار متقاربين في العمر.

وقالت عالمة الأحياء البرية، ليفيا غيربر، من منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية في أستراليا: «يُذكّرني ذلك بصديقَيْن في روضة الأطفال يلازمان بعضهما بعضاً طوال سنوات الدراسة، ثم في مسيرتهما المهنية وحتى التقاعد، ويتقاسمان أفراح الحياة وتحدّياتها».

وفي الدراسة الجديدة، حلَّل الباحثون 50 عيّنة من أنسجة الجلد مأخوذة من 38 دلفيناً قاروري الأنف في «شارك باي»، أو «خليج القرش». كما قيَّم العلماء بيانات الروابط الاجتماعية بين الدلافين في الخليج، استناداً إلى سنوات طويلة من الملاحظات الميدانية.

وخلصوا إلى أّن ذكور الدلافين التي تمتلك علاقات اجتماعية قوية تتقدَّم في العمر بوتيرة أبطأ مقارنة بأقرانها التي تعيش حياة أكثر وحدة.

وقالت غيربر، المؤلّفة الرئيسية للدراسة المنشورة في مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز بيولوجي» التي نقلتها «الإندبندنت»: «كنا نعلم بأنّ الروابط الاجتماعية تساعد الحيوانات على العيش مدّة أطول، لكن هذه هي المرة الأولى التي نُظهر فيها أنها تؤثّر في عملية الشيخوخة نفسها». وأضافت: «الروابط الاجتماعية مهمّة إلى حدّ أنها تُبطئ الشيخوخة على المستوى الخليوي».

وأوضح الباحثون أنّ الدلافين الأكثر عزلة قد تضطرّ إلى الصيد بمفردها، والتنافُس على التزاوج من دون دعم، ومواجهة أسماك القرش وغيرها من المفترسات، وهي عوامل قد تُسهم في حياة مليئة بالتوتّر، على نحو يشبه ما يحدث لدى البشر.

وقالت غيربر: «وجود الأصدقاء يعني أنكم تصطادون معاً، وتحرسون ظهور بعضكم بعضاً، وتتقاسمون الأعباء».

وحتى الآن، ركّزت معظم البحوث المتعلّقة بتأثير الصداقات في الشيخوخة على العمر الزمني للحيوان منذ ولادته، أو على متوسّط عمره. وإنما الدراسة الأخيرة قدَّرت العمر البيولوجي الحقيقي للدلافين استناداً إلى مؤشرات فردية في الحمض النووي.

وأظهرت الدراسات أن ما يُعرف بـ«الساعة فوق الجينية» (Epigenetic clock) يوفّر مؤشراً أدقّ على الصحة العامة وحالة الشيخوخة لدى الحيوان. وفي دراسات سابقة، ساعدت هذه الساعات فوق الجينية في كشف كيفية تأثير عوامل مثل التلوّث، والاكتئاب، والروابط الاجتماعية الإيجابية أو السلبية في العمر البيولوجي.

وتخلُص النتائج، حسب العلماء، إلى إبراز أهمية الاستثمار في علاقات إنسانية ذات معنى، إلى جانب التغذية الصحية وممارسة الرياضة، من أجل حياة أطول وأكثر صحة.


«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
TT

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

في فيلمه «كويبُوكا، تذكَّر»، الذي شارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يعود المخرج البلجيكي–الرواندي جوناس داديِسكي إلى موطنه رواندا لا بوصفها مسرحاً لمأساة تاريخية فحسب، بل إنه فضاء حيّ يعيد طرح أسئلة الذاكرة، والهوية، والانتماء من منظور جيلٍ عاش الإبادة الجماعية من بعيد، لكنه ظل يحمل آثارها في داخله.

تدور أحداث الفيلم حول «ليا»، لاعبة كرة سلّة بلجيكية–رواندية، تواجه نهاية مسيرتها الاحترافية في أوروبا، قبل أن تتلقى دعوة غير متوقعة للانضمام إلى منتخب رواندا الوطني، والمشاركة في بطولة تُقام في كيغالي. الرحلة التي تبدو في ظاهرها رياضية بحتة، تتحول تدريجياً إلى مواجهة داخلية مع الذاكرة، والمنفى، وصمت العائلة، وهوية ممزقة بين مكانين وزمنين.

يقول داديِسكي لـ«الشرق الأوسط» إن «الدافع الأساسي لصناعة الفيلم كان رغبتي الشخصية في إعادة الاتصال برواندا، البلد الذي أنتمي إليه عبر والدي، رغم أنه وُلد ونشأ في بلجيكا»، مشيراً إلى أنه لم يُرِد العودة بصفة أنه سائح، بل من خلال مشروع يتيح له خوض تجربة إنسانية حقيقية مع الناس هناك، وهو ما تحقق عبر الفيلم، الذي أعاده مراراً إلى رواندا، وفتح أمامه علاقات، واكتشافات غيّرت نظرته إلى البلد، وإلى نفسه.

صور الفيلم بالعديد من المواقع الحقيقية داخل رواندا (الشركة المنتجة)

ويوضح أن شخصية «ليا»، بطلة الفيلم، جاءت انعكاساً جزئياً لتجربته الذاتية، فهي تنتمي إلى الجيل نفسه، وتحمل الهوية المختلطة ذاتها، وتعود إلى رواندا ليس بدافع الحنين، بل عبر مهمة محددة، وهي الانضمام إلى منتخب كرة السلة الوطني. ومع ذلك، فإن هذه العودة تفتح أسئلة مؤجلة حول العائلة، والماضي، والإبادة الجماعية.

وأكد أن الفيلم انطلق من الشخصية أولاً، لكن استحالة فصل العودة إلى رواندا عن تاريخها جعلت ذاكرة ما بعد الإبادة حاضرة بوصفها سياقاً لا يمكن تجاهله، مشيراً إلى أنه تعامل مع كرة السلة باعتبارها فقاعة تحتمي داخلها «ليا»، فالحياة الاحترافية القاسية سمحت لها بالتركيز على الحاضر، وتجنب مواجهة ماضيها. غير أن دعوة المنتخب الرواندي شكّلت أول شرخ في هذه الفقاعة، إذ سمحت لها بالعودة إلى البلد من دون أن تكون مطالبة فوراً بمواجهة أسئلتها العائلية.

ولفت إلى أن الفيلم يتعمد كسر صورة «الفيلم الرياضي الكلاسيكي»، إذ تبدأ «ليا» باعتبارها نجمة منتظرة، وقائدة للفريق، لكنها تنتهي بالتنازل عن موقعها، وإقناع المدرب بأن الفريق قادر على الفوز من دونها، في موازاة رمزية مع رواندا التي أعادت بناء نفسها بعد الإبادة.

عاد المخرج إلى رواندا عدة مرات للتحضير للفيلم (الشركة المنتجة)

وعن تجنب الميلودراما يقول داديِسكي إن «قوة الشخصية المهنية كانت عنصراً أساسياً في موازنة هشاشتها الداخلية. فالفيلم يقدّمها أولاً كلاعبة ناجحة، قبل أن يكشف تدريجياً تعقيدات ماضيها»، مؤكداً أن وعي البطلة بأنها لم تعش الإبادة بنفسها منح الشخصية تواضعاً أخلاقياً، منعها من إصدار الأحكام، وهو ما انعكس على نبرة الفيلم العامة، القائمة على الصمت، والكلمات القليلة، والانفعالات المكبوتة.

وفي تناوله للإبادة الجماعية، يوضح المخرج أنه اختار الابتعاد عن الصور المباشرة، أو الأرشيف، مفضّلاً تثبيت الفيلم في الحاضر، مشيراً إلى أن «الصمت والغياب كانا عنصرين أساسيين في السرد، قبل أن تأتي فكرة استخدام الرسوم المتحركة بوصفها وسيلة عضوية لاستعادة الذاكرة، فالبطلة لا تملك صوراً واضحة عن الماضي، بينما يحمل والدها ذكريات مؤلمة عبّر عنها عبر رسومات، وعندما تكتشف الابنة هذه الرسومات، تبدأ في إسقاط ذاكرتها المتخيلة عليها، في عملية إعادة بناء غير مكتملة، تعكس هشاشة الذاكرة، وتشوهها»، على حد تعبيره.

ويؤكد داديِسكي أن الرسوم المتحركة كانت خياراً أخلاقياً، وجمالياً، لأنها تبتعد عن إعادة تمثيل العنف، وتسمح بتجسيد الإحساس بدل الحدث، كما أنها شكّلت جسراً عاطفياً بين الأب، والابنة، وهي العلاقة التي يراها جوهر الفيلم.

وحول فكرة «العودة» إلى الوطن، يشدد على أن الفيلم لا يتعامل معها بوصفها حنيناً، لأن «ليا» لا تمتلك ذاكرة واضحة عن رواندا، فهي لا تتقن اللغة، والبلد تغيّر جذرياً، حتى ملاعب كرة السلة أصبحت أكثر تطوراً مما عرفته في أوروبا، لافتاً إلى أن وجودها في رواندا لاعبة، لا سائحة، منح السرد ديناميكية، وحوّل العودة إلى رحلة اكتشاف وبحث، لا استرجاع للماضي.

قدم الفيلم صورة عن واقع رواندا اليوم بنظرة جيل عاش خارجها (الشركة المنتجة)

ويرى المخرج أن البطلة تمثل جيلاً كاملاً من أبناء الشتات الرواندي، الذين غادروا البلاد خلال الإبادة، ونظروا إلى وطنهم لسنوات طويلة من خلال مأساة واحدة، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الشخصية تتجاوز خصوصيتها، لتعبّر عن تجربة إنسانية أوسع، تشمل كل من عاش انكسار الهوية بسبب الحرب، أو المنفى، أو التبني القسري.

وعن التناقض بين ماضي رواندا الجريح وحاضرها النابض، يقول داديِسكي إن هذه المفارقة كانت من أقوى الصدمات التي عاشها شخصياً عند زيارته الأولى للبلد، بعدما اكتشف عاصمة حديثة، وطبيعة خلابة، وحياة يومية مليئة بالطاقة، لافتاً إلى أنه أراد نقل هذه الصورة إلى الفيلم، من دون إنكار الماضي، عبر لغة بصرية ملوّنة، وحيوية، تقابلها معالجة متقشفة وصامتة لأماكن الذاكرة، وقال إن «الفيلم يعكس قناعتي بأن الجيل الذي كان طفلاً وقت الإبادة يمتلك اليوم مسافة كافية تسمح له بمساعدة جيل الآباء على تفكيك صدماتهم».

وفي ختام حديثه، يشير داديِسكي إلى أن اسم الفيلم لا يعني التذكّر بوصفه عودة جامدة إلى الماضي، بل باعتبار أنه تفاعل حيّ بين الماضي والحاضر، معرباً عن أمله في أن يخرج المشاهد من الفيلم برغبة في مواجهة عقده الخاصة قبل فوات الأوان، وبإيمان حقيقي بإمكانية إعادة البناء، سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي، حتى بعد أكثر التجارب الإنسانية قسوة.