د. سعد البازعي
في البدء كانت قصيدة «دمشق» التي عرفتني بالشاعرة السعودية هيفاء الجبري. فاجأتني القصيدة بمطلع آسر: منه دمشق ومني زهرة سقطت فليس بعد دمشق ما أقدمه أصبحت عاشقة في النهر صامتة والصمت من بردى لا ينتهي فمه «والصمت من بردى لا ينتهي فمه»، أود أن أنطلق من هذه العبارة في محاولتي استكناه التجربة الشعرية لدى هيفاء، وأحسبني بذلك أحاول استكناه الشعر نفسه، فالشعر جسد إن أمسكت بأحد أطرافه تداعت بقية الأطراف بالإبانة أو الإيحاء. رأيت في تلك العبارة معبرًا إلى اللحظة التي يعلو بها الكلام ليصير شعرًا، اللحظة التي طالما فتنت بها وحاولت التفرس في ملامحها.
استمعت، أو بالأحرى شاهدت، الشاعر السوداني الشاب محمد عبد الباري لأول مرة قبل عامين أو ثلاثة على «يوتيوب» يلقي قصيدة في منتدى خاص بالقاهرة، وأذكر دهشتي الأولى التي ما لبثت أن توارت قليلاً نتيجة لعدم الاستماع إليه أو قراءة شيء آخر له. كان ذلك حتى لقيته في الرياض وتحدثت إليه وأهداني مجموعتين له أحسبهما كل ما أصدر حتى الآن. ولم تلبث دهشتي الأولى أن عادت بعد قراءة إحدى المجموعتين بتحريض جميل من موسوعة الشعر العربي (موقع «أدب» على الإنترنت) لتقديم قراءة حول عبد الباري في أمسية شعرية بنادي جدة الأدبي.
سيرى الناظر من بعيد ما يشبه الأحجار المكومة التي تشبه الثلاث أثافي في ثقافة الصحراء. سيراها وقد برزت على تلة بجانب مجمع شركة «أرامكو» السعودية بالظهران. وسيتضح للناظر بعد اقترابه أن ما أمامه ليس سوى مبنى ضخم وعجيب البناء قصد منه أن يحمل سمات البيئة التي بني فيها، البيئة التي تعمرها الحجارة وسط الصحراء المتاخمة للخليج العربي.
عن 92 عامًا، غادرنا في التاسع من يناير (كانون الثاني) المفكر البولندي زيغمونت باومان، وإذا كنت ربطت الإشارة إليه بنظرية الحداثة السائلة، فما ذلك إلا لشهرة تلك النظرية التي طورها وعرفه الكثيرون بها، وإلا فهناك كثير مما يتصل بالمفكر الراحل غير نظريته الشهيرة. كما أن ربطي له بتلك النظرية يأتي من صلتي بها بوصفي أحد مترجمَي كتابه «هل للأخلاق فرصة في عالم استهلاكي؟»، الذي نشرت ترجمته في أبوظبي بعنوان معدل هو «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة».
عُرف عبد الله العروي مؤرخًا للمغرب العربي مثلما عرف مفكرًا معنيًا بالقضايا الحيوية الكبرى المتعلقة بتطور الفكر العربي في إشكالياته الخاصة، أي ضمن سياقه التاريخي والثقافي الخاص، وفي تفاعله مع الفكر الغربي. هذا الجانب الأخير أسفر عن عدد من الأطروحات والدراسات المبتكرة التي أثرت الفكر العربي المعاصر ومن أشهرها دراساته في مفاهيم رئيسية كالآيديولوجيا والتاريخ والحرية والدولة. ويُعدّ كتابه «الآيديولوجيا العربية المعاصرة» الصادر بالفرنسية عام 1967 ثم المترجم إلى العربية من الكتب المهمة التي تناولت وضع الثقافة العربية في النصف الأول من القرن العشرين وأوائل النصف الثاني.
يحتل المفكر الجزائري مالك بن نبي مكانة مرموقة في سياق المواجهات المعاصرة مع الرقيب في الثقافة العربية، المواجهات التي شغلت بتتبعها في مقالات سابقة في هذا المكان. ذلك أن ابن نبي المولود في قسنطينة بالجزائر عام 1905 عاش حياة تعد سجلاً متصلاً للهيمنة الاستعمارية الفرنسية التي عاشتها بلاده حتى استقلالها في مطلع ستينات القرن الماضي. وكان ذلك بالطبع سجلاً فكريًا ونضالاً ثقافيًا بعيدًا عن المقاومة العسكرية التي كانت تتأجج في الجزائر منذ أواسط الخمسينات.
مؤسسة الفكر العربي مؤسسة فريدة في الوطن العربي، فهي مؤسسة «دولية أهلية مستقلة، ليس لها ارتباط بالأنظمة أو بالتوجهات الحزبية أو الطائفية»، كما يشير موقعها على الإنترنت، لكن تفردها يأتي أيضًا من كونها تجمع بين العمل الثقافي والنشاط المالي الذي وإن لم يكن ربحيًا فإنه يربط أصحاب المال، من خلال تبرعاتهم، بمنتجي الثقافة من خلال إنتاجهم. فقد قامت المؤسسة، كما أشار صاحب فكرتها والداعي إلى تأسيسها، الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، في خطابه عام 2000 في بيروت «إلى مبادرة تضامنية بين الفكر والمال تتبنّاها مؤسّسة أهلية عربية تستهدف الإسهام في النهضة والتضامن العربيّين».
في لحظة بلغ بها الإحباط منتهاه، كما يبدو، كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف، وهو في بداية منفاه بالجزائر أواسط الستينات من القرن الماضي، مفتتحًا قصيدة بعنوان «باب سليمان»: فليسقط الشعراء، ولتسقط قصيدتك الجديدة ماذا ستكتب غير لغوك؟ أنجمًا وندى ونخلاً وحكايتين عن الضياع، وتشتم العصر المملا وتخط رمزًا في السياسة ليس يفهمه سواك... لكن تلك الفاتحة المثقلة بالإحباط لسيرة شعرية ثرية هي ما كان يمكن أن يكتبه غير شاعر عربي معاصر، ففي النص مكاشفة صادقة لأحد الهموم الكبرى في تاريخ الشعر العربي الحديث، الهموم التي هي في نهاية المطاف جزء من تاريخ الوطن العربي الحديث، تاريخه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة