د. سعد البازعي
في القرن التاسع الميلادي، توطنت الثقافة العربية لغة وعلماً وفنوناً في إسبانيا إلى حد يشبه ما وصل إليه توطن الثقافة الغربية في مجتمعات العرب والمسلمين اليوم. تنقل المستشرقة الأميركية دوروثي ميتلتزكي في كتابها «المادة العربية في إنجلترا العصور الوسطى» عن المطران ألفارو، مطران قرطبة آنذاك، قوله متأسفاً على حالة الاغتراب التي وصل إليها الشبان المسيحيون في الأندلس بتعلمهم العربية بدلاً من لغاتهم الأم: «من الذي يستطيع بين المؤمنين عندنا أن يفهم النصوص المقدسة وكتب دكاترتنا الذين كتبوا باللاتينية؟... أليس كل شباننا المسيحيين... مهتمين بكل وضوح بتعليمهم الأجنبي ومتميزين في معرفتهم بالبلاغة العربية؟
استمراراً لما سبق أن تناولته في مقالة سابقة تحت عنوان «الأندلس: جزيرة أوروبا العربية»، أتوقف هنا عند الأعمال السردية التي ألفت جسراً أوروبياً آخر مع الثقافة العربية، الأعمال التي سبق أن أشرت إليها في المقالة السابقة، وأضيف إليها هنا أعمالاً سردية معاصرة لتؤكد استمرار ذلك الجسر. مجموعة الحكايات المعروفة بـ«ديسيبلينا كليريكاليس» (قواعد كهنوتية)، قامت على مستوى مختلف بنشر الحكايات القادمة في جذورها من الاحتكاك بالموروث العربي الإسلامي.
يقول المؤرخ الإسباني أميريكو كاسترو في كتابه «إسبانيا في تاريخها»: «لو كان جبل طارق عند مدينة مارسيليا لكانت فرنسا قد عاشت أحداثاً تاريخية مختلفة». وكم هي كبيرة تلك الـ«لو»، لأنها هنا لا تفتح سوى التاريخ، تفتحه على احتمالات من الوعي المعرفي لتغيرات حضارية، بعضها تحقق والبعض الآخر ظل في ضمير الممكن. الـ«لو» التاريخية «لو» حاسمة وخطيرة في الوقت نفسه. وهي في الوقت نفسه «لو» لا بد منها لقراءة التاريخ، قد يراها البعض ملتوية وبغيضة، في حين يراها البعض الآخر غنية بمعرفة الواقع بقدر ما هي زاخرة باحتمالات لم تقع «فمن دون (لو) وما يشبهها لم يكن للعلوم أن تتطور أو للكشوفات والاختراعات أن تحدث».
افتتح هذا الأسبوع في الدمام، شرق المملكة العربية السعودية، مهرجان الأفلام السعودية، ومع افتتاحه يمر عام آخر تعود معه الأسئلة التي باتت مملة بقدر ما هي ممضة، الأسئلة التي طرحتها العام الماضي في هذا المكان والتي باتت مملة بتكرارها وممضة بأجوبتها الغائبة. ففي كل عام حين تعشب الأفلام نسأل، على طريقة السياب (حين يعشب الثرى نجوع). نسأل ويسأل من حضر ومن لم يحضر: أفلام بلا دور سينما؟ أفلام بلا صناعة سينمائية؟ أفلام بلا معاهد للسينما؟ ليجد الساخرون فرصتهم لحبك النكات، والجادون أساليبهم لتقديم الأعمال والهروب من الإجابات. ذلك أنه لا توجد إجابات شافية. هناك إشاعات، الكثير منها.
حين بدأت الدراسات المقارنة في ألمانيا وفرنسا أوائل القرن التاسع عشر كان أحد أهدافها الأساسية ربط الآداب الأوروبية بعضها ببعض بعد أن تفرقت إثر انتهاء العصور الوسطى التي رأت أوروبا موحدة أو شبه موحدة ضمن ما عرف بالعالم المسيحي (كريسيندوم Christendom) وضمن اللغة اللاتينية التي كانت لغة الكتابة الرئيسية. كان ضرورياً كما عبر أحد المقارنين الفرنسيين في ذلك الوقت إعادة لم الشمل الأوروبي على مستوى الثقافة والأدب إن تعذر ذلك على مستوى السياسة والدين.
حين اخترت أن أدرس اللغة الإنجليزية وآدابها في بداية الدراسة الجامعية، أوائل سبعينات القرن الماضي، كنت أدرك أنني أختار أحد طريقين كلاهما عزيز على نفسي. كانت اللغة العربية وآدابها هي الأثيرة والأقرب بطبيعة الحال، هي الهوية وهي الكيان الثقافي، وهي التي نشأت تلميذاً لنحوها وبلاغتها وأدبها. لكن خيار الإنجليزية كان يلمع بالمختلف، بالجديد، بعالم آخر أردت أن أتميز باقتحامه في وقت قل أبناء الوطن المتجهون إليه. ولكني كنت أواجه باستمرار السؤال الملح: لماذا لم تدرس العربية؟
العمل الروائي، شأنه شأن أي عمل أدبي، هو تدخل في الواقع كما يراه كاتب العمل. العمل محاولة لرسم صورة لذلك الواقع تعيد صياغة العلاقات بين عناصره وصولاً إلى فهم أفضل أو تذوق أجمل أو تغيير أكمل، إلى غير ذلك من دوافع الكتابة أو الإنشاء. وقد تتخذ تلك الصياغة إحدى صورتين اختزلتهما في العنوان المتسائل لهذه المقالة: رؤية أو آيديولوجيا.
كلما جمعتني الصدف أو المناسبات برجال أعمال، أو بأهل الثراء والمال، المعنيين بالأسهم وتقلبات السوق وحسابات الخسائر والأرباح، كما حدث لي مؤخرًا، بل كلما دخلت بنكًا وتحدثت إلى موظف فيه، شعرت بغربة وجودية تقريبًا؛ غربة تحمل كل إيحاءات اللامعنى، نوعًا من اليتم واللاانتماء، ليس لي شخصيًا بقدر ما هو لما تعلمت أنه ذا قيمة في هذا العالم. تخطر ببالي أعمال فنية وقصائد وروايات تبدو مثلي بلا معنى في مجالس «البزنس» واتجاهات السوق وأسعار البورصة. تعبر إلى ذاكرتي، مثل لاجئ أغلقت أمامه الحدود، فلم يجد سوى ذاكرته وطنًا، قصيدة للشاعر الإنجليزي «و. هـ.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة