إن التجربة هي أكثر العوامل الفاعلة والمؤثرة في سقوط آيديولوجيا التطرف العنيف وجاذبيتها، فبها تسقط الوعود والتأويلات الخاطئة للدين في مرآة الواقع والمجتمع والأمة. كانت التجربة الفاصل الأهم في سقوط إمارات الخوارج جميعا في القرن الثاني الهجري، وخاصة أكثرهم تشددا وغلواء في التاريخ.
تتسم بدايات دعوات وتنظيمات التطرف العنيف بالجاذبية والإغراء للمستعدين لها، من المتعصبين والمهمشين والمغرر بهم، وينشط دعاتها في طرحها خلاصا من الجور والظلم، والتزام تمامي بصحيح الدين وصلاح الدنيا، وتنشط ماكينة أدبياتهم وخطاباتهم في رفض تشويه كل نقد لهم، في التفاف واقتطاف يناقض الضبط والنسق، فإذا ضيق عليه فكرا لجأ للواقع سندا والعكس صحيح أيضا.
تبنى الأسوار الضخمة لحماية الاعتقاد الآيديولوجي العنيف من مخاطر المراجعة والتصحيح والنقد، بحصر وحكر الإفتاء في شؤون الجهاد والميدان لفقهاء الميدان، كما أعلن الظواهري وغيره في رسالته «التبرئة» التي رد فيها على ما أصدره شيخ الجهاد والقاعدة السابق وصاحب «الجامع في طلب العلم الشريف» - المرجع الأهم حتى حينه - سنة 2009، وهو حائط الصد الذي رفعته مختلف الجماعات والتنظيمات الأصولية والانغلاقية على مدار التاريخ.
ولكن مع اختبار الوقت والمعايشة والصراع الذي يحصر ويحشر العمران والاجتماع البشري فيه أبدا لدى هذه الجماعات التطيرية والتصفوية لمخالفيها، تسقطها التجربة، وتسقط معها الوعود واليوتوبيا المزعومة، كما تنفض عنها هذا السحر الجذاب للمجندين والمنتمين بل يستدرك بعض هؤلاء متأخرا سقوط قناعاتهم السابقة وتوظيفهم الخادع إعجابهم واعتقادهم أرضا، على التجنيد وتغيير العالم والانقلاب على التاريخ والزمن وتنظيمات متطرفة كانت أكثر عنفا وحضورا وتأثيرا في زمانها كذلك من الخوارج وفرقهم العشرين، وخاصة أكثرهم تطرفا كالمحكمة والأزارقة والنجدات، التي أسست أول دولها سنة 60 هجرية في الأهواز العربية، التي لم يعد بها خارجي، كما برزت فيها أسماء نساء وقائدات مرموقات كغزالة التي فر من أمامها الحجاج بن يوسف في إحدى المعارك، وكان يعاير بذلك في الشعر، ولكن كسر التاريخ صولة هؤلاء ووأد جذوة التطرف فيهم.
كما برز المتطرفون من غير الخوارج كالحشاشين الذين نجحوا في اغتيال الوزير نظام الملك السلجوقي سنة 457 هجرية والخليفتين العباسيين الراشد والمرشد وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك، وحاولوا قتله أكثر من مرة حسب بعض الروايات، وظلوا شوكة في جسد هذه الأمة حتى قضى عليهم في قلعة الموت هولاكو المغولي سنة 656 هجرية، كما قضى عليهم في الشام الظاهر بيبرس المملوكي بعد ذلك بسنوات قليلة.
وهكذا، كما كان لـ«داعش» وخلافته المزعومة جولة يخفت نجمها الآن، كان لغيره من جماعات وفرق التطرف العنيف - على مدار التاريخ - جولات سطع فيها نجمها كذلك، ثم انتهى لخفوت، وأقاموا دولا وإمارات كما أقام لكن انتهت للتلاشي والسقوط والاندثار كذلك، ولم يبق إلا بقاياها الأكثر اعتدالا هنا وهناك.
وتبدو العبرة المؤكدة أن التاريخ لا يقبل من يكفرون بقوانينه، وينقلب على من ينقلبون عليه، كما أن الدين يبقى جوهره ووسطه، ويذهب المشادون له، ولا يمكن أن تكون آيديولوجيا العنف خيارا مؤبدا فيه. لم تنجح الأصوليات عبر التاريخ في مصارعة قوانينه، ومع إرهاصات ما بعد «داعش» التي تنازع الحياة وخسارة معاقلها الرئيسية في الموصل والرقة وغيرهما، ندخل مرحلة ما بعد «داعش» التي نتوقع لها كمونا وتراجعا خطرا طويلا للإرهاب وجماعاته بعدها، لن يظهر منه إلا علامات يأسه وانتقامه من ساقطيه.
ملامح تجربة التطرف العنيف
رغم ما حاولته تجربة «داعش» في الحكم لبؤر تمكينها خلال الأعوام القليلة الماضية من تجربة الدولة واعتماد التنظيم والتقنين، في الموصل والعراق وفي سرت ودرنة وغيرها، من طبع عملات وإنشاء دواوين وتنظيمات عمومية، بل وتسويق سعادة مواطنيها والواقعين تحت حكمها في هذه المناطق المختلفة، عبر الكثير من التسجيلات المصورة، وهم يلهون على البحر أو يتسابقون في مسابقات محلية، إلا أن قسوة الفكرة ووحشيتها جعلت الترحيب بسقوطها أينما وجدت واضحا، ليس فقط لدى من تسلطت عليهم من المواطنين الأبرياء والمسالمين ولكن أيضا لدى منافسيها الآيديولوجيين والجهاديين الآخرين كـ«القاعدة» وفروعها وغيرها من الفصائل المقاتلة هنا وهناك.
عانى الجميع مع «داعش» مرارة الألم، المعارضون لها - قطعا - والمختلفون معها كلا أو جزءا، وكذلك من قاتلوها ومن سالموها، المسلمين وغير المسلمين، على السواء، وكان الاتهام بالكذب والتزوير والتوحش لها اتهاما سائرا ومتواترا يصارح به كل من عرفها وذاق تجربتها.
أصدرت مختلف تنظيمات التطرف العنيف بيانات وانتقادات نظرية في نقد تجربة وممارسات «داعش» ضدها، كما تحاربت وتقاتلت عمليا معها أو فيما بينها، وظلت صراعاتها دليلا على ضيق أفق الخلاف وسعاره فيما بين المنطلقين من نفس الأرضية الفكرية والمؤمنين بنفس الغايات والأهداف، ولم تنفع أو تشفع لوقف قتالهم يوما دعوات التوحد والتكتل التي كان يطلقها المتوسطون بينهم، بل لا شك أن الصراعات البينية بين «داعش» وغيره من تنظيمات التطرف العنيف كانت سببا رئيسيا في إضعافها مع الوقت في كل ساحة، وإضعاف منافسيها كذلك.
كذلك أثبتت وكشفت التجربة الداعشية العطب البنيوي العميق داخل التنظيم وعلاقاته، بين تكفير وقتل وخيانة وسرقة وفساد ومساوئ أخلاقية وسلوكية مختلفة تناقض ما تطرحه آيديولوجيا اليوتوبيا المزعومة من وعود بالصلاح والإصلاح، فقد أعدم التنظيم بعضا من أبرز رفقائه السابقين ربما كان أشهرهم أبو خالد السوري في مارس سنة 2013 الذي وسع شقة الخلاف بين قاعدة العراق (داعش فيما بعد) والقيادة المركزية لـ«القاعدة» ممثلة في أيمن الظواهري، كما أعدم بعضا من أبرز دعاته كأبي عمر الكويتي، واستبعد الكثيرين ممن هللوا لآيديولوجيته وشعاراته وخليفته بل كان أحدهم تركي البنعلى (أبو همام الأثري) الذي تم استبعاده في يونيو (حزيران) سنة 2016 الذي كان أول من دعا في رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» لخلافة أمير «داعش»، كما كان في نظر منظري السلفية الجهادية والقاعدة وغيرها المسؤول الأول عن الغلواء والتعصب الذي يحرق به التنظيم ويحترق في الآن نفسه.
ومن هنا نفهم لماذا لم تقبل «القاعدة» أو فروعها أو غيرها من الجماعات على إصدار أو دعوة لمساندة «داعش» في تراجعها في معاقلها، فبينما صدرت البيانات تلو البيانات تعليقا على خلافات جبهة فتح الشام - النصرة سابقا وحلفاؤها - وجبهة أحرار الشام التي اشتعلت مجددا مؤخرا للتوقف والمصالحة وصدرت البيانات بخصوص أحداث الأقصى في يوليو (تموز) الجاري بخصوص ما يجري من اعتداءات على المسلمين في المسجد الأقصى، وصدرت النداءات من كل جماعة أصولية بخصوصه وغيره، إلا أننا لم نجد أصولية أخرى ترفض سقوط تمكين «داعش».
ولكن المعاناة الأكثر بالطبع كانت من وقع تحت سيطرتها من المواطنين السلميين، وخاصة من غير المسلمين، كالأيزيديين في جبل سنجار في العراق قبل تحريرهم بعد ذلك، وسافرت مأساتهم مختلف بلدان العالم، وبعض القبائل الرافضة لتسلطها كقبائل أبو نمر والشعيطات والجبور في العراق أو في سوريا، وقبائل الترابين الذين اصطدموا بمجموعات «داعش» في سيناء، في أبريل (نيسان) الماضي من العام الجاري وغيرها من الأقليات والقبائل كذلك، وقد مثلت بعضها حاضنة سابقة لصعودها سواء في تجربة دولة العراق الإسلامية سنة 2006 التي أنتجها حلف «المطيبين» أو في صحوتها الثانية بعد استمرار سياسات التمييز الطائفي ضد القبائل والمحافظات السنية في العراق أثناء الفترة الثانية لحكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي.
فقدت «داعش» بعد التجربة حواضنها المحتملة، ولم يعد ممكنا لها تكرار ما سبق من نجاح في توظيف بعض المظلوميات الاجتماعية السابقة، بل صارت تمثل جحيما أكثر بشاعة من الواقع الذي دعت للتخلص منه، وسرقت ثوراته ومطلبياته لأجندتها وأهدافها الخاصة، فكانت عبئا أينما حلت ولم تكن حلا.
ومن أهم ملامح التجربة الداعشية بعد انهيارها أنها لم يعد لها هذا الزخم الانتحاري السابق، وأن نهايتها الحتمية هي السقوط والانتهاء، فرغم صلابة وعنف وتوحش ممارساتها، إلا أنها انتهت بهروب وألقى مقاتلوها بعناصرهم في نهر الموصل، وهرب بعضهم الآخر، واختفى قادتها ودعاتها، بل توقفت خلال الأسابيع القليلة الماضية أغلب إصداراتها ومنابرها الإعلانية، واختفى البغدادي بعد إشاعة مقتله.
أفول طويل للوعد الأصولي
نرى أن مرحلة ما بعد «داعش» ستشهد أزمة كبيرة لتنظيمات التطرف العنيف، كما شهدت مرحلة ما بعد الإخوان أزمة عنيفة لتيارات الإسلام السياسي، فالتجربة كانت فاصلا واختبارا مرا سقطت فيه وتعرت عن جوهرها الشعارات السهلة المؤثرة في آن، كما كشفت كذلك الكثير من سوءات القاموس والسلوك الانغلاقي والتفكير التآمري داخليا وخارجيا، وعلى الجماهير التي تحاول هذه التنظيمات اختطافها.
فالتجربة كانت القاضية والحاسمة التي تمهد لدخول التنظيمات الإرهابية وآيديولوجياتها سرداب النسيان أو الكمون عقودا، دون الإصرار السابق منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011 على الحكم والتحكم وعلى أدلجته وتوظيف نتائجه لصالحها فقط، سواء في ذلك تجربة التطرف العنيف أو تجربة الحركات السياسية شأن الإخوان المسلمين، ولكن يظل الرهان هو عدم توفر الظروف والسياقات السابقة التي أنتجت وتولد منها الصعود السابق، من أزمات الدولة والإدارة والتمييز وغيرها.
إن الأفول لا يعني النهاية الأبدية ولكنه يعني سقوط الهالة والجاذبية ويعني الكمون بعد غروب القوة والقدرة، وتظل النهاية لمشاريع كبيرة تحتمل التجدد هو تجدد مكافحتها فكريا وثقافيا بمنظومة شاملة تملأ كل الفجوات والفراغات التي يمكن أن تتسرب منها وتظهر في وجه العالم من جديد.