في عام 2000، كنت في السنة الثانية بكلية اﻵدب، حين عثرت - في مكتبة دار المعارف بوسط القاهرة - على نسخة وحيدة من كتاب أدونيس اﻷشهر «الثابت والمتحول»، الذي كنت طالما سمعت وقرأت عنه. كان ثمنه وقتها مائة جنيه مصري، ولم يكن معي ما يكفي لشرائه. كطالب من محافظة بني سويف في صعيد مصر، لم يكن متاحا لي أن أعود في اليوم التالي ﻷشتريه. وﻷنني لست من هواة سرقة الكتب ككثير من المثقفين، كان علي أن أجد حيلة أخرى.
اهتديت إلى إخفاء الكتاب بأجزائه خلف مجموعة كبيرة من الكتب - بعد أن كان معروضاً بشكل بارز - حتى لا يراه أحد ويشتريه.
وبالفعل ظل الكتاب ينتظرني في مخبأه حتى عدت له بعد أكثر من عشرة أيام واقتنيته. عندما قرأت الكتاب وجدت أنه يستحق المغامرة، فهو نفسه مغامرة فكرية جميلة، ويستحق ما ناله من شهرة. الكتاب، إضافة إلى كونه دراسة علمية رصينة وجادة، يحفر عميقاً في بنية التاريخ العربي، مفككاً أسطورة «التراث»، بألف ولام التعريف.
واكتشفت معه أننا لا نملك تراثاً واحداً، بل تراثات متباينة، حد التناقض والتناطح. ولا أعني تعدد مجالات التراث، من تراث شعري وآخر سياسي وثالث نقدي ورابع آيديولوجي.. وهكذا. بل أعني أن التراث الشعري، مثلاً، في حقيقته تراثات متعددة، وهكذا تراثاتنا النقدية والاجتماعية والفقهية. اكتشفت، أيضاً، مع «الثابت والمتحول» أننا نملك تاريخاً من الحجب، تاريخاً من التسييد والتهميش، تسييد تراث وتهميش آخر، وأن الثقافة السائدة اعتادت إبراز الوجه التقليدي الساكن في ماضينا، وتقديمه هو وحده بوصفه «التراث»، في مقابل إخفاء التراثات الأخرى، المتمردة، والراديكالية، والمناوئة للتراث المتسيد، وإهالة التراب عليها. بدا لي أن تاريخنا هو تاريخ من الإزاحات والإبعادات المتراكمة، وأننا، من ثم، في حاجة دائمة ﻹعادة الاعتبار لكل ما هو مطمور ومخفي، وإعادته مرة أخرى للوجود، بوصفه جزءاً أصيلاً من تراثاتنا.
«الثابت والمتحول» أثبت لي، كذلك، أن التقليد اﻷدبي، مثلاً، لا يعيش منفرداً بمعزل عن التقليد الاجتماعي والفقهي والسياسي. فالتقليد والثبات بنية عميقة تنتظم الخطابات كافة، وكذلك اﻹبداع والتجديد والتحول بنية تنتظم الحقول المعرفية كلها. فلا يمكن مثلا أن يكون اﻹنسان ثائراً وتقدمياً على المستوى الشعري أو النقدي، وتقليدياً رجعياً على المستوى الاجتماعي أو السياسي، فهو إما ابن بنية الثبات والتقليد، وإما ابن بنية التحول واﻹبداع. وفي ظني أن محاولة التوسط بين البنيتين محض تلفيق واهم وزائف.
* ناقد مصري
14:11 دقيقه
«الثابت والمتحول»... تاريخ التسييد والتهميش
https://aawsat.com/home/article/983396/%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A8%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%C2%BB-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D9%8A%D9%8A%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%B4
«الثابت والمتحول»... تاريخ التسييد والتهميش
«الثابت والمتحول»... تاريخ التسييد والتهميش
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
