قبل أربعين يوما، تسلم إيمانويل ماكرون صلاحياته الدستورية ليصبح ثامن رئيس للجمهورية الفرنسية. وبعد فورة الإعجاب التي اجتاحت المجتمع الفرنسي بهذا الشاب (39 عاما) الذي وصل إلى قصر الإليزيه في زمن قياسي، و«لبس» الثياب الرئاسية بسرعة أكبر، وأثبت حضورا مميزا في الفضاءين الأوروبي والدولي، جاء زمن الأسئلة حول فهم ماكرون للرئاسة وأسلوبه في ممارستها.
منذ التعديل الدستوري الذي أدخله الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي بموجبه يتاح لرئيس الجمهورية دعوة مجلسي النواب والشيوخ إلى الانعقاد معا في قصر فرساي وإلقاء كلمة، لم يتم العمل بهذا التعديل سوى مرتين، المرة الأولى في عهد ساركوزي، والثانية في عهد الرئيس فرنسوا هولاند، بعد العمليات الإرهابية التي ضربت باريس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، لكن ماكرون قرر بداية الأسبوع المنتهي أن يدعو المجلسين إلى الانعقاد وهو في بداية عهده؛ الأمر الذي لم يفعله أي من الرئيسين اللذين سبقاه.
وهكذا، فإن النواب والشيوخ سيجتمعون يوم الاثنين المقبل في فرساي للاستماع للرئيس الجديد، الذي لم تمط أوساطه اللثام عما سيتناوله في خطابه. لكن المنتظر أن يرسم الخطوط الكبرى لعهده خماسي السنوات في السياسات الداخلية والخارجية والإصلاحات الرئيسية التي يود إدخالها. لكن ما استحوذ على انتباه الطبقة السياسية والوسائل الإعلامية، أن ماكرون قرر استباق جلسة الثقة في مجلس النواب والخطاب ــ البرنامج الذي سيلقيه رئيس الحكومة والذي على أساسه ستطرح الثقة بالحكومة. وأجمع سياسيو المعارضة من اليمين واليسار، نواب حاليون وسابقون ومسؤولون حزبيون على اعتبار أن ماكرون سرق الأضواء من رئيس حكومته وحوله إلى «تابع»، أو في أفضل الأحوال، إلى «مساعد» بينما الدستور يعطيه الدور الرئيسي في قيادة سياسة الحكومة التي «يرسمها» رئيس الجمهورية. والخلاصة السريعة التي توصل إليها هؤلاء، هي أن ماكرون يريد «تركيز» السلطات بين يديه فيما يسمى «الممارسة العمودية» للسلطة؛ ما يعيد الأذهان إلى بدايات الجمهورية الخامسة كما فصل الجنرال ديغول مؤسساتها على مقاسه. وخلاصة الجدل، أن مجموعة من النواب والشيوخ قررت مقاطعة فرساي لكي «لا تحضر تنصيب» ماكرون. ومن هؤلاء نواب الحزب الشيوعي واليسار المتشدد والكثير من نواب يمين الوسط. بيد أن الإنصاف يحتم القول إن ماكرون لا يفاجئ الفرنسيين برغبته في التحدث إلى النواب والشيوخ؛ لأنه أتى على ذلك في جملته الانتخابية. المفاجأة أنه أراد الانطلاق بذلك مع بدء ولايته، وبالتزامن مع خطاب الحصول على الثقة في البرلمان.
قبل ثلاثة أيام، كشف ماكرون على حسابه الخاص صورته الرسمية التي ستعلق في الدوائر الحكومية كافة. وتظهره الصورة واقفا مبتسما أمام مكتبه ووراءه الشرفة التي تطل على حديقة الإليزيه. وعلى المكتب يلحظ هاتفان جوالان وكتب وساعة مكتب وملفات ووراءه العلمان الفرنسي والأوروبي. وتختلف هذه الصورة عن كافة صور رؤساء الجمهورية السابقين. وما رآه المعلقون فيها أنها تشبه صورة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؛ ما جعلهم يتذكرون أن ماكرون وضع يده اليمنى على قلبه في مناسبة رسمية عند سماعه النشيد الوطني الفرنسي، وهي عادة أميركية وليس فرنسية.
قد تكون هذه الأمور تفاصيل، لكنها تعكس بعضا من مفهوم ماكرون للمهمة المنوطة به في حكم فرنسا. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن ماكرون يريد التجديد أيضا فيما يخص دور «الفرنسية الأولى»، أي عقيلته التي يريد أن يعطيها وضعا رسميا مع مهمات محددة. وسيستدعي هذا الأمر إدخال تعديل على الدستور الذي لا يأتي على ذكرها. وخلال حملته الرئاسية كانت بريجيت ماكرون، التي تكبره بـ25 عاما، طاغية الحضور، ومنذ بداية عهده انتقلت معه للإقامة في القصر الرئاسي. وعلم أن لجنة غير رسمية عهد إليها الرئيس الفرنسي الانكباب على وضع تصور أولي لدور «السيدة الأولى» على أن يصار بعدها إلى البحث به رسميا.
منذ سنوات، وبمناسبة الاحتفالات بالعيد الوطني الفرنسي، أي عيد الثورة الفرنسية للعام 1789، دأب رئيس الجمهورية (يمينيا كان أم يساريا) على تخصيص التلفزة الفرنسية بمقابلة مطولة مباشرة عقب العرض العسكري الذي يجرى في جادة الشانزليزيه. لكن ماكرون الراغب في التميز على من سبقه، سيحجم هذا العام عن الالتزام بهذا التقليد. وهذا التغير بحد ذاته ليس صادما، بل الصادم هو التفسير الذي أعطته «مصادر» في القصر الرئاسي وقوامه أن المؤتمر الصحافي المتلفز «لا يتوافق مع طبيعة تفكير الرئيس المعقد» (معنى صعب الفهم) مضيفة أنه، في أي حال، فإن ماكرون سيتحدث إلى مجلس النواب والشيوخ مجتمعين، وبالتالي «لا حاجة» إلى المقابلة التلفزيونية.
حقيقة الأمر، أن للرئيس الجديد فهما خاصا لكيفية التعاطي مع الصحافة. فهو من جهة يعمد إلى إبقاء الصحافيين بعيدين عنه. ففي الزيارة التي قام بها مؤخرا إلى المغرب، لم تتح للصحافيين الاقتراب منه بعكس ما كان يحصل مع هولاند وساركوزي، حيث كانت كل رحلة خارجية مناسبة لـ«الدردشة» مع الرئيس من غير تكليف شرط أن يبقى ذلك كله «أوف» أي خارج التسجيل وخارج الاستشهاد. وفي العهدين السابقين، كان الوصول كذلك إلى المستشارين أمرا بالغ السهولة للاستفهام عن أمر، أو لفهم أفضل لقرار أو تدبير رئاسي. أما الآن، فإن الأوضاع تغيرت؛ ما يجعل ممارسة «مهنة المتاعب» أكثر صعوبة.
لم يكتف ماكرون بأنه، في حملته الرئاسية، تجاوز اليمين واليسار اللذين يتخبطان في انقساماتهما الداخلية، بل إنه «فجّرهما» من الداخل عندما نجح في السيطرة التامة على المجلس النيابي من خلال حصول حزبه الحديث السن (الجمهورية إلى الأمام) على الأكثرية المطلقة (308 نواب). ولو أضيف إليه نواب حليفه السياسي (الحركة الديمقراطية) لوصل العدد إلى 350 نائبا، ناهيك عن نواب اليمين ويمين الوسط الذين انشقوا عن حزب «الجمهوريون» لتشكيل مجموعة نيابية مستقلة تحت مسمى «الإيجابيون» (نحو أربعين نائبا). وهؤلاء ليسوا في المعارضة ولا في الأكثرية، وإنما يريدون التعاطي بـ«الإيجابية» مع ما يقوم به العهد. وعمليا، هم داعمون لماكرون. وبفضل الأكثرية المريحة، سيطر حزب ماكرون على رئاسة مجلس النواب وعلى رئاسة ست لجان نيابية (من أصل ثمانٍ) وعلى الجوانب الإجرائية والإدارية للمجلس؛ ما يعني هيمنته المطلقة عليه من خلال حزبه المطيع باعتبار أن الأكثرية الساحقة من النواب جديدة على المهنة وهي تدين بموقعها لرئيس الجمهورية. وقد عمد الأخير على وضع الوزير السابق والنائب الحالي ريشار فران على رأس حزبه. وفران معروف بولائه المطلق لماكرون الذي أخرجه من الوزارة بسبب فضائح مالية ارتبطت باسمه ومكلفه مهمة قيادة نواب الأكثرية المفتقرين بأغلبيتهم إلى الخبرة والممارسة.
هكذا، تبرز شيئا فشيئا إلى الوجود «جمهورية ماكرون». وحتى الآن، ما زال الرئيس الجديد يحظى بشعبية مرتفعة لدى مواطنيه، خصوصا بسبب أدائه المتميز على الصعيد الخارجي، وعزمه على أن تلعب باريس مجددا دورا فاعلا على المسرح الدولي. لكن الأمور يمكن أن تتغير مع بدء مواجهة المشاكل الداخلية المستعصية مثل زيادة الضرائب ومعالجة العجز في الميزانية وتحرير قانون العمل وكلها قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في حال غابت الدراية عن معالجتها.
«دولة ماكرون» آخذة بالظهور شيئا فشيئا
إيمانويل ماكرون رئيس فرنسي من «نوع جديد»
«دولة ماكرون» آخذة بالظهور شيئا فشيئا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة