بعدما سمع قرقعة ساقه اليمنى وهي تُكسر مساء أول من أمس الأحد؛ يحدق ياسين حرصي، وهو بريطاني من أصول صومالية وهو ممد على الفراش الأبيض، صوب بناته الثلاث وزوجته اللاتي وصلن غداة الحادثة إلى مستشفى لندن الملكي شرق العاصمة البريطانية.
أخذ حرصي وهو أحد ضحايا العملية الإرهابية التي ارتكبها عنصري ضد مصلين في منطقة فينزبري بارك شمال لندن، نفسا عميقا قبل أن يقول لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أنه حاول قتل أكبر قدر ممكن من المتحلقين حول رجل أصابه الإعياء بعد أداء صلاة التراويح».
ولم تكن لحظات الحادثة كغيرها من اللحظات التي تمر على حياة بشر. يصف ياسين ذو الـ55 عاما ذلك بالقول: «شعرت بألم شديد وأومضت الدنيا أمامي بعدما هاجمتنا شاحنة بيضاء بعد التفافنا على أحد المصلين الخارجين من التراويح وتعب قليلا»... «لا أعتقد أنه خطط لهذا العملية، ربما شاهد الجمع وهم خارجين من المسجد وقرر بشكل عشوائي، ولا نزال ننتظر ما تفضي إليه نتائج التحقيق». ويتجلى من خلال أحاديث ميدانية أن ضحايا الحادية هم أول المتسامحين والمطالبين بعدم الاعتداء على الفاعل شريطة أن يقدم إلى المحاكمة.
وحول تعرضه لأي موقف عنصري سابق، يستنكر حرصي ذلك، ويقول: لم أشهد بنفسي أي تجربة كراهية، لكنني أسمع بها في لندن. مدينتنا مليئة بالتعددية والقانون هنا يحمي الجميع، والمجتمع اللندني متماسك.
وأكد المصاب خلال حديث مع «الشرق الأوسط» بالقول: هناك الكثير من الجرحى، أحد الشبان حالته صعبة جدا ومنذ 6 ساعات كانت تجري له عملية جراحية ويبدو أنه لا تزال مستمرة حتى الآن (الخامسة ظهرا بتوقيت لندن البارحة)، هذا الشاب دهسته الشاحنة وكان تحتها، وجسده مدمر بشكل مؤلم.. كان الله في عون زوجته ووالدته فهما يبكيان منذ الصباح.
«على بعد خطوات من منزل زعيم المعارضة البريطانية جيرمي كوربين، وفي دائرته الانتخابية فينزبري بارك، وقعت الحادثة»، بهذا يصف عويس شيخ علي مؤذن المسجد وأحد أبطال الحادثة الذين لم يسمحوا للمتجمهرين الغاضبين إثر استهدافهم بالهجوم على منفذ العملية.
«لماذا فعلت ذلك.. أولم تشعر بخوف من الناس إثر حماية مجرم في مسرح جريمة؟»، سألت «الشرق الأوسط» عويس البريطاني ذو الأصول الصومالية، فقال: ما فعله قد فعله، نحن مسلمون ونلتزم بالقانون. لكن تأخر الشرطة دفعنا إلى الخوف على حياته، وعلى حياتنا نحن أيضا فالمتجمهرين كانوا ممتعضين بدرجة كبيرة جدا، الشرطة لم تأت إلا بعد أربعين دقيقة على الأقل، ولو تأخرت قليلا لا أعلم ماذا كان سيحصل. يضيف المؤذن الذي يعمل متطوعا منذ عام 2003 بالمسجد ذاته: كان الحاضرون غاية في الغضب، طلبتهم وناشدتهم أن ابقوا بعيدا عنه، ولا تؤذوه- حتى تأخذ العدالة مجراها وتجري محاكمته نتيجة ارتكابه هذا الجرم، وتابع المؤذن: لا أريد تضخيم الحادثة، لا نعلم من يقف خلف هذا الرجل ولا نلوم إلا مرتكب الحادثة حتى تتضح حقيقة الجريمة كاملة.
وفي جولة ميدانية، أغلقت الشرطة مسرح الجريمة، وزادت سخونة الحادثة وتبعاته من سخونة الطقس الذي بلغ أمس نحو 30 درجة مئوية. جاء إلى الحي كثير من الذين لهم صلات وأقارب ليطمأنوا عليهم. الكثير من الكاميرات والمراسلين توزعوا قرب مسرح الجريمة، والكل يترقب مزيدا من المعلومات التي قد تكشف الأسباب الكامنة وراء ارتكاب الحادثة.
وبالعودة إلى المستشفى الملكي، لم تعرف رقية إسماعيل زوجة المصاب ياسين حرصي بالحادثة حتى تلقت اتصالا من صديق زوجها، الذي أخبرها بأن هناك هجوما قرب المسجد الذي يصلي فيه ياسين: «وخلال لحظات شاهدنا الحادثة على شبكات التواصل الاجتماعي». وتقول لـ«الشرق الأوسط»: لم نره إلا في الصباح، لم يكن مفقودا كنا نعلم أنه في المستشفى، لكنه طلبنا حرصا على سلامتنا بعدم مغادرة المنزل حتى تتضح الأمور أكثر وأكثر.
وتشدد رقية على وصف الجريمة بأنها «جريمة كراهية إرهابية... ليست ضد المسلمين وحسب؛ بل ضد لندن التي تتميز عن بقية مدن العالم بمدى التعايش الذي تشهده، ونحن كمجتمع لا بد أن نتحد، مسلمين ومن جميع الأعراق ونتحدى كل ما يهدد وحدتنا وتعايشنا وتسامحنا. نحن كمسلمين يحضنا ديننا على حماية بعضنا، وعندما أتحدث عن بعضنا فأنا أقصد الجميع».
وتتابع: «لا بد أن نعامل شبابنا وأبنائنا على أنهم جميعا سواسية، ونزرع في أبنائنا».
من ناحيتها، تقول آمال ابنة المصاب حرصي: «كنت غاضبة جدا وخائفة في الوقت نفسه على والدي، المشاعر مختلطة بالنسبة لي أختي فاطمة وعائشة، سعيدون بأن والدنا على قيد الحياة، حزينون على ما أصابه وأصاب الآخرين». مضيفة: «لا بد لنا أن نتجاوز هذه اللحظات في بلدنا ونتماسك سوية ضد كل ما يفرقنا، الإرهاب بكل أشكاله يجب أن يغادر هذه المدينة العالية التسامح».
* الصحافي المساعد
وسط ضجيج حادثة الدهس في فينزبري بارك بلندن، لعب رجل دوراً مهماً في تسهيل مهمة لم يعتد ممارسوها أن تكون بهذه السهولة. عبده خليفة، يتكئ على 62 عاماً من العمر قضى نصفها في العاصمة البريطانية، ليرشد الصحافيين إلى شهود العيان والضحايا والأبطال، وكل من ارتبط بالحادثة.
كان خليفة يتحدث بأكثر من لغة، أبهرت صحافياً ألمانياً كان يستمع إلى إنجليزيته الركيكة. وفور ما التقى «الشرق الأوسط»، بدأ يتحدث عربية ركيكة أيضاً، لكنته كانت أشبه بالمرشد الذي يعرف الجميع.
تناول خليفة ورقة وقلماً وبدأ يتصل ويسجل الأرقام والأسماء، وبعض المعلومات التي تفيد المراسلين في تغطية الحادثة.
وكان من اللافت التفاف المتجمهرين قرب مسرح الحادثة حول خليفة لمعرفة أخبار الذين أصيبوا، وحتى أولئك الذين لم يصبهم شيء.
يقول خليفة: «عشت أكثر من ثلاثة عقود في لندن، ولا يسمح العرف الاجتماعي لأهالي هذه المدينة الرائعة ولا القانون بأن يعتدي أحد على أحد. الجريمة التي حدثت أمس لا بد أن نعرف أنها استثناء، ولو ترى الدهشة التي أصابتنا جميعا لعرفت أنها بالفعل استثناء».
اقترب أحد أفراد الجالية الصومالية من خليفة وهمس في أذنه بأنه اطمئن على أحد المصابين. أخذ يقول بصوت عال: «هذا أحد إخوتنا بخير، الحمد لله»، طلب من أول سيارة «تاكسي» التوقف، جمع أصدقاءه ووزع رقمه على مراسلي الصحف، وقال لهم: «سأرسل لكم بانتظام أي معلومات وأرقام أخرى تقع عليها يدي».
رافقت «الشرق الأوسط» خليفة في المستشفى، وكان جريئاً في التوسل، ثم رفع درجة الجرأة بضرورة أن يرى أحد المصابين داخل مستشفى لندن الملكي. كان حيوياً لا يخرج من الباب إلا ليقود أحد الذين جاءوا لعيادة أحد المصابين المتعددين في المستشفى ذاته.
وصفه كبير المراسلين في صحيفة «الديلي ميل» بأنه الصحافي المساعد في الحادثة، وكان بالفعل كذلك.
7:49 دقيقة
في فينزبري بارك... الضحايا أول المتسامحين
https://aawsat.com/home/article/955936/%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%8A%D9%86%D8%B2%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%AD%D9%8A%D9%86
في فينزبري بارك... الضحايا أول المتسامحين
مؤذن ساهم بحماية المنفذ لـ«الشرق الأوسط»: العدالة ولا غيرها تعاقب الجاني
- لندن: بدر القحطاني
- لندن: بدر القحطاني
في فينزبري بارك... الضحايا أول المتسامحين
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة