جاسر الجاسر لـ {الشرق الأوسط}: متطرفو الإسلام السياسي تناسلوا من رحم «الإخوان»

أسدى للصحافيين الشبان عشر نصائح.. ووصف حبه للمهنة بـ«الإدمان»

جاسر الجاسر
جاسر الجاسر
TT

جاسر الجاسر لـ {الشرق الأوسط}: متطرفو الإسلام السياسي تناسلوا من رحم «الإخوان»

جاسر الجاسر
جاسر الجاسر

الحوار مع صحافي لامع يشبه أمنية الحديث مع النفس، يتمنى خلاله مجري الحوار أن يُسأل الأسئلة نفسها، ليجاوب. هذا ما شعرت به عندما شرعت في إجراء حوار مع جاسر الجاسر، الصحافي والكاتب السعودي، الذي أسدى للصحافيين عشر نصائح، بعدما تحدث عن بعض من السياسة، وبرشاقة وإسهاب عن الصحافة، لا سيما أنه علامة سعودية تتسربل الحرف بجرأة، وتجيد الحرفة، كونه شغل مناصب قيادية في وسائل إعلامية سعودية عصرية، إذ كان رئيس تحرير صحيفة «الشرق» السعودية، وقبلها رئيس تحرير لصحيفة «الوطن»، بعدما كان نائبا لرئيس تحريرها لسنوات، وكانت مناصبه خلفا لقيادته قناة «الاقتصادية» الخاصة، ومشوار طويل ركض خلاله في نشر تحقيقات جريئة في صحيفة «إيلاف» الإلكترونية. كما خاض تجربة واسعة كصحافي في أروقة الورق، من صحف «الشرق الأوسط»، و«الحياة»، إلى مجلة «الرجل».
المهارة، بحسب الجاسر، تتمثل في «تطويع شكل العمل الصحافي بحسب الوسيلة، لا أكثر». ولا يعتقد أن الصحافة في السعودية تتجاوز صحافة المقالة.
كما يصف الجاسر نفسه بالمدمن، ولكن، ليس إشارة إلى تحقيقات المخدرات الجريئة التي انتشرت بشكل واسع عندما نشرها في «إيلاف»، بل من خلال وصفه لنفسه عندما أجاب عن سؤال عائلي يتعلق بتغيير المهنة، إذ قال: «.. أجيب زوجتي بأنني مدمن لهذه المهنة، ولا أعرف ما سواها، فهي قدري بخيرها وشرها».
الحديث مع الصحافيين السعوديين هذه الأيام من المستحيل أن يخلو من المشهد السياسي، ويرى الصحافي اللامع أن بلاده التي أعلنت للتو تفكيك خلية إرهابية جديدة، نجحت أمنيا في القضاء على تنظيم القاعدة وإضعافه، ومن ثم أسقطت كل خلاياه التي كانت موجودة في الداخل، مضيفا أن هناك منتمين للفكر أكثر من وجود التنظيم عينه. وقال واصفا وصول الرئيس السابق محمد مرسي للرئاسة بالكاشف لنوايا الإخوان المسلمين ضد الخليج، «يجب أن نشكره، لأنه كشف نوايا الإخوان المسلمين الحقيقية في الخليج»، كما تحدث عن استهداف السعودية من قبل الجماعات سواء التخريبية أو الآيديولوجية، وأهمية استيعاب المزاج العام السعودي لخطورتها... وفيما يلي نص الحوار:

* كصحافي.. كيف تقرأ مشهد الإرهاب في السعودية بعد الإعلان عن تفكيك خلية، ودخول «داعش» على الخط للمرة الأولى؟
- مشكلة السعودية أنها هدف هذه الجماعات بلا استثناء، وفي قناعاتي، الرياض هي الطاعن الشرعي في وجودهم، لذلك مشكلة التأليب لجميع الجماعات من «القاعدة» إلى اليوم، نجد أنها لا تستهدف إلا السعودية، وتعمل ضدها، وحتى كوادرها غير السعودية تدربها وتبعثها إلى السعودية، هناك حملة شرسة من هذه الجماعات الإرهابية ومحاولة إحداث الخراب فيها، مع أنها تحصل على كوادر وتمويل من داخل السعودية وتسخره وتضرب به وتوجهه نحوها.
السعودية نجحت أمنيا في القضاء على «القاعدة» وإضعافها، ومن أسقطت كل خلاياها التي كانت موجودة. والآن هناك منتمون إلى الفكر، لكن لم تكن هناك تنظيمات حقيقية.
وتنظيمات مثل تنظيم الـ106 المعلن عنه الثلاثاء الماضي نستطيع تسميته تنظيم داعش أو محاولة جديدة من «القاعدة» لتقديم نفسها بثوب جديد مختلف لمحاولة كسب التعاطف، ومررت أفكارها على أنها جماعة إسلامية نقية تسعى لإقامة دولة الخلاف والإسلام والعبارات الأخرى التي يغرر بها الشباب.
السعودية أثبتت يوما بعد يوم أنها تسيطر أمنيا على كل هذه المفارز وقادرة على غلق المنافذ بشكل أساسي.
* ماذا عن إعلان السعودية الأخير ضد الجماعات المتطرفة والمحرضة؟ وأخص هنا الإخوان المسلمين؟
- «الإخوان المسلمون» هي المنبت للإسلام السياسي، وتعد منشأ كل الجماعات الإرهابية، من الهيكلية التنظيمية والخلايا العنقودية، والتدريب والتأهيل، إلى جانب استحداث فكر معين يقوم على تأويل مجزأ، أو مقصود معين لآيات وأحاديث معينة. كل الجماعات تناسلت من الإخوان المسلمين، فهم الأصل، حتى لمن لا ينتمي مباشرة إليهم، لأن كل الجماعات التي ظهرت تمثل نتاج هذه التربية. حتى عقائديا، في كل طروحات الجماعات المتطرفة نجد أنها استفادت بشكل أو بآخر من طروحات «الإخوان».
لم تكن هناك قناعة حقيقية بأن «الإخوان» يشكلون خطرا في السعودية، لكن بعد ظهور وفوز الرئيس المخلوع محمد مرسي انكشفت الأقنعة، وكشف «الإخوان» عن نواياهم وتوجهاتهم، وبرهنوا على أن علاقتهم بالدولة لا تتجاوز كونها علاقة مكان وليس علاقة وطن، وأن الولاء لديهم للآيديولوجيا وليس للوطن.
حتى في حساباتهم على موقع التدوين المصغر «تويتر»، كانوا يظهرون انتشاءهم بأن حققوا الانتصار والحلم الذي انتظروه منذ 80 سنة.
ولذلك؛ لا نستغرب موقف السعودية مما حدث في 30 يونيو (حزيران) سواء في الشعور أو الإدراك، السعودية بدأت تدرك أن هناك تحركا جديا. استهداف دول الخليج بدا واضحا أيام مرسي، والإدارة السياسية أيام مرسي كانت توجه رسائل بأن لديها طموحات. أصبح لدينا يقظة واستشعار لم يكن موجودا سابقا.
لم يكن أحد يقول في السعودية إنه إخواني، ينكرون ويقولون إنهم إسلاميون.
من المفترض شكر مرسي لأنه قدم خدمة جليلة لدول الخليج في هذا الجانب، يعني كشف عنهم الغطاء وأظهرهم للناس، ومن ثم لم يكن غريبا صدور الأمر الملكي الذي جاء مرة أخرى مسميا جماعة الإخوان وجماعات إرهابية أخرى.
* هل لمست تغيرا بعد التشريعات الصارمة حيال خطاب «الإخوان» في السعودية أو حتى المتعاطفين؟
- النقطة المهمة أن المزاج الشعبي بدأ يستوعب مشكلة «الإخوان»، من كان عنده شك، ها هو قطعه الآن باليقين، وهو أن الجماعة مظهرها إسلامي ولكنها سياسية بحتة، وانزاحت الغمامة تماما وتحددت المواقف. كنا في فترة التعمية لم نكن ندري من مع من، وماذا يفعل فلان أو لماذا. كان هناك شعور بأن هناك معاداة للإسلام فور ما تحاول النقاش أو مخالفتهم، ويعدونك من الكارهين ويكيلون ثيمة متكررة في خطابهم لا تتغير. الذين انكشفوا حاولوا الكتابة بلغة مختلفة، وهناك من التزم الصمت، ولا تنس أن التلون جزء من ثقافة «الإخوان»، فهم لا يتعاملون بواقع صريح، فوجودهم في السعودية مثلا قائم على التعمية، لم يكن هناك شيء ظاهر، لم يعترفوا أو يقروا بوجودهم أو انتمائهم، أو أفكارهم، لذلك كانت صدمة لهم على ما أعتقد بأن السعودية ستصل إلى هذا الحد، وهي برأيي لم تصل إليه إلا بعد أن بلغت الروح الحلقوم، وأصبح الخطر محدقا، وكان يجب اتخاذ هذه الإجراءات. في المقابل، هم موجودون، ولا نستطيع المراهنة على التغير والانسحاب المؤقت. والذين يتمنون أن تتغير الظروف أو تنسى هاهم شعروا وأدركوا. وهم الآن يجسون النبض ويترقبون التحرك الآخر، هل يجري استهداف قيادات، أو أفراد، أو أشخاص لعبوا دورا كبيرا أو كشفوا علانية عن موقفهم.
* بعيدا عن السياسة، كيف بدأ جاسر الجاسر حياته المهنية، وهل تيقنت عند لحظة معينة صواب اختيارك بالتنقل الوظيفي بين الإنترنت فالتلفزيون ثم الورق؟
- عبر الطريق النقي والعفوي: صفحات القراء. لم تكن الصحافة تعترف بالشباب فلم يكن إلا مخاتلة عبر صفحات القراء التي تحتطب رسائل قرائها عشوائيا، مع فارق أن مجلة «اليمامة» كانت انتقائية وتبذل جهدا في التعامل مع المادة. دخلت التلفزيون بعد بوابة «إيلاف». في رأيي أن العمل الصحافي واحد في بنيته الأساس. والمهارة هي تطويع شكله حسب الوسيلة لا أكثر.
* ما أول قصة صحافية كتبتها أو أذعتها ومتى نشرت؟ وما القصة التي تأمل الحديث عنها قريبا؟
- صدقني، لا أذكر؛ فأنا من المهملين في هذا السياق ولا أحتفظ بنسخ من أعمالي، لكني أذكر أن تقارير في «الشرق الأوسط» عن «الجنادرية» سببت لي أول تجربة إيقاف قبل أن يلحقها «فيتشر»، كتبته في «الحياة» أول شهر عند التحاقي بها فحجبت الصحيفة، وأوقفتُ شهرا، وتعرضت للتحقيق.
* ما أنجح قصة إخبارية قدمتها؟
- في السعودية المعايير غائمة، ولا يعد ذيوع قصة دلالة قوتها، بل الاعتبار هو لجاذبيتها. ومع أنني أزعم أنني أنجزت تقارير وتحقيقات بذلت فيها جهدا كبيرا، إلا أن أكثر المقالات كان مقالا ساخرا عن السعوديات والزواج بالأجنبيات. كان يحزنني أنه بعد عشر سنوات على نشره لا يزال كثير ممن أقابلهم يذكرونني به، مما يجعلني أعتقد أن للصحافة في السعودية دروبا غامضة تماما مثل الصوفية.
* لكن، ألا توجد قصة صحافية أو تحقيق سبب لك إحراجا على سبيل المثال؟
- كان هناك تقرير عن المخدرات نشرته في «إيلاف»، والمشكلة كانت تكمن في فهم التحقيق الصحافي بالسعودية، لأن التحقيق هو أن تضع فكرة وتعالجها، أنت لا تقدم خطابا وعظيا، لكنك تستعرض المعلومات وتكشف عن التفاصيل.. وأستطيع القول إنه القريب إلى قلبي.
ومن أفضل الحوارات التي أجريتها في مجلة «الرجل»، وأبرز شخصيتين أفتخر بإجراء حوار معهما الأمير خالد الفيصل، وعبد العزيز القصيبي.
* من كان قدوتك في الإعلام قبل أن تدخل المجال، وهل تغير؟
- لا أحد؛ لسببين أولهما: أن الصحافة السعودية لم يكن فيها نجوم محترفون وإنما كتبة مقالات. الثاني: أنني دخلت الصحافة عبر بوابة الثقافة والنقد الأدبي.
* من قدوتك الإعلامية المفضل محليا وعالميا؟
- أيضا لا أحد، فلم أتعلم الصحافة من شخص بعينه، ولم أحظ بتدريب من أحد. لكن، يعجبني عثمان العمير بصفته أول قامة أحدثت فرقا في الصحافة، وأتلذذ بالعقلانية المهنية الإنجليزية الصلبة لعبد الرحمن الراشد، وأعد داود الشريان من السحرة في الصحافة السعودية، أما محمد التونسي فالنجاح حليفه حيث حل.
* كم عدد ساعات العمل التي تقضيها خلال الأسبوع، وهل تقضي وقتا كافيا مع الأسرة؟
- تختلف حسب الوسيلة، ففي التلفزيون لا تقل عن 16 ساعة، وفي الصحافة اليومية نحو 12 ساعة دون وجود إجازات أسبوعية. في المحصلة، الإعلام تواصل لحظي مع العالم فلا يمكن لأي صحافي في أي وسيلة أن ينقطع للحظات عن المتابعة والتدرب والمقارنة والربط، وإلا فقد روحه الصحافية واستحال إلى نصاب لا أكثر. الوقت مع العائلة يختلف حسب الوسيلة، لكن زوجتي تطالبني دوما بالبعد عن الإعلام فهو بعد وتوتر وقلق ومساءلة وملاحقة لا تنقضي، وأن يرزقني الله مثل بقية الخلق بعمل أعود منه في ساعة محددة ولي إجازة أسبوعية ثابتة، فأجيبها بأنني مدمن لهذه المهنة ولا أعرف ما سواها؛ فهي قدري بخيرها وشرها!
* ما رأيك في الإعلام الجديد، وهل يحل محل القديم؟
- أنا ضد تسمية الإعلام الجديد، فهو ليس إعلاما بعد، لكنه درجة أولية من الخطاب الإعلامي لا يضاهي الإعلام المحترف؛ قيمة وموضوعا وأصالة ومسؤولية. إذا كان الإعلام هو الفصول الدراسية، فإن ما يسمى «الإعلام الجديد» هو الفسحة للطلاب حيث اللعب والصخب دون المعرفة والعلم.
يظن البعض أن «تويتر» والمواقع الإلكترونية والتلفزيون أنهت الصحافة الورقية بسبب سرعة شيوع الأخبار وسرعتها. وأظن أن هذا الوضع سيطهر الصحافة من أخطائها وسلبيتها لتتحول للعمل الصحافي الفعلي من تقرير وحوار وتحقيق وبروفايل وفيتشر وغيرها. إذا قصرنا الإعلام الجديد على «تويتر»، فهو عالم أكاذيب وشائعات لا أكثر وهو ما ينسحب على كثير من المواقع الإلكترونية.
* ما المدونة أو الموقع الإلكتروني الذي تحرص على متابعته؟
- أتابع بشكل يومي «العربية نت»، و«سبق»، و«المواطن» من أجل أخبار السعودية، وما عدا ذلك فهو حسب الحالة، فأحيانا أتابع المواقع والصفحات والمدونات السورية لمعرفة التفاعل الداخلي، وأحيانا العراق، والباقي هو بمثابة جولات سياحية تجيء عشوائية أو حسب توصية من صديق أو لوجود موضوع لافت.
* إلى أي مدى تؤمن بأهمية وجود متخصصين في فريق العمل الصحافي؟
- الصحافي هو بنية تخصص، ولا يكون كذلك ما لم يكن متخصصا في مجاله وبارعا في أدواته. أما إذا كان القصد بالمتخصصين هم الأكاديميون فأنا ضد ذلك لأنهم مهلكة الصحافة، وعلامة موتها في السعودية تحديدا، فليس بينهم من مارس الصحافة أو سكن أحد بيوتها.
* ماذا ينبغي للصحافي فعله ليعمل باحترافية عالية؟
- أول الاشتراطات أن تكون بيئة العمل مثالية من حيث التجهيزات والتسهيلات، وأن تكون معاييرها المهنية عالية، وأن توفر الأمان للصحافي وتناضل من أجله وتحميه لأنه جندي المواجهة في كل مؤسسة صحافية. بالنسبة للصحافي نفسه فهو الحس أولا، لأن من المستحيل صناعة صحافي، بينما من الممكن تدريب الصحافي المبتدئ. ومن ثم اشتراطات الصحافي صعبة وهي أن يكون دقيقا لديه إصرار محصلي الديون، ومثابرة المخبرين السريين، وبراعة المحققين. وأن يكون معلوماتيا قادرا على التقصي والاستقصاء، وأن يجيد تنقية مادته من حواشيها وأن يكون موضوعيا منصفا مسيطرا على أدواته غير تابع لرغباته.
* ماذا تقرأ هذه الأيام، وما الكتب التي تقتنيها على الدوام؟
- هذا سؤال صعب، فأنا أقرأ قدر ما أستطيع، وبين يدي في هذه اللحظة «غراميات شارع الأعشى» و«أربعون قاعدة للحب»، و«مصدق والصراع على السلطة في إيران»، ورواية «الطريق إلى مكة» و«صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث» لخليل الرواف، و«مائة عام من العزلة» التي أقرأها للمرة العاشرة في وداع ماركيز. المحتوى العام للمكتبة كان في الأصل للكتب التي يصعب الحصول عليها في السعودية، أما الكتب التي أجدها في مكتبة الملك عبد العزيز ومكتبة الملك فهد الوطنية ومكتبة جامعة الملك سعود فلم أكن أشتريها، بعد تخفيف قيود الرقابة والخلاص من هاجس المصادرة فأهم الكتب التي تتناول الإسلام السياسي والسير واستقراء التاريخ والفلسفة والاجتماع والرواية تهمني.
* ما هوايتك أو رياضتك المفضلة؟
- هواياتي متقطعة وجميعها مشاريع غير مكتملة مثل حال كثير من السعوديين. لكني أعد الكسل في السفر متعة قصوى، حيث يتمرد المرء على معايير الوقت ويتخلص من الالتزام ويعيش مناخا حرا من «الفوضى الخلاقة».
* ما نصائحك الدائمة للصحافيين الشبان؟
- أقول لكل صحافي شاب لا كبير أو صغير في الصحافة، إنما عمل جيد وآخر رديء. فابنوا شخصياتكم على الرؤية وتمسكوا بالدهشة وجربوا التفرد، وابتعدوا عن الصحافة الرتيبة التي تحيلكم إلى موظفين، وتجنبوا الأدب الاجتماعي، وليكن سلاحكم الثقة والجرأة، واعلموا أن كراهية البيروقراطي والمحافظ هي أولى البوابات لأنهم أعداء التغيير والابتكار. واعلموا أن الأقدمية ليست، دوما، امتيازا، بل قد تكون خيبة وسكونا، ولتكونوا مثل العلماء مشغولين بالتجربة والاكتشاف، ولتعلموا أن العين الصحافية لا تستحدث ولا تستعار، فاستعينوا بمهاراتكم وتمكنوا من الأدوات الصحافية فهي مسار المنافسة والاعتداد. أقرأوا كل شيء، قارنوا بين الصحف المختلفة عندما تتابع قضية واحدة. لاحظوا طرق المعالجة ومضامين الرسالة في كل عنوان وقصة صحافية. قد يكون بعضكم مؤدلجا، إلا أن للمهنة اشتراطاتها الأساس بغض النظر عن التوجهات فتمسكوا بها.
استخدموا لغتكم الخاصة؛ فهي بصمتكم الفعلية وما عداها زيف.



«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE
TT

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE

تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعدما تحوّلت صفقة الاستحواذ على «ورنر بروس ديسكفري» إلى مواجهة مفتوحة بين عملاق البث «نتفليكس» من جهة، والتحالف الذي تقوده «باراماونت – سكاي دانس» برئاسة ديفيد إليسون (نجل مؤسس «أوراكل» الملياردير لاري إليسون)، المدعوم بثروات هائلة وشبكة نفوذ سياسية، من جهة أخرى.

ورغم أن ظاهر المعركة تجاري بحت، فإن جوهرها يتجاوز حدود صناعة الترفيه ليصل إلى توازنات القوة الإعلامية في الولايات المتحدة، وإلى مقاربات البيت الأبيض التنظيمية، وربما حتى إلى علاقة الرئيس دونالد ترمب بعدد من هذه المؤسسات.

Paramount, Netflix and Warner Bros logos are seen in this illustration taken December 8, 2025. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

أهمية «ورنر بروس»

تعد «ورنر بروس» إحدى أثقل القلاع الثقافية والإعلامية في العالم. فإلى جانب تاريخها السينمائي العريق، تمتلك الشركة واحدة من أضخم مكتبات المحتوى التي تضم أعمالاً من «هاري بوتر» و«دي سي كوميكس» و«غيم أوف ثرونز»، إضافة إلى شبكة «إتش بي أو» ومحفظة تلفزيونية واسعة. والسيطرة عليها تمنح مالكها ثلاث ركائز جوهرية:

• محتوى ضخم عالي القيمة قادر على تغذية منصات البث لعقود مقبلة.

• حقوق بث وتوزيع دولية تتيح توسعاً كبيراً في الأسواق العالمية.

• تكامل رأسي كامل يجمع بين الإنتاج والتوزيع والبث، ويخلق قوة سوقية استثنائية.

من هنا، فإن فوز «نتفليكس» أو «باراماونت» بالاستوديو يعني تغيّراً جوهرياً في المشهد العالمي، وظهور كيان يتجاوز في وزنه معظم الشركات الإعلامية الحالية.

"باراماونت" تخوض سباقاً مع "نتفليكس" لشراء "ورنر بروس" (أ.ف.ب)

صفقة نتفليكس و«قلق» البيت الأبيض

أعلنت «نتفليكس» قبل أيام التوصل إلى اتفاق مبدئي لشراء معظم أصول «ورنر بروس ديسكفري» مقابل 83 مليار دولار (عرضت فيها 27.75 دولار للسهم)، مع إبقاء «سي إن إن» والقنوات الإخبارية والرياضية ضمن شركة مستقلة تدعى «ديسكفري غلوبال».

عدّ كثيرون الخطوة منطقية: توحيد أكبر منصة بث في العالم مع واحد من أضخم الاستوديوهات، ما يخلق عملاقاً يصعب منافسته. لكن العامل السياسي دخل ساحة المعركة بقوة. فقد صرّح الرئيس ترمب بأنه سيكون «منخرطاً» في تقييم الصفقة، ملمّحاً إلى أن الحصة السوقية لـ«نتفليكس» قد تشكل «مشكلة».

ورغم ثنائه على تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك للمنصة، فإن تلويحه بالتدخل التنظيمي ألقى ظلالاً من الشك على الصفقة، خصوصاً أن عرض «نتفليكس» يجمع بين النقد والأسهم، ما يعرّضه لتدقيق احتكاري واسع.

باراماونت.. عرض «عدائي» ونقد أكثر

لم تتأخر «باراماونت – سكاي دانس» في الرد. فبعد ساعات من إعلان «نتفليكس»، أطلقت عرضاً عدائياً مباشراً للمساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار، وبسعر 30 دولاراً للسهم، أي أعلى بكثير من عرض منافستها.

ويمتاز عرض «باراماونت» بأنه أكثر نقداً وتمويلاً مباشراً، مدعوماً من ثروة عائلة إليسون وصناديق «ريدبيرد» و«أفينيتي بارتنرز»، إضافة إلى ثلاثة صناديق سيادية عربية (السعودية، الإمارات، قطر) تشارك بتمويل بلا حقوق حوكمة. ووفقاً لمصادر في الشركة، فإن عرضها «أكثر يقيناً وسرعة في التنفيذ»، مقارنة بعرض «نتفليكس» الذي يتوقع أن يواجه تدقيقاً احتكارياً وتنظيمياً معقداً.

البعد السياسي للصراع

على الرغم من محاولة الطرفين الظهور وكأن معركتهما تجارية بحتة، فإن السياسة حاضرة بكل ثقلها. ويلعب جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، دوراً محورياً بصفته شريكاً مالياً في عرض «باراماونت» عبر «أفينيتي بارتنرز». وتحدثت تقارير بريطانية عن وعود من «باراماونت» بإجراء تغييرات جذرية في «سي إن إن» في حال فوزها، وهو ما يمنح الصفقة بعداً سياسياً حساساً.

في المقابل، ينتقد ترمب «باراماونت» و«سي بي إس» التابعة لها بسبب خلافات مع برنامج «60 دقيقة». ومع ذلك، صعّد ترمب هجومه المباشر على «سي إن إن»، مطالباً بتغيير مالكيها كجزء من أي صفقة لبيع «ورنر». وقال في اجتماع بالبيت الأبيض: «لا أعتقد أنه يجب السماح للأشخاص الذين يديرون (سي إن إن) حالياً بالاستمرار. يجب بيعها مع باقي الأصول». كما أكد أنه سيشارك بنفسه في قرار الموافقة على الصفقة، في خروج غير مألوف عن الأعراف التنظيمية.

هذا التناقض يكشف عن صراع مفتوح على النفوذ الإعلامي، قد يؤثر على القرار النهائي أكثر من معايير الاحتكار ذاتها، رغم أن اكتمال أي من الصفقتين، سيؤدي إلى ولادة عملاق إعلامي فائق.

منصتان فائقتان

اندماج «نتفليكس ورنر بروس» سيخلق أكبر منصة بث ومكتبة محتوى في العالم، تفوق «أمازون برايم» و«ديزني» مجتمعتين في حجم الاشتراكات والمحتوى الأصلي والحقوق. أما اندماج «باراماونت ورنر بروس» فسيكوّن أكبر استوديو سينمائي - تلفزيوني متكامل، يضم «سي بي إس» و«باراماونت» و«إيتش بي أو» و«سي إن إن» (في حال لم تُفصل)، ما يجعله النسخة الحديثة من «استوديو هوليوودي شامل». وسيعد الكيان الناتج عن أي من الصفقتين الأكبر عالمياً في مجال الإعلام والترفيه، لكن بدرجات مختلفة: «نتفليكس» ستتربع على قمة البث، و«باراماونت» على قمة الإنتاج التقليدي والخبري.

لكن المخاطر كبيرة أيضاً. فوفق محللين، قد يبتلع الاستوديو إدارة «نتفليكس» ويستهلك طاقاتها، بينما يخشى البعض من تراجع نوعية المحتوى إذا خضعت المكتبة الضخمة لمنهج المنصة القائم على الكميات الكبيرة.

ويتفق خبراء على أن كلا العرضين يواجه عوائق تنظيمية ضخمة، لكن الخطر الأكبر ليس تنظيمياً، بل سياسي، كما قال وليام باير، المدير السابق لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل. وقال لصحيفة «واشنطن بوست»: «المشكلة الحقيقية هي إن كانت القرارات ستُبنى على اعتبارات قانونية أم على مصلحة الرئيس».

بالنسبة لمحطة «سي إن إن» التي يناهضها ترمب علناً، فستكون مع عرض «نتفليكس»، جزءاً من شركة منفصلة لديها استقلال أكبر، بعيداً عن الصراع السياسي. وهو ما يعدّه كثير من العاملين فيها مخرجاً آمناً، بعد تخوفهم من احتمال أن تقود «باراماونت»، المتجهة نحو توجّهات محافظة، عمليات تغيير واسعة فيها. ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون مستقبل «سي إن إن» في شركة صغيرة تحدياً قد يقود إلى تقشف أكبر.

وفي النهاية، قد تكون القرارات السياسية هي العامل الحاسم في تحديد من سيضع يده على إرث «ورنر بروس» العريق.


قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)
TT

قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)

أثارت قرارات «يوتيوب» بشأن «مراقبة المحتوى» بالاعتماد على «نظام الإشراف القائم على الذكاء الاصطناعي في المنصة»، جدلاً متصاعداً بين صُنّاع المحتوى، بعد تكرار حالات الإغلاق المفاجئ لقنوات بـ«تهم الممارسات الخادعة وعمليات الاحتيال»، دون ردود واضحة من المنصة حول الأسباب. إذ يأتي الرد على الطعون بشكل «نمطي جاهز»، مما يعرّض قنوات بارزة للاختفاء بعد سنوات من الجهد.

واللافت أن بعض حالات حجب القنوات انتهت باستعادتها بعد لجوء صُنّاع المحتوى إلى إثارة «ضجة» على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، حسبما رصد «سيرش إنجين جورنال». من جانبها، نفت «يوتيوب»، عبر مدونتها، اتهامات «عدم الدقة»، وقالت إنها «لم ترصد أي مشكلات واسعة النطاق في قرارات إغلاق القنوات، وإن نسبة صغيرة فقط من إجراءات الإنفاذ يتم التراجع عنها».

ويرى المتخصص في الإعلام الرقمي بالإمارات، تاج الدين الراضي، أن «يوتيوب» منصة لها استراتيجية خاصة مقارنةً بالمنصات الأخرى. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «(يوتيوب) ارتبطت بالمحتوى الغني والعميق والفيديو الطويل، ومن ثم فإن أي تطوير في المنصة يجب ألا يخترق هويتها». وأضاف أن «(يوتيوب) ليست منصة تصفّح سريع بلا مضمون، فما يميزها هم صُنّاع محتوى استثمروا وقتاً وجهداً وإنتاجاً».

وعن توسّع «يوتيوب» في استخدام الذكاء الاصطناعي في «مراقبة المحتوى»، قال الراضي: «هذا الاتجاه من (يوتيوب) هو أمر مفهوم في إطار تطوير إدارة المنصة، لكن بشرط أساسي، ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى نسخة جديدة من (السباق وراء السرعة) على حساب جوهر (يوتيوب)». وأشار إلى أن «أي نموذج رقابي آلي يحمل هامش خطأ عالي المستوى، وعملياً قد لا يكون عادلاً، وهنا تكلفة الخطأ كبيرة، لأنها منصة مهنية أكثر منها منصة عبور سريع».

وأثار الراضي خلال حديثه شعوراً بـ«عدم الأمان لدى صُنّاع المحتوى على (يوتيوب)» وتأثير هذه القرارات على الاستثمار في المنصة. وقال إن «مناخ عدم الأمان يدفع (اليوتيوبرز) نحو محتوى أكثر تحفظاً وأقل عمقاً، ويضعف استعدادهم للاستثمار طويل الأمد في (يوتيوب)، لأن مستقبلهم يصبح مرهوناً بقرار آلي غير متوقع».

وتحدث موقع Dexerto الإنجليزي عن حالة صانع محتوى يملك آلاف المشتركين، تم حظره بسبب تعليق لصانع المحتوى كتبه من حساب آخر عندما كان عمره 13 عاماً. ولاحقاً اعتذرت «يوتيوب» وأبلغته أن الحظر كان خطأ من جانبها.

وأعلنت «يوتيوب» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن برنامج تجريبي باسم «الفرص الثانية» يسمح لبعض المبدعين بإنشاء قنوات جديدة إذا استوفوا شروطاً محددة، وكانت قنواتهم قد أُغلقت منذ أكثر من عام، إلا أن البرنامج لا يعيد الفيديوهات أو المشتركين المفقودين.

من ناحية أخرى، أشار الرئيس التنفيذي لـ«يوتيوب»، نيل مواهان، في مقابلة مع مجلة «تايم»، في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، إلى «نية الشركة توسيع أدوات الإشراف بالذكاء الاصطناعي». وقال إن «(يوتيوب) ستمضي قدماً في توسيع الإنفاذ بالذكاء الاصطناعي رغم مخاوف المبدعين».

ويعتقد الصحافي المصري، المدرّب المتخصص في الإعلام الرقمي، معتز نادي، أن النموذج الأنسب ليس اختياراً بين مراجعة بشرية أو شفافية خوارزميات تعلن عنها منصة «يوتيوب»، بل معادلة هجينة تجمع أيضاً الذكاء الاصطناعي. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «ذلك يتحقق من خلال الفرز أولاً وفق معايير واضحة، لكن مع مراجعة بشرية إلزامية تشرح سبب المخالفات والبنود التي تعرضت للانتهاك في السياسة الخاصة بالموقع وكيفية تقديم استئناف (ضد قرارات الحظر)».

وتعليقاً على تصريح رئيس «يوتيوب» بأن الشركة ستواصل توسيع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، قال معتز نادي إن «العلاقة المقبلة مع صُناع المحتوى ستكون على المحك، فالمنصة تريد الـAI (الذكاء الاصطناعي) لأنه سلاحها لتنقيح كل المحتوى في ظل العدد الهائل من الحسابات».

وأضاف أن «صُنّاع المحتوى أمام سيناريو مواصلة العمل على منصة (يوتيوب) للحصول على مزيد من الأرباح والانصياع لسياساتها وبنودها، أو التفكير في الهجرة لمنصة تواصل اجتماعي أخرى، لكن يبقى هاجس المكاسب حاضراً، فالكل يبحث عن زيادة موارده، والكنز هنا هو الجمهور بعدد مشاهداته، ومن ثم سيكون الربح هو لغة التعامل بينهما».


بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
TT

بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)

أقفل الإعلامي اللبناني الراحل بسّام برَّاك باب العربية الفصحى وراءه ومشى. أصدقاؤه وزملاؤه، عندما تسألهم من يرشحون لحمل إرثه، يردّون: لا أحد. حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه. أبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ألقابه ترتبط ارتباطاً مباشراً بها، وهي كثيرة. فهو «الأستاذ» و«المعلّم» و«عاشق اللغة» و«حارسها». كثيرون من أهل الإعلام والصحافة يعدّونه شخصية لن تتكرر في لبنان. وكان برَّاك قد رحل بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ53 عاماً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

حالة العشق هذه لم يكن يخفيها عن أحد. يفتخر بإجادة العربية وبالتحدث بها في أي مكان ومناسبة. حتى عندما يحاور أولاده في البيت كان يتكلّم معهم بالفصحى، وهو على يقين بأن زرع بذور العربية في أعماقهم، لا بدّ أن تتفتّح براعمها عند الكبر.

الإعلامية لينا دوغان رافقته في مشوار إعلامي طويل (الشرق الأوسط)

جائزة بسام برَّاك للغة العربية

حلم الإعلامي الراحل بتنظيم جائزة يكرّم من خلالها اللغة المغرم بها. فهو تربّى في منزل يهوى أفراده، من والدين وأخوة، العربية. نشأ على حبها والإعجاب بها. حاول أكثر من مرة إطلاق الجائزة، غير أن ظروفاً عاكسته. وعندما أصابه المرض وبدأت صحته تتراجع، أوصى زوجته دنيز بأن تنفذها بعد مماته.

تقول دنيز لـ«الشرق الأوسط»: «كان يطرب للعربية فيقرأها بنهم، ويتحدث بها بشغف. كانت فكرة الجائزة تراوده دائماً. وعندما مرض أوكل هذه المهمة لي. وسنعلن عن هذه الجائزة في الذكرى السنوية الأولى لوفاته، ونقدمها لمن يستحقها».

المناسبة الثانية التي سيتم تكريم بسام برَّاك خلالها تقام في 18 ديسمبر (كانون الأول)، ويصادف اليوم العالمي للغة العربية. تنظّم مدرسة العائلة المقدسة التي كان أستاذ الصفوف العربية فيها، يوماً كاملاً لاستذكاره.

كان الراحل برّاك يلقب بـ"عاشق اللغة العربية وحارسها" (الشرق الأوسط)

بسام الزميل الخلوق

عندما تسأل أصدقاء الراحل بسام برَّاك عنه تأتيك أجوبة متشابهة، وجميعها تصب في خانة «الزميل الخلوق». يؤكدون كذلك أنه إعلامي متميّز بشدة حبّه للعربية الفصحى.

الإعلامية لينا دوغان التي رافقت برَّاك في مشوارٍ مهني طويل، تعدّه مثلها الأعلى في اللغة العربية. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «كان دقيقاً جداً في ملاحظاته للأخطاء في العربية. فعندما تسمع أذنه أي لفظ أو إلقاء أو خطأ يقترفه مذيع أخبار، يبادر إلى تصحيحه بشكل تلقائي».

وعن التأثير الذي تركه بسام على الذاكرة الجماعية من خلال اللغة، تردّ: «لقد قام بخطوة استثنائية في هذا الخصوص. أطلق مسابقة (الإملاء باللغة العربية). ووضع حجر الأساس للغة نحكيها، ولا نجيد قواعدها ولا كتابة ألفاظها. حتى أنه كان من النادر جداً في المسابقة المذكورة، أن ينجح أحد فيها، مع أن المتسابقين من الطراز الأول، ويتألفون من دكاترة واختصاصيين في العربية، إضافة إلى أدباء ووزراء ونواب».

تروي لينا دوغان أنه لبالغ ولعه بالفصحى، كان يتكلمها مع أطفاله. «تخيلي كان عندما يتوجه لابنه الصغير الذي يؤدي بالفرنسية أغنية طفولية معروفة (Tape les mains) يقول له: (صفّق صفّق). كان حارساً للغة، يعدّها أساسية في هويتنا العربية». وتضيف: «لقد كان إعلامياً مثقفاً جداً ومهذباً، خلوقاً. وهو ما بتنا نفتقده اليوم في مهنتنا».

وعما تعلّمته منه تردّ: «الكثير وأهمها الدقّة في العمل. ولا سيما قراءة النص أكثر من 10 مرات كي أتقّن إذاعته. كما تعلمت منه المثابرة في العمل. فبسام كان يملك تقنية إلقاء مثالية. ومرات كثيرة يرتجل مباشرة على المسرح في مناسبة يطلب منه تقديمها».

الإعلامي جورج صليبي كان رفيق دربه في المهنة وفي حب فيروز (الشرق الأوسط)

فيروز ألهمته فرحل وهو يردد «إيماني ساطع»

علاقة وطيدة كانت تربط بين بسام برَّاك والسيدة فيروز. وكان يردد بأنه عشق العربية من خلالها. كان صوتها يلهمه للبحث في هذه اللغة، وكذلك إتقان مخارج الحروف وعملية تحريك النص. آخر مشوار للقائها، قام به بمناسبة تقديم التعازي لفيروز بوفاة نجلها زياد الرحباني، رافقه فيه زميله وصديقه الإعلامي جورج صليبي. وتشير زوجته دنيز إلى أنه كان على علاقة وثيقة بـ«سفيرتنا إلى النجوم». «كانا يتبادلان الهدايا في المناسبات، ومن بينها ربطة عنق أوصاني بأن يرتديها عندما يرحل. وكان يزورها بين وقت وآخر. أما أغنيتها (إيماني ساطع) فقد بقي يسمعها حتى لحظاته الأخيرة». وتتابع: «صوت فيروز كان يرافقنا دائماً، في البيت كما في السيارة، وفي أي مناسبة أخرى. فلا يتعب ولا يملّ من سماعه وكأنه خبزه اليومي».

ولكن من ترشّح زوجته ليكمل طريق بسام في العربية؟ تجاوب: «في الحقيقة لا أعرف من يمكن أن يحمل هذا الإرث. بسام كان يبدي إعجابه بكثيرين يجيدون العربية الفصحى قراءة ولفظاً، ومن بينهم زملاء كالإعلاميين يزبك وهبي وماجد بو هدير وجورج صليبي ومنير الحافي والمؤرّخ الدكتور إلياس القطار وغيرهم، وجميعهم ضليعون بالعربية ويحبونها».

أصدر بسّام برَّاك كتاباً واحداً من تأليفه بعنوان «توالي الحبر»، وتضمن صوراً أدبية كثيرة، وضعها تحت عنوان الحبر، ومن بينها «حبر الحب» و«حبر الوطن» و«حبر فيروز». كما كتب مؤلفاً بعنوان «أسطورة المال والأعمال»، يحكي فيه سيرة عدنان القصار كرجل أعمال وسياسي. والجدير ذكره أن الإعلامي الراحل تأثر كثيراً بأستاذه الراحل عمر الزين. فهو من وضعه على سكة الفصحى المتقنة خلال عمله الإذاعي عبر أثير «صوت لبنان». وعندما رحل الزين أوصى بمنح برَّاك مكتبته المؤلفة من مجلدات ومؤلفات عربية، وكذلك من مدونات، وقصاصات، ورقية وخواطر. واليوم يترك بسام خلفه، إرثين، أحدهما يخصه، والآخر ورثه عن عمر الزين.

صداقة وزمالة وذكريات مع بسام برَّاك

كل من عرف الراحل بسام برَّاك عن قرب من زملاء وأصدقاء، يحدثك عنه بحماس. فالإعلامي يزبك وهبي يعتبره نابغة في مجاله، وكذلك زافين قيومجيان الذي قال عند رحيله إن اللغة العربية أصبحت يتيمة، بينما وصفه الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون بأنه كان «الصحّ دوماً».

حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه، فأبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته

من جهته، يقول زميله جورج صليبي الذي بقي على اتصال به حتى لحظاته الأخيرة، بأنه الزميل الصديق والوفي. كانت تربطه به علاقة مميزة، عمرها 33 سنة، منذ عملهما سوياً في إحدى الإذاعات اللبنانية في أوائل التسعينات. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لجيلنا كان الراحل برَّاك مرجعنا الوحيد للعربية. نتصل به ونستفهم منه حول كيفية تحريك عبارة ما. وحتى عن معنى كلمة تصادفنا لأول مرة. كان موسوعة متنقلة للغة العربية. وأعتبره مقاتلاً شرساً في سبيلها».

ويستطرد صليبي: «كان يبالغ أحياناً في اعتماده الفصحى في أي زمان ومكان. وأذكر مرة عندما أهداني ربطة عنق، اتصلت به لأشكره، قال لي: لا نسميها كرافات أو ربطة عنق، بل (الإربة). فلا أحد يضاهيه في ثقافته وغوصه في هذه اللغة».

ترافق صليبي وبرَّاك في حبّهما لفيروز. الاثنان مولعان بها ويحبان أغنياتها ويحضران حفلاتها، فيلحقان بها أينما كانت حتى خلال تقديمها تراتيل كنائسية. «أول حفلة حضرناها معاً لفيروز، كانت في 17 سبتمبر (أيلول) من عام 1994 وسط بيروت. وبقينا نتذكر هذا التاريخ في موعده من كل عام. فيروز كانت تمثّل له العالم الذي يعشقه تماماً، كما اللغة العربية. وحتى عندما كنا نزورها سوياً، كان يخرج من عندها مفعماً بالفرح والإعجاب».

التقاه صليبي قبل 36 ساعة من وفاته: «حزن كثيراً لمصابه، فمرضه العضال أفقده القدرة على النطق. وهو ما كان يعدّه النقطة الأساسية في مهنته. فكان يحزّ في قلبه كثيراً هذا السكوت الذي ابتلي به وفُرض عليه. المرض أفقده صوته وشغفه بالإلقاء. وكان يعبّر عن هذا الأمر بلوم وعتب. وفي آخر لقاء معه كان شبه فاقد لوعيه، ولا أعرف إذا ما كان يسمعني، أخبرته عن ذكرياتي معه، وعن فيروز وأمور أخرى يحبها».

أما عن إرث بسام برَّاك اللغوي والأدبي، فيعلّق صليبي: «أرشيف غني وضخم، كان يملكه زميلي الراحل بسام. وهو تضاعف بعدما أوصى عمر الزين بتحويل مكتبته الأدبية له بعد رحيله. هذان الإرثان يجب أن يتم الاهتمام بهما من قبل مؤسسة جامعية أو ثقافية، لأن الحفاظ عليهما يفوق قدرة الفرد الواحد».