يقول أحد الكتاب المشاركين في هذا الملف، المخصص بمناسبة مرور خمسين عاما على هزيمة 5 يونيو (حزيران)، إنها كانت هزيمة ثقافية بالدرجة الأولى، هزيمة لذهنيات وممارسات كرست ثقافة سادت على مدى سنوات طويلة ومهدت لأسباب الهزيمة، التي بدت حتمية. إنها لم تكن هزيمة عسكرية، فهذا جانبها المرئي فقط، الذي لم يكن سوى إعلان صارخ عنها. هل تغيرت هذه الذهنيات والممارسات بعد مرور خمسين سنة، هل ما تزال البنى الفكرية والثقافية من ناحية الجوهر، ولم يتغير سوى الإطار الخارجي، رغم التغيرات والتبدلات التي مرت بها المنطقة العربية والعالم أيضاً؟
هنا آراء عدد من الكتاب العرب:
من القاهرة، يقول الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن (النكسة) مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت هزيمة عسكرية كاشفة لما خسرناه في مجالات حياتنا المختلفة، خسرنا الديمقراطية. لأن خسارة الديمقراطية بسبب الحكم العسكري هي التي أدت للهزيمة، ولأننا إلى أن وقعت الهزيمة لم نكن نعلم شيئا عن إمكاناتنا وعلاقتنا مع العالم ولم نكن نحاسب المسؤولين عن أوضاعنا بشكل عام. الصحافة المصرية منذ 1952 لم تكن حرة ولم يكن الصحافي يملك أن يعرف الحقائق ولا المثقفون ولم يكن الكتاب المصريون قادرين على توجيه سؤال أو نقد للمسؤولين ونعلم ما حدث لمن حاولوا ذلك».
ويستطرد: «لن أتحدث عن التنكيل والتعذيب... السياسات هي التي أدت للهزيمة. ردود الفعل في الشعر والرواية والنثر والمسرح والسينما أظن أنها كانت تدرك حقيقة ما حدث إلى حد كبير. في شعري تحديدا، عبرت عن خيبة أمل خصوصا في ديواني (مرثية للعمر الجميل). لم يكن هذا العمر جميلا إلا بالوهم، وكنت أنظر في هذه الأوهام وأصارح نفسي بأن هذه الأوهام التي كنت أظنها أحلاما ماتت ولذلك كنت أرثيها في شعري، وخصوصا في قصيدة بهذا العنوان أوجه فيها الكلام للزعيم عبد الناصر، وأقول له: من ترى يحمل الآن عبء الهزيمة فينا - المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسد يرتديه - أو هو الملك المدعي أن حلم المغني تجسد فيه؟!». (وكان الشاعر قد كتب هذه القصيدة في الذكرى الأولى لرحيل عبد الناصر). ويضيف حجازي: «في دواويني السابقة على النكسة كنت أستشعر الأوضاع الفاسدة والسيئة والسلبية التي يمكن أن تؤدي بنا إلى الهزيمة، فمثلا في ديواني (لم يبق إلا الاعتراف) موجود كذلك هذا الشعور بالخوف والقلق، من الممكن أن تكون نبوءات تكشف عما وقع لنا في 5 يونيو (حزيران) 1967 وطبعا لست وحدي في ذلك، بل انعكس أيضا في شعر أمل دنقل وصلاح عبد الصبور».
وحول آثار الهزيمة بعد خمسين عاما على حصولها، يقول: «لا تزال آثار الهزيمة موجودة. ولا شك أن 73 كان انتصارا حقيقيا لكننا لم نستكمل هذا الانتصار العسكري، هذا الانتصار الذي كان يجب أن يقودنا لمراجعة حياتنا وما خسرناه كي نعوضه ونعود عن مسببات الهزيمة والخسارة، لم يحدث ذلك. بل بالعكس في السبعينات والثمانينات والتسعينات، بدلا من أن نعود إلى الديمقراطية ونكتشف أن الحريات التي خسرناها والتي أدت خسارتنا لها إلى الهزيمة، لا تزال مقموعة حتى اليوم وذلك رغم قيام ثورتي 2011 و2013. والدليل هذا الإرهاب الذي استشرى وتواترت جرائمه، أراه أثرا من آثار 1967، هي في الواقع نتائج لهزيمة سابقة هي غياب الديمقراطية».
أما الروائي أحمد الخميسي، فيقول: «أثر النكسة في الثقافة المصرية والعربية عامة كبير جدا، وأثرها واضح وجلي في الأدب بشكل خاص. لقد فردت ثورة يوليو (تموز) - أيا كانت خلافاتنا معها - أشرعة ثقافية قائمة على التحرر الوطني، والتصنيع، والاكتفاء الذاتي، وتحرير المرأة، والعدالة الاجتماعية النسبية، ونشر التعليم المجاني، وعلى أن القضية الفلسطينية قضية مركزية، وأن العروبة انتماء قومي وثوري وتاريخي. وفجرت الثورة قبل النكسة طاقات أدباء بلا عدد ارتبط الأدب لديهم بقضايا المجتمع، فظهر يوسف إدريس بروائعه التي لا تتكرر، ونعمان عاشور، وألفريد فرج، وكوكبة ضخمة في الشعر والنقد والسينما، وكان سعر الكتاب في المتوسط لا يتجاوز قروشا قليلة، ومن ثم كان الكتاب يصل إلى جمهور واسع من فئات الشعب ويشق للمعرفة والتنوير طريقا. الآن، وعلى مدى نصف قرن، تبدلت كل الركائز».
ويضيف: «ومنذ أن أطلق توفيق الحكيم كتابه (عودة الوعي) تحركت عملية مراجعة كاملة وتجريف لكل القيم الثقافية والأدبية. الأدب الذي كان مشغولا بالإنسان البسيط في مصر، أخذ يحوم حول (ذات الكاتب)، وهواجسه، وتم عزل الأدب عن دوره الاجتماعي، الأكثر من ذلك أنه كانت لدينا في الستينات نحو 15 مجلة ثقافية متخصصة في شعب لا يزيد تعداده على ثلاثين مليونا، الآن لدينا شعب يكاد يصل إلى مائة مليون وكل ما لدينا ثلاث مجلات ثقافية. في 67 لم تهزم الدبابات وحدها، بل هزمت الكتب والقصائد، وما زال أثر النكسة ساريا بقوة في الأدب، واضحا في الضياع الذي تستشعره الآن في روايات وأعمال الأدباء الشباب، وفقدان الطريق على المستوى السياسي والفلسفي والأدبي، ومن ثم أمسى الأدب ينشغل بعناوين جنسية صارخة لشبه أعمال أدبية، وبالغرائب، وبكل ما هو فردي، من دون أن يلمس نقاط التقاطع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، ما هو فردي وما هو عام. لقد ظهرت وانتشرت مدارس أدبية مثل (الواقعية القذرة) التي ترى أن دور الأدب هو تصوير قبح الحياة، ومدارس ضد الحلم التاريخي بعالم فاضل، مثل (ديستوبيا) (عكس اليوتوبيا) ومدارس تمجد الشكل واللغة على حساب العمل والمضمون. بالطبع أثر النكسة ما زال ممتدا، ويمكن ملاحظته كل يوم وفي أعمال كثيرة، بعضها تعبير سلبي عن النكسة، وبعضها تعبير إيجابي كما في رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر. نحن نحصد الآن حقول النكسة التي لم تمنحنا سوى فاكهة مرة المذاق».