في توقيت مواكب للحادث الإرهابي الشنيع الذي شهدته مصر وتحديداً في محافظة المنيا في صعيد البلاد، والذي أودي بحياة نحو 30 شخصاً جلهم من الأطفال الأبرياء، بالإضافة إلى عشرات المصابين، وكان قد سبقه حادث إرهابي آخر في مدينة مانشستر البريطانية أودى كذلك بالكثير من الآمنين وروع المواطنين المسالمين صدر عن مكتبة الإسكندرية كتاب قيم للغاية، ضمن سلسلة الكراسات العلمية المحكمة التي تصدر عن وحدة الدراسات المستقبلية، ويبحث في «التفسير النفسي للتطرف والإرهاب»، ومؤلفه الدكتور شاكر عبد الحميد أستاذ علم نفس الإبداع، ووزير الثقافة المصري الأسبق والكاتب والمفكر صاحب المؤلفات الكثيرة والقيمة.
الكتاب الذي يقع في نحو مائتي صفحة من القطع الكبير جدا يحتوي على خمسة فصول: الأول مفاهيم أساسية، والثاني يتحدث عن التطرف وتقسيم العالم، فيما يتناول الثالث النظريات المفسرة للتطرف، أما الرابع فمجاله الإرهاب والعنف السياسي، والجزء أو الفصل الأخير يخصصه لإشكالية التطرف والتسلط.
وينهي المؤلف عمله بخاتمة بها مسارب أمل عن ثقافة الإبداع في مواجهة ثقافة التطرف والإرهاب.
ولأن المسطح المتاح لا يتسع لاستعراض أو لمناقشة أبعاد الكتاب دفعة واحدة، لذا فقد اخترنا التوقف أمام الفصل الرابع تحديداً، الذي يتناول العلاقة الجدلية بين الإرهاب والعنف السياسي، وهو المشهد الذي يؤلم العالم برمته في الآونة الأخيرة من مانشستر في بريطانيا إلى المنيا في صعيد مصر، في محاولة لفهم أبعاد ما يجري من دوائر جهنمية حول العالم المعاصر.
وفي كل الأحوال فإن الصور التي خلفها الحادثان الإرهابيان الأخيران، أكدت على أن الإرهاب يعمل على نشر الخوف والرعب والشعور الدائم بالتهديد، وذلك لأنه ظاهرة يصعب التنبؤ بحدوثها، فلا أحد يعرف على وجه الدقة متى ستقع الأحداث الإرهابية وأين.
هذه الأزمة كما يرى المؤلف تدفعنا دفعاً في طريق البحث عن نشأة الإرهاب، والبيئة المرسبة أو المهيئة لظهوره، وكذلك الدلالات الرمزية والأبعاد السياسية التي يحاول توصيلها من خلال سردياته وإشاراته التي لا تتوقف عن الظهور هنا وهناك.
إشكالية تعريف التشدد
يعمق الدكتور شاكر البحث عن حول مسألة تعريف الإرهاب والتي أضحت بالفعل إشكالية أمام المنظرين لهذا «الوباء» الذي انتشر في عالمنا، سيما وأن ما يراه البعض إرهاباً قد تعتبره جماعات أخرى مقاومة شرعية ومن هنا تبقى الإشكالية قائمة.
ومثلما توجد صعوبة في تعريف الإرهاب، فإن هناك صعوبة أيضاً في تصنيف الجماعات الإرهابية، وذلك لأن هذه الجماعات كثيراً ما تكون ذات هويات مختلفة، تشتمل على تعريفها لنفسها، وتحديدها لعددها، وكذلك معاييرها الجمعية وقيادتها وأهدافها وغير ذلك من الأمور.
وعلى الرغم من تعقد الموقف الخاص بتعريف الإرهاب، فإن هناك محاولات قد بذلت في تعريفه، وقد اتفق معظمها على أن الإرهاب هو الاستخدام المنظم للعنف على نحو ممنهج ولأهداف سياسية من قبل جماعة أو منظمة، والتي تقوم باستخدام للعنف أو التهديد باستخدامه على نحو منظم، من أجل أن تحقق أهدافها السياسية، وغالبا ما يكون ذلك الاستخدام، من جانب الجماعات الإرهابية استخداما رمزيا، أي موجها على نحو خاص نحو رموز الدولة.
والشاهد وبحسب سطور الكتاب القيم ومن خلال التقييم الموضوعي والتحليل العلمي للظاهرة، تظل هناك صعوبات في الوصول إلى تعريف مقنع أو يحظى بالقبول التام ويميز بين الإرهاب والسلوك العنيف، ومع ذلك فإن هناك وبشكل عام، نوعاً من الاتفاق على أن الإرهاب هو: «ذلك الاستخدام المتعمد والمنظم للعنف، والذي تقوم به أعداد صغيرة من الأفراد، أما العنف المجتمعي فيتسم بأنه سلوك تلقائي وغير منظم ويتطلب مشاركة كبيرة».
على أن العنف والإرهاب حول العالم من الشرق إلى الغرب ومن شمال المسكونة إلى جنوبها باتا يدفعان المفكرين إلى ما هو أبعد وأعمق من محاولات العلاج الأمني أو الاستخباراتي، على أهميتهما، فتأصيل الظاهرة، قد يقود إلى المنابع، وتجفيفها يقطع سيل الإرهاب المنهمر صباح مساء كل يوم.
أسباب ذيوع العنف والإرهاب
يفرد المؤلف سطورا عميقة للأسئلة التي طرحها «روبون وأوروز» في كتابهما «ثقافة تحت الحصار» و«العنف الجمعي والصدمة» عام 2000م، وهي أسئلة ينبغي علينا أن نعرف إجاباتها عندما نتصدى لمحاولة الفهم والتفسير لذيوع العنف الآن في بعض المجتمعات البشرية، ومن أهم هذه الأسئلة ما يلي:
1. ما الدوافع التي تقف وراء العنف عادة والعنف السياسي المرتبط بالتطرف والإرهاب على نحو خاص؟
2. ما الثقافة التي تكون حاضنة للعنف، ومفرخة، أو مولدة للعنف أكثر من غيرها؟
3. ما السرديات الثقافية المرتبطة بالعنف والعدوان وكيف يتم ترميز وتشكيل شفرات العنف الجماعي في هذه السرديات؟
4. كيف تلعب التشكيلات الثقافية التي تشتمل على الرموز والفولكلور والتراث وأنماط القدوة أو النماذج والطقوس وعلاج إحدى الصدمات؟ وكذلك ما العمليات الثقافية السيكولوجية المتضمنة في تربية الأطفال وفي استجابتهم للعنف؟
5. ما دور ما يسميه «إيريك أريكسون» بالثقة الأساسية؟ ما دور الثقة، أو فقدان الثقة، في المؤسسة الاجتماعية والممارسات الثقافية التي تشكل خبرات تضفي المعنى على حياة الإنسان؟
هنا يلفت المؤلف نظرنا إلى ما يقوله بعض الباحثين من أن العنف واسع المدى أو الجماهيري، وكذلك الإرهاب، قد يكمن وراءه نوع من فقدان الثقة الأساسية في هذه المؤسسات والممارسات، وكذلك محاولة البحث عن مؤسسات وممارسات أخرى بديلة تتوجه إليها مثل هذه الثقة التي تشكل جانبا مهما من الاستقرار السياسي.
كذلك قال الباحثان «ماتوسيان وشيفر»: «إن العنف السياسي ينشأ نتيجة لخيبة الآمال التي يشعر بها الصغار والكبار، ولقد تعددت دوافع العنف والعدوان عبر التاريخ، كما طورت بعض الآيديولوجيات الحديثة أفكاراً عامة أساسية تتمسك بها حول الدونية الثقافية للآخرين، في مقابل التفوق الثقافي لها ولأعضائها، مثل تلك الخاصية المتعلقة بمعاداة المهاجرين، وكذلك الحركات المتميزة عرقيا في أوروبا والولايات المتحدة، وأيضاً تلك الاتجاهات المدججة بالكراهية حتى الإبادة والقتل الجماعي كما حدث في يوغسلافيا السابقة.
وهناك أيضاً تلك الاعتقادات النازية التي كانت - ولم تزل - تقوم على أساس أفكار مثل نقاء الجنس الآري، وألمانيا فوق الجميع.
هنا يؤكد صاحب الكتاب على قيام قدر كبير من الكراهية الآيديولوجية تجاه الآخر المختلف، على أساس من تلك الأفكار السياسية المستحوذة أو القهرية المسيطرة المرتبطة بالقتل، الستالينية في الاتحاد السوفياتي السابق مثلا، وكثير من الحكومات المعادية للشيوعية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبعده في أميركا اللاتينية أيضاً.
ويقول بعض الباحثين كذلك أن النصوص الدينية قد عملت على تغذية الآيديولوجيات السياسيات بالكراهية، كالنظر إلى اليهود على أنهم قتلة المسيح أو أنهم أبناء القردة والخنازير، أو نظر اليهود إلى غيرهم على أنهم أنجاس أغيار أو أقل درجة... اإلخ».
لمن ينتسب الإرهاب؟
ويتناول المؤلف قضية حساسة للغاية وهي محاولات البعض لا سيما في الدوائر الاستشراقية الغربية إلصاق الإرهاب بالإسلام والمسلمين وكأن العالم قد خلا أو كاد من المتطرفين الهندوس أو البوذيين أو المسيحيين أو اليهود أو غير ذلك من الديانات.
غير أنه وفي درجة عالية من الأمانة والموضوعية، يشير إلى أنه وإن كان التطرف موجوداً في الديانات كلها، لكن الصورة الدموية المخيفة الحالية تكاد ومن أسف شديد أن تضحى مرتبطة بالإسلام فقط، ويساعد المسلمون أنفسهم بأفعالهم وسلوكياتهم على ترسيخ هذه الصورة في أذهان العالم، على نحو يدعو للدهشة.
يطرح المؤلف أسئلة حساسة وجوهرية وتمثل أعلى درجات نقد الذات، وليس جلد الذات، من عينة قوله: «ما الذي يجعل لاجئا سوريا عندما يتم رفض طلبه اللجوء إلى إحدى الدول الأوروبية أن يقوم بتفجير نفسه أمام أحد المطاعم؟
ولماذا عندما يشعر المسلمون بالتهميش في البلاد الأوروبية يقومون بارتكاب أعمال تفجيرية إرهابية بدلا من أن يكونوا قدوة في العمل والسلوك.
الحقيقة التي يؤكدها المؤلف، هي أن الإرهاب لا ينتسب إلى دولة دون أخرى، ولا يمكننا أن ننعت به دينا دون آخر، ولا ينتمي الإرهاب لطبقة اجتماعية واقتصادية معينة، ولا لاتجاه فكري أو سياسي ماركسي يساري أو فاشي يميني، والإرهاب ليس حكراً على العسكريين ولا هو مصمم للمدنيين الغوغاء، لهذا كان البحث في موضوع الإرهاب مغرياً بالبحث عن مكامن الخوف وهويته ودافعاً إلى رحلة تثبر فيها أغوار النفس البشرية.
هل الآيديولوجيات تدفع للإرهاب؟
هناك تعبير يقول: «إن تحت جلد كل آيديولوجي يوجد إرهابي»... ما صحة هذا الكلام، وهل يعني بالضرورة أن الآيديولوجيات هي مسبب رئيسي للإرهاب؟
بحسب شرح المؤلف فإنه يقصد بالآيديولوجيات وجود أفكار أو نظريات سياسية واجتماعية وعلمية، تزعم أنها تقود تبريرات للتراث والحياة، ومن أكثر أنواع الآيديولوجيات قوة ما يسمى القومية، حيث يعتقد الأشخاص أن أممهم متفوقة على الأمم الأخرى، كما يحدث الآن في الولايات المتحدة، فيعتقد الناس بأن دولتهم استثنائية متفوقة أقوى من غيرها.
في هذا السياق يستخدم الذعر كاستراتيجية تتعلق بخطاب العنف، من أجل تدعيم الأيدلوجيات اليسارية واليمينية ومن جانب ممثلين للدول وغير ممثلين لها أيضاً.
باختصار يمكن النظر إلى الإرهاب على أنه: «استراتيجية تخاطب عنيفة يقصد من ورائها أن يحدث الخوف»، ويقصد من وراء العمل الإرهابي أن يحدث نوعا من التفاعل معه، هكذا يريد الإرهابيون إثارة نوع من العداء في استجابات الأفراد على نحو يحقق أهدافهم، ويكون الإرهاب عادة نوعاً من الهجوم الذي لا يمكن التنبؤ به على نحو كبير.
الآيديولوجية هنا تتمثل في أن الإرهابيين، وعلى العكس من المجرمين العاديين يؤمنون بأن أفعالهم العنيفة صحيحة ومبررة ومطلوبة وموجهة نحو سلطات غاشمة أو ظالمة ومن ثم يكون الطابع السياسي لها مميزاً وواضحاً وأنهم يهاجمون المشروعية التي تقوم على أساسها هوية الدول الحديثة.
الفكر «الجهادي» وأزمة العنف
ربما لكي نفهم الهجوم الأخير الذي جرى في المنيا، وقبله هجوم مانشستر يتعين علينا - كما يشير المؤلف - الرجوع إلى كتاب «الشباب وجماعات العنف... رؤى شبابية» الصادر عن منتدى البدائل العربي في القاهرة، ذلك لأنه لخص الدوافع التي تقف وراء العنف الديني كما يتجلى لدى تنظيمي «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» والإخوان المسلمين في مصر وغيرها من الجماعات داخل مصر وخارجها، أي في الوطن العربي وخارجه، على النحو الذي تبين من ميثاق العمل الإسلامي الذي أصدره تنظيم الجهاد، ودعا إلى ضرورة الحرب المقدسة على العلمانية بوصفها دعوة إلى فصل الدين عن الدولة عقيدة وفكرا ونظاما وحكما في التشريع والحكم والقضاء والتعليم والإعلام، علمانية ثبتتها أجهزة التثقيف والتوجيه، علمانية بغيضة، دست علينا وغرست قسرا في تربيتنا، فأتت هذه الأنظمة الكافرة التي تستبدل بشرع الله شرع الشيطان، بحسب مفهومهم، من هنا كان تقسيم العالم إلى قسمين: قسم علماني يقوده حكام لا يطبقون شرع الله، ويؤيده فقط خصوم مختلفون في الدين كالأقباط، أو التوجهات السياسية (الماركسيون)، وأضيف إليهم المثقفون والفنانون والسياح الأجانب وغيرهم، ولأنهم علمانيون فهم بالضرورة كافرون، وهذه مغالطة منطقية ينبغي توضيحها، فالعلمانية ليست ضد الدين، بل ضد إدخال أمور الدين في كل أمر من أمور الدنيا، وهذه مسألة تحتاج إلى توضيح.
وهناك قسم آخر يمتلك الحقيقة المطلقة والنعيم والإيمان، ويقوم بتكفير كل آخر ويحوله إلى شيطان، مجرد من الإنسانية، ينبغي الخلاص منه، وهكذا انطلقت آلة القتل.
كذلك رأي أستاذ النثروبولوجيا الفرنسي «آلان بارتو» أن هل التحول إلى الفكر «الجهادي» هو أحد الخيارات الممكنة للتعبير عن الصورة ضد الأحوال المعيشية الراهنة؟
هذا ما يؤكد عليه أستاذ الأنثروبولوجيا الفرنسي «الآن بارتو» لا سيما وأن الفكر الأصولي العنفي هو اليوم أحد آخر العروض المتوفرة في سوق الأطروحات السياسية الراديكالية. هل الخلاص من جانب كبير من الإرهاب المعاصر يتصل بثقافة الإبداع والابتكار؟