أغرم الناس في العالم وفي أوروبا وخصوصاً بريطانيا، منذ سنوات طويلة بالمطبخ الهندي. وكانوا حتى العقد الماضي، وبشكل عام، يعتقدون أن المطبخ الهندي واحد، ولم يتعرفوا أو يتنبهوا إلى المطابخ الأخرى التي يتشكل منها أو إلى فسيفساء هذا المطبخ العظيم، خصوصاً أن الهند ليست بلداً صغيراً بل قارة تجمع شتى أنواع الإثنيات والأديان والمناطق الجغرافية. فهي متنوعة تنوع الألوان ذاتها. لكن البعض بدأ منذ سنوات قليلة الالتفافات إلى الفروقات المطبخية بين مختلف المناطق الهندية، وبدأ الناس يعرفون أن الولايات الجنوبية تستخدم كثيراً التمر هندي وجوز الهند وأن الخبز الهندي وأطباق الكاري التي نعرفها تأتي من الولايات الشمالية.
* المطبخ العوضي
بأي حال، فإن الهند تضم كثيراً من المطابخ، وعلى رأسها المطبخ العوضي في شمال البلاد الذي يعتبر مصدر أطباق البرياني الفاخرة وأطباق شيش الكباب المعروفة وشتى أنواع القورمة (الكورمة korma)، أو أطباق اللحم المطبوخة باللبن والكريم والتوابل. فهذا المطبخ يعرف بجمعه بين الطعم الفاخر والتقنيات العالية.
ويقال إن المطبخ العوضي واحد من أهم المطابخ الهندية العريقة والفاخرة، وربما واحد من أهم المطابخ حول العالم وأقربها إلى المطبخ المغولي الذي تأثر به وبتقنياته إلى حد كبير.
تعود أصول المطبخ إلى مدينة لكناو عاصمة ولاية أتار براديش، القريبة من نيبال في شمال الهند. وهي منطقة تاريخية كانت تعرف في السابق باسم أوده، وهي اليوم مدينة متعددة الثقافات تلقب بـ«مدينة النواب»، نسبة للنواب المسلمين الذين حكموا الهند في الماضي. وتعتبر مركزاً للأدب الهندي والأردي أيضاً.
والمطبخ العوضي قريب إلى كثير من المطابخ المهمة في شمال الهند، ومتشابك معها مثل المطبخين البنجابي والفجبوري (نسبة إلى مقاطعة فجبور)، القريب والحيدر آبادي والمطبخ المغولي كما سبق وذكرنا. وهو أيضاً من المطابخ المشابهة لكثير من مطابخ آسيا الوسطى ومطابخ الشرق الأوسط والمطبخ الكشميري والفارسي وغيره.
ويرفض البعض القول إن التأثير الأساسي على هذا المطبخ كان من المطبخ المغولي، ويقولون إن تطور المطابخ الهندية في الشمال، بالإضافة إلى تدخل الإنجليز والبريطانيين بشكل عام، ولمئات السنين، لعبا دوراً كبيراً في تطور المطبخ العوضي إلى جانب التأثيرات المغولية الفارسية. ويقارن البعض تطور هذا المطبخ العظيم لكثير من الأسباب بتطور المطبخ الفرنسي، وخصوصاً ما تعلق بالتطور من نواحي التفنن والصقل والرفاهية والرقي.
* المأكولات النوابية
وتعرف مدينة لكناو بمأكولاتها «النوابية» إذا صح التعبير، نسبة إلى «النواب». فـ«نواب أوده اسم يطلق على مجموعة من الحكام الذين حكموا دولة أوده في الهند في الفترة من 1722 إلى 1858». وكان هؤلاء النواب معظمهم من الشيعة الفرس.
و«لما بدأ الضعف يدب في ملوك المغول وأصبحوا رهائن للتسلط وصارت سلطتهم في الحكم اسمية فقط، بدأ حكام أوده يصبحون أقوى وأكثر استقلالية عن السلطة المغولية المركزية، وكانوا قد اتخذوا من فيض آباد عاصمة لهم».
وبالتالي، فإن الأكلات العوضية هي أكلات نوابية بالأصل، أو ما تركه النواب من أثر مطبخي في المنطقة الغنية بثرواتها الطبيعية وفنونها المطبخية. وفي مجال وصف المطابخ العوضية أو النوابية، يقول أحد الطباخين الهنود العارفين بتاريخ المنطقة، إن المطابخ بين القرنين الثامن والتاسع عشر «كانت بحجم ملاعب الكرة»، حيث كانت تنتشر طواقم الطباخين وكبار الطباخين، وتعمل كما كانت تعمل الجيوش بانتظام.
وأهم المواصفات التي يعرف بها المطبخ العوضي ومطبخ لكناو هو الطبخ البطيء، أي على نار هادئة. ويقال إن العوضيين هم من اخترعوا هذا النوع من الطبخ وتقنياته، وبالتحديد الطهاة المعروفين باسم «الباورشة» ((Bawarchis، والطهاة الذواقة الذين كانوا يعرفون باسم الـ«راكابدارس» (Rakabdars). وأصبحت ظاهرة الطبخ على نار هادئة المعروفة بالإنجليزية بـ«الضم» (Dum)، مرادفة لاسم مدينة لكناو اليوم.
وفي هذا الإطار، يوضح شعيب حيدر الطباخ العوضي المعروف في العاصمة البريطانية لندن: «كل ما يتعلق بالمطبخ العوضي هو الطبخ البطيء المعروف في الهند بـ(الضم) الذي يجري معظمه في التندور... وعبر هذه الطريقة نحصل على مذاقات وملامس مذهلة، وعندما يُجمع هذا مع مذاقات البهارات العطرية الغنية، نحصل على أفضل مطبخ في العالم... 90 في المائة من الكباب الهندي من المطبخ العوضي الذي يعتبر بيت البرياني والكورمة».
وتطبخ كل الأطباق على الفحم، لا الكباب فقط، بل جميعها... والطعام ليس استعراضياً كبقية المناطق الهندية، فالبرياني يبدو عادياً شكلاً، لكن طعمه لا يصدق... المطبخ العوضي مطبخ غني جداً مع كثير من المكسرات والمريم والسمن».
فمن المعروف أن الطبخ على نار هادئة، يجمع بين مذاقات اللحم أو الخضار والحفاظ عليها، وإنتاج شيء رائع وفريد، لكن ما يميز الطبق العوضي عن غيره، البهارات الغنية وكثرتها.
واستخدام البهارات بكثرة سواء كانت حادة أو حلوة، يتطلب التوازن، إذ إن الناس والطباخين يستخدمون تقليدياً وبشكل متواصل، ما لا يقل عن 50 نوعاً من البهارات، لكن عدد البهارات التي تستخدم في هذا المطبخ العظيم، لا يقل عن 150 نوعاً وعلى رأسها القرفة والزعفران والهال الأخضر ومسحوق قشرة جوزة الطيب المعروف بالـ«ميس» (mace). أضف إلى ذلك كثيراً من المواد الفاخرة والعطرة، كماء الورد الذي يعتبر أيضاً من المواد الرئيسية في هذا المطبخ.
الهدف من استخدام كل هذا الكم من أنواع البهارات، لا لتذوق بهار بحد ذاته أو تذوق الهال أو القرفة، بل للحصول على مذاق فريد عبر الجمع بينها وبين أنواعها الممتازة.
* تاريخ ومهارة
وراء كثير من الأطباق الهندية الشهيرة التي نعرفها في بريطانيا، تاريخ طويل وتقنيات ومهارة رئيسية ومهمة.
ولهذا من المهم جداً في المطبخ العوضي والطبخ البطيء، معرفة كيفية استخدام البهارات وفهم طريقة اختيارها وسبل تحميصها والجمع بين شتى الأنواع. وعادة ما يتطلب ذلك خبرة طويلة جداً من قبل الطاهي أو الطباخ. ولا عجب إن كان الطباخون أيام حكم المغول يحتفظون بوصفاتهم الخاصة كسر من أسرار المهنة، وقلما كانوا يكشفون عن أسرار تحضير أطباقهم، وكانوا يخافون من اكتشاف الطباخين الآخرين هذه الأسرار. ولا يزال كثير منهم في لكناو حتى الآن، يتبعون هذا التقليد كما كان يفعل الطباخون الأوائل في بابل.
ولمعرفة وفهم المطبخ العوضي والتعرف على جذور الطبخ البطيء بشكل عام، لا بد من العودة إلى الماضي، أي إلى المطبخ المغولي وإمبراطورية المغول في بدايات القرن الـ18 الذين حكموا ربع سكان المعمورة آنذاك. إذ يؤكد المؤرخون أن المغول قدموا مطبخهم ومأكولاتهم وتراثهم في الطعام للعالم وأهل الهند في مدينة لكناو.
ويدعي البعض أن الطبخ البطيء اتبع في لكناو لمساعدة النواب الذين فقدوا أسنانهم على تناول ومضغ اللحوم بسهولة.
نشأ الطبخ البطيء أو الـ«ضم» في العوضي، بسبب المغول الذين حكموا المنطقة حول لكناو في ذلك الوقت، ويقول شعيب: «كانوا يخوضون كثيراً من الحروب، لذلك كانوا بحاجة لطهي الطعام بطريقة تناسب ذلك الوضع. فمن خلال حفر حفرة في الصباح، وطبخ الطعام ببطء فيها، كان يمكن الذهاب إلى المعركة والعودة لتناوله من دون أي مشكلة - كما أن الطبخ البطيء يسهم في الحفاظ على اللحوم لفترة أطول»، وكان هذا يناسب جداً الجيوش التي لا تتوقف عن الحركة.
تاريخياً، كان معظم الذين يتناولون الأطباق العوضية، من زوار ملوك المغول، تباهياً بغناهم الفاحش وإظهاراً لثرواتهم أمام الضيوف. وكان ذلك عبر تقديم كثير من الأطباق غنية الطعم والمزينة بأوراق الذهب والفضة كطبق البرياني المطبوخ بالزعفران الفاخر.
ويستطرد شعيب: «إلى يومنا هذا، لا يشارك بعض الطهاة في لكناو، وصفاتهم». ويضيف: «لقد تغيرت الهند كثيراً، ولكن لا تزال هناك بلدات صغيرة أو مناطق لم تتغير عاداتها منذ مائة عام. إلى هذا المكان يأتي كبار الطهاة بالهند، أو قد يكونون تلقوا تدريباتهم فيه».
* أسرار المطبخ العوضي
وبالنسبة للعارفين بأسرار المطبخ العوضي، يقول شعيب، إن متعة تناول الأطباق العوضية لا تقل عن متعة مشاهدة ومتابعة تحضيرها، ويزيد أن «استخدام المنتجات الموسمية البسيطة - الخضراوات والفواكه، والتقطيع الدقيق للحوم، والطرق المتنوعة لمعالجة الأسماك، والاستخدام اللبق والممتاز للألبان والعدس والبقول المتنوعة، والطرق الكثيرة التي يستخدمونها في مطبخ العوضي هي متعة للمشاهد».
اللحوم والخضار والخبز والسمن والبهارات والكريم واللبن والزعفران والهال والقورمة والأرز والفحم، تُعتبر من المواد الرئيسية في المطبخ العوضي، أما عناصر هذا المطبخ المعروفة جداً فهي:-
* أطباق الكباب:
شيش كباب - وكاكوري كباب (لحم الضأن) الذي يعتبر مباركاً ويحضر مع البهارات وجبنة الخوا الدسمة، وشامي كباب الذي يحضر من اللحم المفروم والبصل والكزبرة والفلفل الأخضر والبهارات والمانغو، وبوتي كباب ويحضر من لحم الغنم المنقوع باللبن والمطبوخ بالتندور، وغالاوات كباب، وباساندا كباب، ورشمي كباب، وعدة أنواع من كباب الخضار.
* الأطباق الرئيسة
برياني بلحم الغنم، وبرياني بالدجاج (ضم)، وأرز بولاف، وأرز بولاو، والو غوبهي، وعوضي غوبهي، وكاري الدجاج ودجاج بالزنجبيل، واتر براديش ثالي، وكاري السمك، ودجاج باكودا افادي، وسمك مقلي، وحليم، ودجاج تندوري، وفطائر السموزا، وقريدس عوضي، ودجاج بالفرن، وكاري القريدس، ومورغ شاهي قورمة.
* أنواع الخبز
تشاباتي الذي يعتبر من أشهر أنواع الخبز وأكثرها شعبية في الهند، ويُتناول مع جميع وجبات النهار، والبوري وه وهو خبز مقلي صغير الحجم، وباراثا المحشو بالخضار والحبوب والجبن أحياناً، ورومالي روتي، وهو خبز رقيق (رومالي تعني «منديل» باللغة الأردية)، وتندوري روتي، وهو خبز سيمك بالفرن (كماج)، وخبز النان المعروف وهو سميك وطري، والشيرمال الحلو المحضر مع الحليب والسكر والزعفران، وباكرخاني وهو نوع من أنواع الشيرمال المطبوخة بدلاً من المخبوزة.
* طبق مورغ شاهي قورمة
المكونات: قطع من الدجاج المسلوخ، والسمن، وبذور الكمون، والبصل المفروم، وبذور الخشخاش المحمصة، والكركم، والفلفل الحار المطحون، والغارام ماسالا المطحونة، والكزبرة المطحونة، وجبنة الخوا المخلوطة بالماء، والفلفل الأخضر المقطع.
يُسخن السمن وتُضاف إليه بذور الكمون وبعدها البصل المفروم، تحرك المكونات على النار لتذبل، توضع بعدها قطع الدجاج وتُحرك جيداً قبل إضافة البهارات الأخرى والفلفل الأخضر والملح.
تُخلط المكونات وتطبخ جيداً ثم يضاف إليها كوبان من الماء والحليب وتترك على نار هادئة لمدة 20 دقيقة حتى ينضج الدجاج.
ويقدم الدجاج مع الكريم وأوراق الكزبرة الطازجة.