«تهامة يحيط بها الموت من جميع الجهات، بسبب تفاقم الوضع المعيشي والمشكلات البيئية والصحية، حيث تتعرض إلى تفشي الأمراض الفتاكة التي تخطف أرواح المرضى، بسبب عدم توفر الخدمات الطبية اللازمة في المستشفيات الحكومية، وبسبب امتناع المستشفيات الخاصة عن استقبال كثير من الحالات بما فيها الحالات المصابة بالكوليرا، ومع توقف الخط الساخن الذي يقوم بتزويد المستشفيات الحكومية بالتيار الكهربائي، زاد ذلك من معاناة المواطن»، هذا ما تحدث به لـ«الشرق الأوسط» الموظف الحكومي، محمد يحيى عمر، وهو أحد أبناء مدينة الحديدة.
تفاقمت معاناة أهالي الحديدة الساحلية التي يسميها أهلها عروس البحر الأحمر اليمنية، حيث ثاني أكبر ميناء في اليمن بعد ميناء عدن، بسبب غياب الكهرباء منذ أكثر من عامين وتفشي الأمراض والأوبئة بسبب تراكم القمامة في الطرقات والأحياء السكنية، علاوة على عدم تسلم موظفي القطاع العام رواتبهم منذ ما يقرب من 8 أشهر.
ولا تقتصر معاناة أهالي الحديدة على ذلك فقط، بل إن هناك معاناة كثيرة منها النقص الحاد في مياه الشرب والبطالة وطفح المجاري في الشوارع.
ومع اقتراب شهر رمضان المبارك مع فصل الصيف الحار، شهدت مدينة الحديدة الساحلية موجة نزوح داخلي، ولكن ليس نزوحاً جراء الحرب وإنما نزوح هرباً من الحر الشديد في ظل انعدام الكهرباء، وهرب الآلاف من سكان المدينة والريف إلى المناطق الباردة بما فيها صنعاء وإب ومناخة ومدينة حجة.
وبعدما كانت مدينة اقتصادية وواحدة من أهم المحافظات اليمنية خصوصاً في مجال الثروة السمكية كونها تطل على البحر الأحمر، أصبحت مدينة الحديدة منذ سيطرة ميليشيات الحوثي وصالح الانقلابية عليها في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، مدينة يعيش غالبية سكانها في ظل جوع وتدهور في النظام الصحي وشبح المجاعة الذي يهددهم.
إن الحديدة التي يقطنها أكثر من مليوني نسمة، تُعد ثاني كبرى المدن اليمنية من حيث عدد السكان بعد مدينة تعز، ولقبت بـ«عروس البحر الأحمر» بسبب المعالم السياحية الجميلة التي توجد فيها وتميزها بالشريط الساحلي، إضافة إلى وجود عدد من الموانئ الاستراتيجية؛ أهمها ميناء الحديدة الذي يتميز بموقعه الاستراتيجي وقربه من خطوط الملاحة العالمية، إضافة إلى كونه محمياً حماية طبيعية من الأمواج والتيارات المائية وغير معرض للرياح الموسمية، وكذا ميناء الصليف الذي يقع على منجم من «الملح» به ما يقرب من 20 مليون طن، بحسب التقديرات البيولوجية، حيث كان يجري تصدير الملح من هذا المنجم، بالإضافة إلى صلاحيته في استقبال بضائع «ترانزيت».
كما تتميز بكثرة الأماكن السياحية بينها قلعة «الكورنيش» التاريخية، الواقعة على الشريط الساحلي لمدينة الحديدة، ومدينة الخوخة السياحية التي تطل على مناظر رائعة من البحر الأحمر، وحجرة الزِني في مديرية حيس، ومحمية برع الجبلية المشهورة.
وجعلت الميليشيات الانقلابية من هذه المدينة مرتعاً عسكرياً لها لتنشر نقاطها العسكرية في جميع شوارعها وأحيائها، خصوصاً بعد سيطرتها على المرافق الحكومية والمعسكرات بما فيها المطار والميناء الذي أصبح ميناء لتهريب الأسلحة، بل إنها تشارك التجار والصيادين والمزارعين إيراداتهم، وبعدما كانت تصل إلى «الخُمس» أصبحت الآن أكثر من ذلك، وتحت تسميات أخرى بما فيها المجهود الحربي، وإن حصل المزارعون أو الصيادون على المشتقات النفطية من أجل استمرار أعمالهم فيحصلون عليها بأسعار أكثر من سعرها الأصلي بنحو مائة في المائة من السوق السوداء الخاصة بالميليشيات الانقلابية، وذلك بحسب ما أكده عدد من التجار والمزارعين لـ«الشرق الأوسط».
ومنذ انقلاب الحوثي وصالح على شرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وبدء الحرب، تم اختيار ميناء الحديدة مركزاً لاستقبال المساعدات الإغاثية، غير أن الميليشيات الانقلابية كانت تقوم بنهب تلك المساعدات وترسلها لجبهاتها القتالية، غير تلك التي كانت تقوم ببيعها لدعم ما تسميه «المجهود الحربي».
ويواصل محمد يحيى عمر، حديثه لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إن «محافظة الحديدة ككل وليست المدينة فقط، تشهد كارثة حقيقية جراء استمرار وجود الميليشيات الانقلابية فيها ونهب خيراتها، وهذا ينذر فعلاً بكارثة إنسانية حقيقية ووشيكة امتدت إلى كثير من مديرياتها، مع تفشي الأمراض وانعدام الكهرباء وانعدام مصادر الدخل لكثير من أرباب الأسر، الذين كانا يعتمد غالبية منهم على الزراعة والصيد، ولكن كثيراً منهم فقد أعماله بسبب انقلاب الحوثي وصالح».
وأضاف: «بسبب انعدام الكهرباء، يعاني كثير من أبناء تهامة من المشكلات الجلدية خصوصاً في فصل الصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة وتصل إلى 52 درجة، والأطفال هم أكثر عرضة للأمراض الجلدية، ومع تفاقم الكوارث البيئية وارتفاع درجات الحرارة وقدوم شهر رمضان، شهدت مدينة الحديدة نزوحاً جماعياً إلى المناطق الجبلية، وليس نزوحاً بسبب الحرب أو الدمار؛ نزوحاً يشكل بصيصاً من الأمل وهروباً من بيئة لا تصلح للعيش».
وأشار إلى أن «المواطن في تهامة أصبح بين خيارين، أحلاهما مر؛ المكوث مع أفراد أسرتك لاستقبال الموت جراء انعدام الخدمات، أو النزوح إلى خارج تهامة، والأغلبية منهم يختار مواجهة الموت كونهم يعيشون حياة من الفقر المفقر، وبعضهم يفضل النزوح خيراً له من مشاهدة أحد أبنائه أو أسرته يموت أمامه بسبب عدم امتلاك قيمة علاج له، بينما أصبحت شوارع المدينة قارعة للنوم لأفراد الأسرة باحثين عن نسمة عليل أو شيء من الهواء»، مناشداً الحكومة الشرعية والتحالف والمجتمع الدولي والأمم المتحدة «تقديم المعونات الإنسانية وإنهاء معاناة أبناء تهامة وما يعانونه من تصرفات الميليشيات الانقلابية التي تمارس ضدهم من تجويع وملاحقات وانتهاكات».
وبينما تضاعفت معاناة أهالي الحديدة أكثر من أي محافظة أخرى في ظل تفشي الأمراض منها الكوليرا الفتاك، خصوصاً مع اشتداد درجة الحرارة في فصل الصيف، يرى الكثير أن هناك صمتاً مخزياً من قبل المنظمات الدولية لما تعانيه هذه المحافظة وحتى فيما يخص نهب المساعدات الإغاثية.
ومن جانبه، يقول رئيس المركز العربي لحقوق الإنسان ومناهضة الإرهاب (آشا)، خالد محي الدين الشيباني، لـ«الشرق الأوسط»، إن «محافظة الحديدة لها ميزة عجيبة وغريبة، إن مأساتها أكثر ألماً من أي محافظة أخرى، فطبيعة أبنائها أكثر الناس سلماً وأكثرهم فقراً وأكثرهم صمتاً، لذا فمعاناتهم أكثر قسوة وأكثر ألماً من أي محافظة أخرى، كما أن المعاناة ليست حكراً على أبناء محافظة الحديدة. لقد أصبح اليمن يواجه كارثة مرعبة في الصحة وكارثة في مجاعة مقبلة وكارثة في تفكك النسيج الاجتماعي، وهذا ما ستكون له عواقب وخيمة مستقبلاً ولن يتم ردم هذه الفجوة بهذه السهولة على الإطلاق».
وأردف أن «معاناة محافظة الحديدة أكثر مأساة لأسباب كثيرة؛ هو أن أبناء تلك المحافظة ملتزمون الصمت في كل شيء، فلا تظهر معاناتهم إلى المنظمات والمجتمع الدولي إلا بعد أن يموتوا أو يصابوا بأمراض أو تكتظ المستشفيات بالموتى، فهنا الكارثة، فالحديدة بطبيعتها وطبيعة أبنائها الكارثة فيها تتضاعف أكثر من أي محافظة أخرى، فالكوليرا وأمراض أخرى ستفتك بأصحابها، خصوصاً في الصيف الذي سيحول محافظة الحديدة إلى جحيم، ومع ذلك لا يوجد أي تفاعل من قبل المنظمات الدولية سوى نهب المساعدات والتغني بالكارثة فقط».
وشدد الشيباني على تأكيده وصف جماعة الحوثي بأنها «جماعة لا أخلاق لها وجماعة إرهابية شيطانية لا تعير الإنسانية أهمية، فهي ميليشيات تقتات على القتل، وجميعنا نلاحظ أن هناك من يموت بالرصاص ومنهم من يموت بالمرض وكل هذه المأساة هي بطبيعة الحال نتاج لما تقوم به الجماعة منذ يومها الأول لاقتحام صنعاء وبقية المحافظات».
وكان السفير اليمني في واشنطن، الدكتور أحمد عوض بن مبارك، قد أكد، في كلمة له خلال ندوة بعنوان «وجهات نظر حول الأزمة اليمنية»، التي نظمها المجلس الوطني للعلاقات العربية - الأميركية ومركز الخليج للأبحاث مطلع الشهر الحالي، أن «تحرير ميناء الحديدة ينبع من المسؤولية الدستورية والأخلاقية الملقاة على عاتق الشرعية»، وأن «الهدف الرئيسي من العملية هو التخفيف من معاناة المواطنين والحد من عبث الانقلابيين بالميناء واستغلالهم السيئ لموارده وابتزازهم المتكرر للتجار والمواطنين».
موجة نزوح داخلي في الحديدة مع اقتراب رمضان
معاناة المحافظة تتفاقم تحت سيطرة الحوثيين وصالح
موجة نزوح داخلي في الحديدة مع اقتراب رمضان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة