قانون الانتخاب اللبناني: أزمة ديموغرافية سياسية

آخر مليون ناخب دخلوا القوائم كان بينهم 800 ألف مسلم

قانون الانتخاب اللبناني: أزمة ديموغرافية سياسية
TT

قانون الانتخاب اللبناني: أزمة ديموغرافية سياسية

قانون الانتخاب اللبناني: أزمة ديموغرافية سياسية

تلعب القوى السياسية اللبنانية لعبة «حافة الهاوية» في مسعاها لإنتاج قانون انتخاب جديد على بعد شهر من انتهاء ولاية البرلمان في 20 يونيو (حزيران) المقبل. وعلى الرغم من وجود شبه إجماع على ضرورة إعداد قانون جديد للانتخاب، فإن الطروحات المتناقضة للقوى السياسية تؤشر إلى استحالة التوافق على قانون مماثل، في ظل تحكم عاملين أساسيين في إنتاج أي قانون انتخاب جديد: أولهما رضى كل الأطراف اللبنانية عليه، وثانيهما حصول هذه القوى على ما تعتبره «حقا» لها من عدد النواب في البرلمان.
وفي ظل التعنت الحاصل في المواقف، يبدو أن كل الطروحات الانتخابية لن تنجح في الحصول على الرضى المطلوب. هذا الوضع يضع البلاد أمام خيارين كلاهما مر، أي الفراغ في السلطة التشريعية، أو العودة إلى «قانون الستين» الذي أجريت الانتخابات على أساسه في عام 1960، ثم ألغي بعد «اتفاق الطائف» ليعود فيطل برأسه بعد «اتفاق الدوحة» عام 2008، والأخير هو الاتفاق الذي جرت «شيطنته» من قبل غالبية الطبقة السياسية؛ ما يجعل من اعتماده كارثة على شعبيتها.
تتلخص أزمة قانون الانتخاب في لبنان، باعتماد البلاد المناصفة في مقاعد البرلمان بين المسيحيين والمسلمين، كما أقره «اتفاق الطائف»، على الرغم من التفاوت في أعداد الناخبين بين المسلمين والمسيحيين الذين باتوا يشكلون فقط نحو ثلث عدد السكان.
أما الخلاف المفصلي، فهو فيما تطرحه القوى المسيحية الرئيسية، وفي مقدمها فريق الرئيس اللبناني ميشال عون، وهو انتخاب النواب المسيحيين بأصوات المسيحيين أنفسهم؛ ما يخلق الكثير من التعقيدات، لعل أبرزها صعوبة تقسيم الدوائر لتحقيق هذه الغاية، ومحاذير اعتماد طرح انتخاب كل طائفة لنوابها، وتأثيراتها السلبية على التعايش بين الطوائف.
يقول مرجع لبناني رفيع لـ«الشرق الأوسط»: إن الخوف المسيحي مما يجري في المنطقة من حروب واستهداف المسيحيين في سوريا والعراق ومصر، يجعل من هؤلاء أكثر ميلا لاعتماد الحلول المتطرفة؛ بحثا عن مشاركتهم في السلطة. لكن المرجع يشير إلى أن ما يثير المخاوف هو العامل الديموغرافي، ذلك أن آخر مليون لبناني دخلوا في سجلات الناخبين (بلغوا الـ21 من العمر) كان من بينهم 800 ألف مسلم؛ وهو ما يؤشر إلى مخاطر كبيرة على التوازن الديموغرافي».
ويشكو المسيحيون من أنه منذ إقرار «اتفاق الطائف»، جرى تهميش قواها الأساسية، فأطيح بالعماد ميشال عون إلى المنفى عام 1990، ووضع قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع في السجن عام 1993، وبات التمثيل المسيحي في عهدة القوى الإسلامية التي تستطيع أن تأتي بأكثر من نصف النواب المسيحيين في مناطق الجنوب والبقاع والشمال وبيروت. وبعد عودة الطرفين إلى الساحة السياسية بقوة إثر خروج نظام الوصاية السوري من لبنان، يسعى الطرفان إلى استعادة هذه «الحقوق».
الحقيقة أن قصة السعي إلى قانون انتخاب قصة «إبريق الزيت» التي لا تنتهي. ففي كل مرة كان يجري فيها إجراء الانتخابات، كان يقال إن أولوية البرلمان الجديد هي إقرار قانون انتخاب جديد، وهو ما لم يحصل، إلا في عام 2008 عندما ذهب السياسيون اللبنانيون إلى الدوحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه جراء انجرار البلاد إلى حرب أهلية مصغرة في 6 مايو (أيار) 2008. يومها وصل الصدام السياسي بين القوى السياسية إلى صدام عسكري تمثل في اجتياح «حزب الله» بيروت ومحاولته اقتحام مناطق في الجبل. وعندها تم التوافق على العودة إلى قانون «الستين» (1960) الذي يعتمد الدوائر الصغرى بدلا من القوانين التي أقرت بعد الطائف، والتي كانت تميل إلى الدوائر الكبرى.، وإلى تقسيم هذه الدوائر بشكل يخدم بعض القوى على حساب القوى الأخرى. وأجريت هذه الانتخابات عام 2009 على أساس «الستين» مع تعهد من قبل البرلمان بأن يكون إقرار قانون جديد للانتخاب من أولويات البرلمان الجديد. ومن ثم مددت ولاية البرلمان الذي انتخب في ذلك العام مرتين، من دون طرح قانون فعلي لمناقشته والتصويت عليه.

الخوف المسيحي
ولمراعاة تصاعد الخوف المسيحي، كانت مبادرتان، الأولى قدمها رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري في عام 2013، تنبثق من نص «اتفاق الطائف» الذي يقول بإلغاء الطائفية السياسية، وأنه مع انتخاب أول برلمان خارج القيد الطائفي يجري استحداث مجلس للشيوخ يمثل الطوائف. ولكن طرح الحريري كان بإنشاء مجلس للشيوخ مع المحافظة على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب. وفي أوائل العام الحالي طرح رئيس مجلس النواب نبيه برّي فكرة مشابهة تتمثل بإلغاء المذهبية في البرلمان، مع الاحتفاظ بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، أي بإلغاء تمثيل المذاهب، مقابل إقرار مجلس للشيوخ.
وكانت ذروة ما تم التوصل إليه مسيحياً هو ما بات يعرف بـ«القانون الأرثوذكسي» الذي ينص على انتخاب كل طائفة نوابها في المجلس؛ الأمر الذي لاقى اعتراضا إسلامياً واسعاً، بالإضافة إلى معارضة قوى مسيحية له. لكن هذا القانون كان يمثل ذروة الخوف المسيحي، وقد وافق عليه «حزب الله» تضامنا مع حليفه عون، لكن لم يكتب له النجاح.
وللرد على القانون الأرثوذكسي، صعد نجم القانون «التأهيلي» الذي يعتمد التأهيل الطائفي، ثم الانتخاب على المستوى الوطني. وكان أول من طرحه الرئيس برّي «تجاوباً مع حجة الفريق المسيحي بأن عدداً من النواب المسيحيين يفوزون بأصوات غير المسيحيين، فإنه يرى أن يتأهل للمنافسة من يحصل على 10 في المائة من الأصوات في المرحلة الأولى، بدلاً من حصرها بالمرشحَين الأولين»، ولكن برّي تراجع عن تأييده للتأهيلي بعد اقتراح وزير الخارجية جبران باسيل قانوناً يجري بموجبه انتخاب النواب طائفياً في المرحلة الأولى، ثم اختيار اثنين منهم للتصويت على المستوى الوطني، وقال برّي معللا رفضه «أنا اقترحته لينتج نقانق وغيري أخرج منه خنزيراً».
ومع تراجع برّي عن تأييده التأهيلي، اتخذ الحريري موقفاً لافتاً؛ إذ تراجع عن موافقته على تمديد ولاية البرلمان لسنة كما تفاهم مع برّي؛ ما دفع بالوضع مجددا إلى التأزم الفعلي، بعودة رئيس مجلس النواب و«حزب الله» إلى النسبية الكاملة على أساس الدوائر الكبرى، بينما عاد الفريق المسيحي إلى مربع «الأرثوذكسي».
وهكذا عاد الحوار إلى «المربع الأول»، فكلما كان الحريري ماضيا في خيار تمديد ولاية البرلمان خوفا من الفراغ، كان بري يتشدد في التمسك بموقفه، فيما كان باسيل يحاول تقديم الاقتراحات، لكن مع تراجع الحريري عن التمديد حصل العكس.

الاحتمالات الواردة
وحول الاحتمالات التي ينتظرها قانون الانتخاب، يقول وزير الداخلية السابق زياد بارود لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه «نحن أمام احتمال من اثنين: إما إنضاج القانون، وبالتالي الذهاب إلى مجلس النواب بعد انقضاء الشهر لإقراره. وإما نعود إلى المربّع الأول، وحينها، إذا قرّر مجلس النواب التمديد لنفسه للمرة الثالثة، فالأرجح أن الرئيس لن يوقّع قانون التمديد، وسيستعمل صلاحياته بردّ القانون إلى المجلس النيابي لمناقشة ثانية. وإذا أصرّ المجلس بأكثرية 65 صوتاً على التمديد، يصبح القانون نافذاً، إنما يعود للرئيس أن يطعن به أمام المجلس الدستوري». وتابع: «في أي حال، صحيح أن ما يُعرف بقانون الستين لم يُلغَ بقانون، ولكن نفاذه لا يعني أنه قابل للتطبيق. فالمهل التي نص عليها سقطت كلها، ولم يتم تعيين رئيس وأعضاء هيئة الإشراف على الحملة الانتخابية التي يعطيها القانون صلاحيات جوهرية».
ويؤكد بارود أن العودة إلى قانون «الستين» الذي يعتبر نافذا ليست أمراً بسيطاً. وبالتالي، هو «نافذ نظرياً فقط، وهو غير مأسوف عليه. فمنذ انقضت مهلة نشر مرسوم دعوة الهيئات الناخبة الذي لم يوقّعه رئيس الجمهورية، لم يعد بالإمكان تنظيم انتخابات على أساسه. إضافة إلى عدم تشكيل مجلس الوزراء هيئة الإشراف على الحملة الانتخابية، التي ترتبط بها مهل وإجراءات جوهرية»، مضيفا: «بالمختصر، حتى إذا أرادوا العودة إلى قانون الستين، فإن ذلك يستوجب قانوناً يمدّد المهل ويعدّلها».
وهكذا، عمليا تبدو مواقف الكتل السياسية الأساسية كما يعبر عنها نوابها لـ«الشرق الأوسط» كالتالي:

«التغيير والإصلاح»: معارضة للفراغ ـ و«الستين»
يقول النائب نبيل نقولا عضو تكتل «التغيير والإصلاح» (التيار العوني) أن الاتصالات بين الأفرقاء التي تبحث بسبل الخروج من أزمة قانون الانتخاب لا تزال قائمة، ولكن بعيدا عن الإعلام، مذكرا بموقف وزير الخارجية جبران باسيل الذي قال: «إننا لم نعد بعيدين عن الاتفاق على قانون جديد».
ويوضح نقولا، أن «التيار الوطني الحر» حاليا «في موقع المستمع والمتلقي بعدما كان طوال الأشهر الماضية في موقع المبادر»، مشيرا إلى أنه قدّم أكثر من 20 طرحا انتخابيا، وتم رفض كل هذه الطروحات. ويضيف «حتى أنهم رفضوا طروحات كانوا هم من عرضوها بوقت سابق؛ فقط لأننا تبنيناها ووافقنا عليها، وهو ما حصل تماما بموضوع القانون التأهيلي الذي كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري هو من خرج به، وبات اليوم يعارضه».
وينبّه نقولا من أن المعطيات الراهنة تشير إلى أن «لا شهية لدى عدد كبير من القوى السياسية على الاتفاق على قانون جديد، وكأن الأغلبية إما تريد الفراغ أو العودة إلى قانون الستين، وهما خياران نعارضهما تماما». ويستطرد «نحن لا نتمسك حاليا بطرح معين، إنما بمبدأ القانون العادل الذي يؤمّن تمثيل كل الأفرقاء. وبالتالي، لن نقدم المزيد من الاقتراحات وننتظر ما سيعرضونه هم علينا لنعطي رأينا بمشروعاتهم».

برّي: النسبية الكاملة
النائب ميشال موسى، عضو كتلة «التنمية والتحرير»، التي يرأسها الرئيس نبيه برّي يقول إن «مطلب برّي واضح فيما يتعلّق بقانون الانتخاب، وهو ما كان قد عبّر عنه في الطرح الذي قدّمه قبل ذلك، وهو يستند بشكل أساسي على النسبية واتفاق الطائف إنما لم يلق تجاوبا، ويمكن القول إنه جمّد إنما لم يطو». ويضيف إن «المطلوب اليوم هو البدء ببحث الطروحات النهائية بعدما قدّم كل فريق رؤيته... كذلك ننتظر أي طرح جديد شرط أن يكون مقبولا ومنطقيا للبحث به».
ويعتبر موسى أن سبب عدم التوصل إلى اتفاق لغاية اليوم هو «الانقسام بين الأطراف اللبنانية التي يسعى كل منها إلى مصالحه السياسية الخاصة». ولا ينفي موسى أنه لغاية الآن ليس هناك بوادر أو إشارات إيجابية يمكن البناء عليها بشكل كبير للتوصل إلى اتفاق قبل جلسة مجلس النواب في 29 مايو الحالي، مؤكدا في الوقت عينه أن الأمل يبقى موجودا حتى اللحظة الأخيرة، ولا سيما في لبنان، حيث اعتدنا على هذا الأمر.

«المستقبل»: أي قانون يحصل التوافق عليه نسير به
عضو كتلة المستقبل النائب محمد الحجار يشير لـ«الشرق الأوسط» إلى أن رئيس الحكومة سعد الحريري «على موقفه الرافض للتمديد لمجرد التمديد لمجلس النواب، أما إذا كان الهدف وقف الفراغ وإفساح المجال أمام التوافق على قانون انتخابي فهذا أمر آخر، فالتوافق مطلب أساسي بالنسبة إلينا».
ويتابع الحجار «موقف تيار المستقبل من الصيغ الانتخابية التي تُطرح لن يكون علنياً ومباشرا، وسيكون محصوراً في الغرف المغلقة تسهيلاً للتوافق وتجنباً للمساجلات الإعلامية. الصيغة التي تجمع مجلس الشيوخ مع مجلس النواب على أساس نسبي وفقاً لطروحات الطائف إنما كانت من طرح الرئيس الحريري منذ عام 2013، لكنها لم تلق صدى آنذاك، وبعد إعادة طرحها من قبل الرئيس نبيه برّي اليوم، يبدو أنها تحتاج إلى إجماع».
ويختم: «أما عن مرحلة ما بعد 19 يونيو ومصير الانتخابات في حال تعذّر التوافق، عندئذ فالتنسيق مع رئيس المجلس على مرحلة ما بعد حزيران قائم... والفراغ أمر مرفوض، وأي قانون يتم التوافق عليه نسير به»، مشيراً إلى «أن (قانون الستين) نافذ على الأقل من الناحية القانونية».

«القوات»: للعودة إلى «الستين» إذا تعثر التفاهم
فيما يخص حزب «القوات اللبنانية» يعتبر العميد المتقاعد وهبة قاطيشا، مستشار رئيس الحزب، أن تعثر المباحثات في موضوع قانون الانتخاب «سببه الرئيسي تمسك كل فريق بشروطه وجلوسه على سلاحه، منتظرا من الفريق الآخر تقديم التنازلات التي من شأنها المساهمة في التوصل إلى اتفاق حول القانون الجديد»، منبهاً إلى أن «الوقت والمهل باتت داهمة، وبالتالي المطلوب من كل فريق القيام بخطوة إلى الأمام كي نتلاقى عند منتصف الطريق».
ويشدد قاطيشا على أن موافقة «القوات اللبنانية» على السير بـ«النسبية الكاملة» مشروط باعتماد الضوابط اللازمة التي من شأنها أن تسمح للمسيحيين بانتخاب العدد الأكبر من نوابهم في ظل الاختلال الديموغرافي الحاصل، لافتا إلى أن «هناك أفرقاء وضعوا يدهم على حقوق فريق آخر يرفضون اليوم التخلي عنها». ويرى قاطيشا أن «(قانون الستين) لم يمت ليعود من بين الأموات»، مضيفا: «في حال لم تنجح القوى السياسية بالاتفاق على قانون جديد قبل موعد 19 يونيو المقبل، سنتجه مجدداً لانتخابات نيابية على أساس القانون النافذ، ألا وهو (الستين) لننتظر سنوات بعد التفاهم المنشود على قانون عصري جديد».

«الكتائب»: أكثري بدوائر صغرى... أو نسبي ودوائر متوسطة
عضو كتلة حزب الكتائب النائب إيلي ماروني، قال لـ«الشرق الأوسط» عندما التقيناه: «سبق وطرحنا قانوناً انتخابياً يتمثل بالدوائر الصغرى، لكن ذلك لم يحظ بقبول الكتل النيابية الأخرى. وتمنينا لدى طرحنا هذا القانون أن يكون ذا معيار واحد. إضافة إلى أننا دعونا أيضاً إلى اعتماد قانون حكومة الرئيس الأسبق نجيب ميقاتي الذي يُعتبر قانوناً مقبولاً، ويعتمد النسبية على الدوائر المتوسطة والصغرى».
ويرى ماروني أن العودة إلى اعتماد القانون الحالي هو «فضيحة الفضائح». ويسأل «هل يُعقل بعد أن مددنا إلى المجلس النيابي في عامي 2013 و2014 والمهل الدستورية على وشك الانقضاء، نعود إلى طرح (الستين)؟!... إن ما يجري هو سيناريو يُعدّ من قِبل البعض، في حين أن من رفضوا هذا القانون، ولا سيما من المسيحيين، يعودون اليوم للموافقة عليه عبر تنازلات ليتبين أن الهدف هو الحصص والدخول في المحاصصة، فتلك فضيحة لا مثيل لها».

جنبلاط: قانون «الستين» هو الأكثر واقعية
عن تكتل «اللقاء الديمقراطي» الذي يرأسه النائب وليد جنبلاط، يقول النائب فؤاد السعد: إن «محاولات التوافق على قانون انتخاب يرضي الجميع، باتت أشبه بحكاية إبريق الزيت التي لا نهاية لها ولا قرار؛ وذلك لأن صياغة قانون انتخاب في دولة متعددة الطوائف والمذاهب كالدولة اللبنانية مهمة غير سهلة، لا بل معقدة، وتحتاج إلى كاسحات ألغام طائفية غير متوافرة حاليا في لبنان». متابعاً «(قانون الستين) يبقى في ظل الاختلاط الطائفي والمذهبي في الأقضية والمحافظات، هو القانون الأكثر واقعية مقارنة مع ما هو مطروح من مشروعات قوانين يمكن وصفها بالإلغائية لطائفة أساسية في التركيبتين السياسية والطائفية».
ويلفت السعد إلى أن تأمين إجماع وطني في لبنان على قانون انتخاب يرضي جميع الأطراف «يحتاج إلى ثقافة وطنية علمانية... أي إلى سنوات من البحث والمشاورات والمناقشات المضنية لتجاوز الألغام والأفخاخ الطائفية». ويختم السعد مشيراً إلى أن «(الستين)... يبقى القانون الأفضل مقارنة مع المختلط والنسبية الكاملة؛ كونه أكثر تماشيا مع الواقع الطائفي والمناطقي في لبنان، ناهيك من أنه استطاع خلال الحرب الأهلية الحفاظ على جوهر وتقسيمة الكيان اللبناني، وأظهر حسناته الوفيرة، وإلا لما كان قد استمر منذ الاستقلال حتى اليوم... اللقاء الديمقراطي لم يكن يوماً معرقلاً لإنجاز والتوافق على أي قانون انتخابي، إنما ما عُرِض أخيراً من مشروعات قوانين مثل الأرثوذوكسي والتأهيلي يؤدي إلى ضرب التعايش الإسلامي – المسيحي والوطني بشكل عام».



هل ينجح حراك الجامعات في تغيير موقف أميركا من إسرائيل؟

كوفيات وأعلام فلسطينية يرفعها الطلاب المحتجون في قلب حرم جامعة كولمبيا بنيويورك (غيتي)
كوفيات وأعلام فلسطينية يرفعها الطلاب المحتجون في قلب حرم جامعة كولمبيا بنيويورك (غيتي)
TT

هل ينجح حراك الجامعات في تغيير موقف أميركا من إسرائيل؟

كوفيات وأعلام فلسطينية يرفعها الطلاب المحتجون في قلب حرم جامعة كولمبيا بنيويورك (غيتي)
كوفيات وأعلام فلسطينية يرفعها الطلاب المحتجون في قلب حرم جامعة كولمبيا بنيويورك (غيتي)

يُجمع عدد من المراقبين والمحللين على القول إن حركة الناشطين لدعم الحقوق الفلسطينية في الولايات المتحدة وخصوصاً في جامعاتها ليست أمراً جديداً أو طارئاً فهي تمتد لعقود شهد خلالها الموقف من إسرائيل تغيراً لم تعهده من قبلُ الجامعات الأميركية والرأي العام الأميركي عموماً. ويتفق هؤلاء على أن هذا التغيير ارتبط خلال السنوات الأخيرة بالصعود المتزايد للمجموعات اليسارية الشابة ونشاط حركات الدفاع عن الحريات التي اخترقت النسيج الاجتماعي ولا سيما في أوساط الأقليات بما فيها اليهود أنفسهم والسود واللاتينيون (الهسبانيكيون) والعرب والمسلمون. بيد أن هجوم «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي والحرب التي شنتها إسرائيل بعده على قطاع غزة فرضا حضوراً متجدداً لهذه القضية بالنسبة للكثير من الطلاب. وعلى مدى الأشهر السبعة الماضية اندلعت الاحتجاجات الطلابية حيث كانت أخبار الحرب ومشاهدها غالباً ما تكون هي الحافز لاشتداد وتيرتها أو تراجعها. ومع امتداد الاحتجاجات من جامعة إلى أخرى ومن الساحل الشرقي للولايات المتحدة مروراً بوسطها ووصولاً إلى ساحلها الغربي تجاوزت الاعتقالات أكثر من ألف ومائتي طالب وكذلك ازدادت الضغوط على قادة الجامعات والأساتذة والخريجين والعائلات ناهيك من المشرّعين الأميركيين و«المؤسسة» السياسية الأميركية والإدارة نفسها. إلا أن الطلاب المحتجّين ومناصريهم من الأكاديميين ما زالوا مُصرين على تحقيق أبرز مطلبين لهم وهما وقف الحرب ووقف الاستثمارات الجامعية مع إسرائيل

حتى اللحظة، ليس ثمة ما يشير إلى أن حركة الاحتجاج في الجامعات الأميركية على وشك الانحسار، على الرغم من تفكيك مخيمات الاعتصامات في عدد من الجامعات، والاشتباكات التي بدا بعضها مشبوهاً بين المؤيدين لإسرائيل والفلسطينيين. إلا أن الاحتجاجات غير الطلابية - رغم ضآلتها مقارنة بتحركات الطلاب - لم تعد تتصدر عناوين الأخبار، وهذا، مع احتجاجات خارج الأحداث السياسية التي سبقت الانتخابات، إذ توقفت حركة المرور على الجسور والطرق الرئيسة في مدن كسان فرنسيسكو ونيويورك. أما في شيكاغو وسياتل فقد أغلق المتظاهرون مداخل المطارات الدولية، وسار الصحافيون في العاصمة واشنطن بين المتظاهرين خارج حفل عشاء جمعية مراسلي البيت الأبيض، يوم السبت الماضي.

جدير بالذكر أنه مع بدء شهر مايو (أيار)، وإنهاء غالبية الطلاب سنتهم الدراسية، تبدأ غالبية الجامعات الأميركية تحضيراتها لحفلات التخرج السنوية. ومن الناحية العملية، ما كان ممكناً أن تشهد الاحتجاجات، التي اندلعت في الربع الأخير من شهر أبريل (نيسان) الماضي، هذا الزخم لو لم يُنهِ الطلاب امتحانات آخر العام. لكن مع بدء العطلة الصيفية، وعودة الطلاب إلى منازلهم، تُطرح التساؤلات عن مصير الاحتجاجات، وعمّا إذا كانت ستستمر بزخمها الحالي، وأيضاً تُطرح تساؤلات عن التداعيات السياسية المتوقعة في السباق الانتخابي المحموم، وعمّا إذا كان بإمكانها النجاح في تغيير البوصلة تجاه إسرائيل، أو في التحول إلى «حركة سياسية» تكسر هيمنة «ثنائية» الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

أزمة سياسية ودستورية

في أي حال، احتجاجات اليوم تحولت إلى أزمة سياسية ودستورية، إذ تواجه إدارات الجامعات العامة (الحكومية)، مثل جامعة كاليفورنيا - لوس أنجليس تحدّيات قانونية تُلزمها باحترام «التعديل الأول للدستور الأميركي» الذي يضمن حرية التعبير، أكثر من تلك التي تواجهها الجامعات الخاصة العريقة كجامعة كولمبيا وجامعة ييل.

وفي حين دافع الجمهوريون، وروّجوا لقانون حرية التعبير في الحُرم الجامعية العامة، وسط شكاوى من أن ما يُسمى «ثقافة الإلغاء» قد «استولت على التعليم العالي» وأصبحت «معادية» لوجهات نظرهم المحافظة، فإنهم يواجهون الآن مع الديمقراطيين معضلة التوفيق بين حرية التعبير وكبح التظاهرات التي «خرجت عن السيطرة». وبالفعل، تصاعدت مطالباتهم للجامعات بمراجعة وتحديث قواعد التعبير الخاصة بها، بحلول هذا الصيف؛ لمعالجة الحوادث الموصوفة بأنها «معادية للسامية»، والتأكد من أن المنظمات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين تواجه «الانضباط» بسبب انتهاك تلك السياسات.

ومن جهتها، انتظمت الطبقة السياسية الأميركية وممثلوها من كلا الحزبين في إطلاق المواقف التي تدعو إلى وضع حد لاحتجاجات الطلاب، من كبير الجمهوريين في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل، إلى زعيم الغالبية الديمقراطية السيناتور تشاك شومر، وصولاً إلى مطالبة رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون بنشر «الحرس الوطني»، إذا لزم الأمر، وهو ما دعا البعض إلى القول إن حركات الاعتراض التي شهدتها الولايات المتحدة، سواءً على قضايا السياسات الخارجية أم الداخلية، لا تزال عاجزة عن زحزحة سيطرة قبضة النظام الذي أظهر، ولا يزال، قدرة كبيرة على امتصاص «الصدمات» التي يتعرّض لها.

لكن قوة النظام هذه تستند أيضاً إلى رأي عام لا يزال ينظر إلى الأزمة الحالية بقدر من اللامبالاة. وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي نراه في صفوف الشباب للقضية الفلسطينية، أظهر استطلاعٌ أجرته جامعة هارفارد عن القضايا التي تهم الشباب، في ربيع هذا العام، أن الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 29 سنة، يميلون إلى اعتبار التضخم والهجرة، من بين معظم القضايا الرئيسة الأخرى، أكثر أهمية من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ورغم ذلك يفضل الشباب «دعم سياسات جديدة»، ووقفاً دائماً لإطلاق النار في غزة بنسبة 5 إلى 1.

السيناتور تشاك شومر (رويترز)

من فيتنام إلى غزة

في سياق موازٍ، تعيد الاحتجاجات الطلابية ضد الحرب في غزة إلى الأذهان موجات من المظاهرات العارمة التي شهدتها الولايات المتحدة في الماضي. ولعل أهمها الاعتراض على حرب فيتنام، ودعم حركة الحقوق المدنية التي أسهمت بإنهاء التمييز ضد الأميركيين السود، ومناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ثم لاحقاً، التحركات الأحدث التي شهدتها الجامعات فيما عُرف بحركة «احتلال وول ستريت» ضد المصارف والشركات العملاقة عام 2008، إلى حركة الاعتراض على مشروع خط نفط داكوتا، ووقوف طلاب الجامعات عام 2016 مع أبناء القبائل الأميركية الأصليين أصحاب الأرض التي تضامن فيها معهم نشطاء مدافعون عن البيئة، إلى حركات النساء «مي تو (أنا أيضاً)»، وتظاهراتها الضخمة التي نُظمت ضد الرئيس السابق دونالد ترمب بعد يوم واحد من تنصيبه عام 2017، ووصولاً إلى تحركات ما سمي «حياة السود مهمة» ضد عنف الشرطة وسياسات ترمب عام 2020، التي امتدت إلى الشارع الأميركي بعد مقتل الرجل الأسود جورج فلويد.

هذا، وفي حين اتخذت بعض الاحتجاجات منحى دموياً في بعض الأحيان، حيث غالباً ما تتدخل الشرطة وتفض الاعتصامات والتحركات بالقوة، كما جرى في عام 1970، حين قُتل 4 طلاب في جامعة كنت ستايت بولاية أوهايو، تتكرّر، اليوم، الاعتداءات والاعتقالات على الطلاب، والكادر التعليمي، والنشطاء، وغيرهم.

بين جنوب أفريقيا وإسرائيل

من ناحية أخرى، مقابل الدعوات التي تطالب بوقف الاستثمارات الجامعية والتعاون مع إسرائيل، يحذّر البعض من أن الرهان على تكرار حركة المقاطعة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، قد لا يكون رهاناً جيداً. وكتب جيمس ماكينتوش، في صحيفة «وول ستريت جورنال» مقالة رأي مطوّلة، قائلاً ما معناه إن حملة سحب الاستثمارات، إلى جانب مطالبة الطلاب بقطع العلاقات الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية، لا يمكن أن تنجح إلا من خلال عزل إسرائيل ثقافياً، وليس من الناحية المالية، وأن فرصتها الوحيدة لتحقيق نتائج هي أن تدفع الإسرائيليين إلى العزلة، ونتيجةً لهذه العزلة ومعاملتهم على أنهم أشرار، قد يدفعون حكومتهم إلى تغيير اتجاهها.

وأضاف ماكينتوش أن حركة مقاطعة جنوب أفريقيا استمرت لعقود من الزمن، وشملت المستهلكين في المقام الأول لا المستثمرين، وكان لها آثار مالية خطيرة على صادرات البلاد. وتابع أن الشركات الأكثر أهمية للجيش الإسرائيلي، أو لإنتاج الوقود الأحفوري، الذي صدرت في السابق دعوات لسحب الاستثمارات الجامعية منها، تنتمي إلى الحكومات أو تدعمها. وبالتالي، حتى لو نجحت عملية سحب الاستثمارات بطريقة أو بأخرى في شركات أخرى، فإنها لن تنجح هنا، إذ إن إسرائيل تتلقى دعماً عسكرياً أميركياً كبيراً بتمويل من الحكومة، (كان آخره توقيع بايدن على أكبر حزمة مساعدات أقرّها الكونغرس لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار)، وهكذا سيتواصل تدفق الأسلحة عليها، بغض النظر عما يفعله مستثمرو القطاع الخاص، ولن يتمكن من إيقافها سوى الكونغرس أو البيت الأبيض.

السيناتور ميتش ماكونيل (رويترز)

لماذا فشلت الحراكات بالتحول لكيانات سياسية؟

أمر آخر يستحق التساؤل هو لماذا فشلت التحركات الاعتراضية والاحتجاجية - حتى تلك التي تمكنت من ترك تأثيرات عميقة على المجتمع والمشهد السياسي الأميركي، كإقرار قوانين الحقوق المدنية - في التحول إلى كيانات سياسية ناشطة مستمرة؟

قد يُعد تبوء الفئات الشابة الطلابية قيادة تلك التحركات أمراً مفهوماً في المجتمعات كافة، وهو ما حصل في عدد من البلدان على امتداد العقود الحديثة الأخيرة. غير أن نجاحها في إحداث التغيير ما كان ممكناً لو لم تنضمَّ إليها فئات اجتماعية صاحبة مصلحة فعلية في إحداث هذا التغيير. وفي الولايات المتحدة، مثلاً، لم تستطع احتجاجات الطلاب المطلبية التحول إلى إنجازات إلّا بعد توسعها لإشراك قوى اجتماعية أخرى، وتحويل مطالبهم معها إلى مصالح مشتركة، وهو بالضبط ما جرى خصوصاً في سنوات الحراك الاجتماعي الكبير للمطالبة بالحقوق المدنية، فقد كان لافتاً أن حراك الطلاب غالباً ما ينتهي إلى تفرقهم وتشتت قياداتهم؛ لأن الحيوية التي يتمتع بها الشباب و«ثوريتهم» فقط لا تكفيان لإحداث التغيير السياسي.

من فيتنام إلى غزة... لماذا فشلت الاحتجاجات الشعبية

في كسر ثنائية الحزبين المهيمنة؟

كلمات تحذيرية

الكاتب والصحافي سيرج شميمان كتب، في مقالة بصحيفة «نيويورك تايمز»، أن الناظر في تحرّكات جامعات أميركا يرى تكراراً للأحداث الطلابية عام 1968، لكن مع فارق أساسي هو أن الانقسامات الطلابية تتجه لتكون انقسامات شخصية وقبيحة في كثير من الأحيان، بين الطلاب اليهود والطلاب العرب أو المسلمين، أو أي شخص يُنظر إليه على أنه يقف على الجانب «الخاطئ» من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ولقد أدى هذا الوضع إلى دفع الاحتجاجات بشكل مباشر إلى سياسة الاستقطاب السائدة في البلاد، حيث يصوّرها السياسيون والنقاد، وخصوصاً من اليمين، على أنها مظاهر خطيرة «لمعاداة السامية»، و«اليقظة»، ويطالبون بإنهائها وحضّ إدارات الجامعات على استدعاء الشرطة للقيام بذلك تماماً.

وما يُذكر أنه في عام 1972، نجح الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في استمالة «الأغلبية الصامتة» من قدامى المحاربين، التي وقفت ضد «الغوغاء» التي اجتاحت البلاد، على خلفية الحرب في فيتنام، وفاز بغالبية 60 في المائة بانتخابات ذلك العام. واليوم يُخشى أن تنجح الهجمة التي تتعرّض لها احتجاجات الطلاب لـ«شيطنة» مطالباتهم بسياسات جديدة تجاه إسرائيل والفلسطينيين، إذا ما سيطر الجناح الذي يعتقد أن شعار «من البحر إلى النهر» صالح لاستقطاب الرأي العام الأميركي. وكانت وسائل الإعلام الأميركية، بما فيها تلك المحسوبة على الليبراليين، قد نشرت، في الآونة الأخيرة، تقارير عن رفع شعارات وأعلام «حماس» و«حزب الله»، المصنّفين على لائحة الإرهاب الأميركية، والأقنعة والكوفيات، التي اختفت، إلى حد كبير، من الحياة الأميركية، بعد سنتين من تفشي وباء «كوفيد»، كسمة مميزة لثقافة «الاحتجاج اليسارية المتضخمة» في أميركا، ما يشير إلى «الخطورة» التي قد يتعرض لها الحراك الطلابي ومستقبله، في حال سيطرة هذا الجناح عليه.

 

مبنى قاعة هاميلتون الشهير (آ ب)

 

انتفاضات الحُرم الجامعية الأميركية... وتداعياتها المحتملة

صعّدت المجموعات الاحتجاجية تحركاتها حين أعلن الطلاب في جامعة كولمبيا، إحدى أعرق الجامعات الأميركية وأغناها ومهد تلك الاحتجاجات، احتلال قاعة هاميلتون الشهيرة؛ «حتى تلبية مطالبهم»، لكن الشرطة تدخلت وأخرجتهم منها مُزيلة مخيم الاعتصام أيضاً. للعلم، فإن للقاعة التي افتُتحت عام 1907، وتحمل اسم ألكسندر هاميلتون، أول وزير خزانة للولايات المتحدة، تاريخ حافل، إذ احتلها الطلاب عام 1968؛ احتجاجاً على حرب فيتنام، وعام 1972؛ احتجاجاً على قرارات جامعية، ثم في عام 1985، احتلها الطلاب؛ لمطالبة الجامعة بسحب استثماراتها من الشركات التي تتعامل مع دولة جنوب أفريقيا (العنصرية يومذاك)، الأمر الذي تحقّق، في وقت لاحق من ذلك العام، عندما صوّت مجلس الأمناء على بيع جميع أسهم الجامعة في الشركات الأميركية التي تعمل هنا. ومجدداً في عام 1992، احتلت احتجاجاً على قرار إدارة الجامعة تحويلها إلى مسرح ومجمع أبحاث طبي، فيما عُدّ طمساً لتاريخها في الدفاع عن حركة الحقوق المدنية، وخصوصاً أن مالكوم إكس، شريك مارتن لوثر كينغ، اغتيل فيها عام 1965. وفي حين يعتقد البعض أن معارضة الطلاب للحرب في غزة قد لا تنتهي مع بدء العطلة الصيفية، فهم يذكّرون باحتجاجات 1968، ضد حرب فيتنام، حين خطط المنظمون لاحتجاج كبير، أثناء انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في أغسطس (آب)، بمدينة شيكاغو؛ للتصديق على مرشح الحزب الرئاسي في ذلك العام. وكما حدث عام 1968، سينتهي العام الدراسي الحالي قريباً، وسيغادر هؤلاء الطلاب للصيف، ما قد يتيح لهم مزيداً من الوقت والتحضير، لتركيز جهودهم على اجتماع المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي، الذي سينظَّم، هذا العام أيضاً، في شيكاغو خلال أغسطس المقبل. وتخطط الجماعات المناهضة للحرب بالفعل لتنظيم احتجاجات كبيرة، في المؤتمر. ونقلت صحيفة «شيكاغو تريبيون» عن ناشطين من شبكة الجالية الفلسطينية الأميركية قولهم إنهم سينظمون مسيرات في هذا المؤتمر الأهم منذ 1968، عندما نظَّم المتظاهرون في حرب فيتنام وحركة تحرير السود مظاهرات حاشدة جرى قمعها بعنف. ووسط الغضب المتزايد إزاء حصيلة القتلى المرتفعة في غزة، خصوصاً بين فئة الشباب الأميركيين، تحاول إدارة بايدن الموازنة بين دعمها لإسرائيل، وتخفيف تأثيره على إعادة انتخابه في نوفمبر (تشرين الثاني)، لكن حملته الانتخابية بدت وكأنها تراهن على انتهاء التظاهرات، وتلاشي المشاعر الملتهبة، واصطفاف الناخبين الديمقراطيين في نهاية المطاف، عندما يقترب يوم الانتخابات، ويصبح الاختيار بين بايدن وترمب أكثر وضوحاً، وهو ما يحذر منه البعض ويعدُّونه مقامرة متهورة. وحقاً، يُظهر استطلاع للرأي، أجرته جامعة كوينيبياك، يوم 24 أبريل (نيسان)، أن 53 في المائة من الديمقراطيين يعارضون إرسال مزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل، لدعم جهودها في الحرب ضد غزة. وفي استطلاع أخير أجراه مركز «بيو» للأبحاث، وجد أن الأميركيين السود أقل ميلاً لدعم معاملة إسرائيل للفلسطينيين، مقارنة بالأميركيين البيض. وبينما تبيَّن أن 38 في المائة من الأميركيين البيض يؤيدون، في الغالب أو كلياً، إسرائيل في الحرب على غزة، فإن 13 في المائة فقط من الأميركيين السود يؤيدون ذلك. ويوم الثلاثاء، أيدت «منظمة الحزب الديمقراطي» في الكليات الأميركية، الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الحرم الجامعي، ودعت الرئيس بايدن إلى دعم وقف دائم لإطلاق النار في غزة. وفي بيان وافق عليه المجلس التنفيذي للمنظمة بأغلبية 8 أصوات مقابل صوتين، أشاد ديمقراطيو الكليات بالطلاب المحتجّين؛ «لامتلاكهم الوضوح الأخلاقي لرؤية هذه الحرب على حقيقتها: مدمرة وإبادة جماعية وغير عادلة»، وأدانوا مديري الكليات؛ لاستدعاء الشرطة لإلقاء القبض على الطلاب.


دانيال نوبوا... رئيس الإكوادور الشاب الطامح إلى النجاح في وجه رياح عاتية

معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
TT

دانيال نوبوا... رئيس الإكوادور الشاب الطامح إلى النجاح في وجه رياح عاتية

معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة
معظم الطروحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة

في عام 1998 قرّر ألفارو نوبوا صاحب أكبر ثروة في الإكوادور الترشح لرئاسة الجمهورية جرياً على عادة كبار الأغنياء الذين يشكلون الغالبية الساحقة من رؤساء تلك البلاد إلا أن الثروة الضخمة التي جمعها من تجارة الموز وعشرات الشركات التي أسسها في القارتين الأميركية والأوروبية بجانب المشروعات الخيرية الكثيرة التي يموّلها لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لم تكن كافية لفوزه في تلك الانتخابات. بعد تلك المحاولة الأولى الفاشلة عاد ألفارو ليجرب الترشح مرة أخرى عام 2002 ومن ثم كرّر التجربة 3 مرات متتالية حتى أصبح صاحب الرقم القياسي في الترشح للانتخابات الرئاسية من غير أن يحالفه الحظ في الوصول إلى سدة الحكم الأولى. ولكن في ربيع العام الماضي شغر منصب رئاسة الجمهورية في الإكوادور إثر استقالة الرئيس اليميني غيّيرمو لاسّو تحت وطأة فضائح فساد مالي، فقرّر رجل الأعمال الشاب دانيال نوبوا (35 سنة) نجل ألفارو خوض غمار المعركة الانتخابية التي انهزم فيها والده 5 مرات متتالية. وحقاً تمكّن في الجولة الثانية من الفوز على منافسته اليسارية ليصبح أصغر رئيس في تاريخ جمهورية الإكوادور ويتولى أقصر فترة رئاسية تنتهي في ربيع العام المقبل مع نهاية ولاية الرئيس المستقيل.

بدأ دانيال نوبوا ولايته الرئاسية أواخر العام الماضي بعدما هزم لويزا غونزاليس، مرشحة الحزب والتيار السياسي اليساري الذي أسسه الرئيس الأسبق رافايل كورّيا، الخصم الذي كان هزم والده 3 مرات ويعيش حالياً في المنفى فاراً من وجه العدالة التي تلاحقه بتهم الفساد واختلاس المال العام.

عندما قرّر ألفارو نوبوا التخلّي عن حلمه الرئاسي في عام 2013 بعد هزيمته الانتخابية الخامسة، كان نجله دانيال يتابع تحصيله العلمي في أبرز الجامعات الأميركية من نيويورك إلى جورج واشنطن مروراً بنورثويسترن وهارفارد، ويعدّ العدة لاقتحام المعترك السياسي الذي امتنع على والده، حريصاً باستمرار على إظهار صورة أكثر اعتدالاً وعصرية، تمشياً مع المتطلبات الاجتماعية الحديثة.

ذلك أن نوبوا (الأب) كان يجسّد حقاً صورة المرشح اليميني المحافظ المتجذّر في المعتقدات والقيم القديمة والخطاب الصدامي في وجه اليسار. أما نجله دانييل فقد حرص منذ اليوم الأول على وصف نفسه بأنه يمثل «وسط اليسار»، وأعلن دعمه للمجموعات الجنسية المختلفة والسكان الأصليين، كما أبدى اهتماماً خاصاً بالتعليم والشباب والعاطلين عن العمل. مع أن هذه الصورة التي جهد لإظهارها وساعدته على استقطاب التأييد في الأوساط الشعبية المعتدلة، لم تحجب يوماً عند المراقبين حقيقة هويته وانتماءاته السياسية اليمينية.

ثقافة وخبرة اقتصادية وتكنولوجية

يتميّز دانيال نوبوا عن والده بإلمامه الواسع بشؤون الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة، وخطابه البليغ المباشر الذي كان منصّة القفزة الكبرى التي حققها في مسيرته القصيرة نحو الرئاسة، ولا سيما المناظرة التلفزيونية عشية الجولة الأولى من الانتخابات مع بقية المرشحين. والواقع أنه قبل أيام قليلة من تلك الجولة في 20 أغسطس (آب) من العام الماضي كان دانيال نوبوا خارج كل الرهانات للوصول إلى الجولة الثانية. لكن عندما أتيحت له فرصة المواجهة المباشرة مع منافسيه، وخاصة المرشحة اليسارية لويزا غونزاليس، التي كانت كل الاستطلاعات ترجح فوزها، أظهر معرفته الواسعة والعميقة بأوضاع البلاد ومشكلاتها والحلول المناسبة لها، راسماً بذلك ملامح المرشح الشاب العصري المؤهل للوصول إلى الرئاسة.

ويجمع المحللون على أن تلك المناظرة التلفزيونية، بالذات، هي التي كانت بابه إلى الفوز خارج المواجهة الغارقة فيها البلاد منذ عقود بين اليمين التقليدي المحافظ والتيارات اليسارية الكلاسيكية المتشددة. ولقد أظهرت نتائج الانتخابات لاحقاً أن غالبية الناخبين توّاقة إلى الخروج من دوامة تلك المواجهة التي شلّت العمل السياسي، وعطّلت حركة النمو الاقتصادي، وأرخت سدل العنف والفلتان الأمني، الذي بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة.

بعدها، قبيل الجولة الثانية كان دانيال نوبوا يتصدّر جميع الاستطلاعات، وليس مدفوعاً فقط بالتجاوب الشعبي الواسع مع الطروحات التي قدمها لمعالجة المشكلات الاقتصادية والأمنية، بل أيضاً بسبب انحسار التأييد للتيار الثوري اليساري الذي فشلت قياداته في استعادة الشعبية التي كان يتمتع بها إبان فترة رئاسة مؤسسه رافايل كورّيا. وحقاً، تبيّن تحليلات النتائج الانتخابية أن نوبوا نجح في استمالة الشباب الذين جذبهم هذا الخيار السياسي الجديد ومقترحاته لمعالجة المشكلات الكثيرة التي تعاني منها الإكوادور... من البطالة... إلى تراجع الخدمات الاجتماعية الأساسية والهواجس الأمنية التي رفعت معدلات الإجرام إلى مستويات قياسية.

طروحات وحلول للمشكلات

معظم الطروحات التي تضمنها برنامج نوبوا الانتخابي استهدفت تحسين أوضاع الشباب، وإيجاد فرص العمل لخفض مستويات البطالة التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث المنصرمة. فالبطالة غدت المصدر الأساسي للقلق الاجتماعي الذي يسود الإكوادور بسبب تدهور الأوضاع الأمنية نتيجة أعمال العنف والسطو التي تمارسها المنظمات الإجرامية وعصابات تجارة المخدرات، حتى أصبحت البلاد من أخطر البلدان في أميركا اللاتينية.

وكمثال، دعا نوبوا إلى إصلاح نظام السجون وتشديد العقوبات على جرائم الاتجار بالمخدرات. واقترح نقل أخطر المجرمين، الذين يشكلون 17 في المائة من إجمالي المعتقلين، إلى سفن عائمة في البحر لمنعهم من مواصلة أنشطتهم داخل السجون، علماً بأن هذه السجون صارت بفعل الفساد والرشوة تمنح المجرمين المعتقلين فيها معاملة تضاهي معاملة الفنادق الضخمة وتتيح لهم إدارة عملياتهم الإجرامية. وهنا يشار إلى أن المرشح الشاب جاب البلاد إبان حملته الانتخابية مرتدياً سترة واقية من الرصاص بعد اغتيال أحد المرشحين في مستهل الحملة.

من جهة ثانية، تضمن برنامج نوبوا الاقتصادي المحافظة على التعامل بالدولار الأميركي في العقود والصفقات التجارية الرسمية، وتعهداً بجذب شركات أميركية لتصنيع منتوجاتها في الإكوادور من أجل المساهمة في إيجاد فرص العمل للعموم. وكذلك اقترح إلغاء الضرائب المفروضة على خروج رؤوس الأموال من البلاد، الأمر الذي استجلب انتقادات واسعة من خصومه الذين عدّوا هذا الاقتراح لا يعود بالمنفعة سوى على الشركات الكبرى، وتحديداً تلك التي تملكها أسرته.

معالجة الأمن أولاً

نوبوا، منذ اليوم الأول لتسلمه مهام الرئاسة أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وجد نفسه مضطراً لتنحية البنود الاقتصادية والاجتماعية في برنامجه الانتخابي - التي فعلياً كانت رافعته إلى الفوز - كي يتفرّغ للأزمة الأمنية التي أصبحت هاجس المواطنين الأساسي بعدما وقعت البلاد تحت رحمة التنظيمات الإجرامية التي تسيطر على مناطق كثيرة، بما فيها بعض أحياء العاصمة والمدن الكبرى، زارعةً الرعب بين المواطنين.

وفي مطلع عام الحالي، أي بعد شهر تقريباً من جلوس الرئيس الجديد، تابع المواطنون مباشرة على شاشات التلفزيون كيف اقتحم 10 مسلحين ملثمين استوديو إحدى القنوات، وهددوا المشاركين في البرنامج طيلة نصف ساعة قبل أن تتدخل الشرطة لاعتقالهم.

ثم بعد أيام من تلك الحادثة، نشرت وزارة الداخلية تقريراً يفيد أن عدد ضحايا العنف والاغتيالات على يد المنظمات الإجرامية خلال عام الماضي ناهز 8 آلاف، أي بزيادة 65 في المائة عن العام السابق.

في غضون ذلك، كانت 6 سجون في قبضة معتقلين مسلحين يحتجزون عشرات الرهائن داخلها، وكان أحد أخطر مجرمي الإكوادور قد فرّ من السجن برفقة 4 من حراسه بعد اعتقاله بـ3 أيام. ومن ثم، بلغت الأزمة الأمنية مستوى من الخطورة وعجز الأجهزة عن ضبطها، ما دفع البلدان المجاورة التي كانت تتابع تطورات الوضع بقلق متزايد إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى المناطق المتاخمة للإكوادور، وعرض بعضها على حكومة نوبوا المساعدة في ضبط الحدود.

أمام هذا المشهد، أعلن الرئيس نوبوا حالة الطوارئ العامة في البلاد لفترة 3 أشهر. وأوكل مهام حفظ الأمن في المدن والأرياف إلى القوات المسلحة. وقرّر أن يدعو في نهايتها إلى إجراء استفتاء شعبي حول حزمة من التعديلات الدستورية، لها صلة بالأمن، أملاً في تمكين الدولة من أدوات تسمح لها بمواجهة العنف المتزايد في البلاد. وضمن هذه التعديلات تكليف الجيش صلاحيات دائمة لمؤازرة الشرطة في الحفاظ على الأمن، وتوسيعها لتمكينه من البقاء في المدن، وتعجيل طلبات استرداد المجرمين، وتسهيل إجراءات تسليمهم، وإجراء تعديلات واسعة على قانون العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى تعديلات أخرى لتشجيع الاستثمار الخارجي وإضفاء مزيد من المرونة على قانون العمل.

وكان قد سبق للرئيس المستقيل أن دعا إلى إجراء استفتاء مماثل مطلع العام الماضي، لكنه قوبل بالرفض بنسبة عالية. ورغم أن قانون الطوارئ الساري منذ بداية العام الحالي يعدّ البلاد في حالة نزاع داخلي مسلح، وينصّ على تكليف الجيش مهام الحفاظ على الأمن في المدن والأرياف، فإن الاستفتاء الذي طرحه نوبوا مؤخراً يهدف إلى إعطاء القوات المسلحة، وليس الشرطة، صلاحيات دستورية لوضع السياسة الأمنية والإشراف على تنفيذها، ويمهد لاستعادة الدولة هيبتها وإشاعة بعض الاطمئنان في مجتمع فقد ثقته بالمؤسسات العامة وقدرات الأجهزة على حمايته من عنف المنظمات الإجرامية .

مجازفة ناجحة... ولكن

هنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد كان يدرك أن الاستفتاء يحمل مجازفة كبيرة، من شأنها أن تقضي على حظوظه في تجديد ولايته في انتخابات العام المقبل، بيد أنه كان يعرف أيضاً أن ترك الأمور على حالها سيؤدي إلى خروج الوضع الأمني عن السيطرة، ويفقده الشعبية التي رافقته خلال الأشهر الأولى من ولايته عندما أعلن الحرب على العصابات الإجرامية. غير أن مجازفة نوبوا نجحت، فجاءت نتائج الاستفتاء لتعزز موقعه، وتطلق يده لعسكرة السياسة الأمنية من دون اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ... كما كان يحصل غالباً عند التفاقم المتكرر للأزمات.

في المقابل، نجاح الاستفتاء وموافقة المواطنين على 9 من أصل 11 اقتراحاً لتعديل الدستور وتشديد الاستراتيجية الأمنية، لا يعالج بلا شك الجذور الهيكلية للأزمة، أي التفاوت الاجتماعي العميق، وانسداد الأفق أمام المجموعات الفقيرة والمهمشة وغياب الدولة عن المناطق الأكثر تأثراً بتداعياتها.

وبناءً عليه، لا يستبعد المراقبون، في حال استمرار تدهور الأوضاع الأمنية ولجوء الحكومة إلى مزيد من الإجراءات المتشددة، بل انتهاك حقوق الإنسان، على غرار ما يحصل في السلفادور مع رئيسها نجيب أبو كيلة، أن ينقلب السحر على الساحر... ويجد نوبوا نفسه في مأزق منحى تصعيدي يصعب جداً أن يخرج منه ظافراً.يضاف إلى ما سبق أن الأزمة المفتوحة التي نشأت عن عملية اقتحام السفارة المكسيكية مطلع الشهر الماضي لاعتقال نائب الرئيس الأسبق المطلوب من العدالة، والتي تمّت بأمر مباشر من نوبوا، استقطبت إدانة واسعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتترك حكومته بلا غطاء، في حال إقدامها على مزيد من التجاوزات.


الأزمة مع المكسيك... تتفاعل سياسياً وقضائياً

لوبيز اوبرادو (رويترز)
لوبيز اوبرادو (رويترز)
TT

الأزمة مع المكسيك... تتفاعل سياسياً وقضائياً

لوبيز اوبرادو (رويترز)
لوبيز اوبرادو (رويترز)

> مطلع أبريل (نيسان) الماضي أقدمت فرقة تابعة لوحدات الشرطة الخاصة في الإكوادور على اقتحام مقر السفارة المكسيكية في العاصمة كيتو. وهناك ألقت القبض على نائب الرئيس الأسبق خورخي غلاس، الذي كان لجأ إليها بعد صدور حكم مبرم بسجنه لضلوعه في فضيحة فساد مالي واسعة إبان ولاية الرئيس الأسبق رافايل كورّيا... المطلوب هو أيضاً من العدالة، والموجود حالياً في بلجيكا.

الرئيس المكسيكي خوسيه مانويل أوبرادور كان قد منح غلاس، الذي يحمل أيضاً الجنسية الألمانية، حق اللجوء السياسي قبل ساعات قليلة من اقتحام السفارة وإلقاء القبض عليه. وبعد عملية الاقتحام سارعت الحكومة المكسيكية إلى اتهام الإكوادور بانتهاك المعاهدات والمواثيق الدولية. وأعلنت من ثم رفع شكوى أمام محكمة العدل في لاهاي، وتقديم مشروع قرار في مجلس الأمن لفرض عقوبات على الإكوادور وتعليق عضويتها في الأمم المتحدة.

غلاس (رويترز)

على الأثر، ردّ رئيس الإكوادور دانيال نوبوا، من جهته، بالقول إنه ليس نادماً إطلاقاً على إصداره الأمر باقتحام السفارة... قبل أن يدعو الرئيس المكسيكي إلى تناول المقبّلات والتحاور.

نوبوا شدد على أنه اتخذ «القرار الصائب»، متهماً بعض الحكومات باستخدام سفاراتها كواجهة لمنح اللجوء السياسي، بينما هي وسيلة لإفلات المجرمين من العقاب. وأكد أنه «اضطر لاتخاذ القرار» بعد معرفته بوجود خطة وشيكة لفرار غلاس. ثم إن نوبوا قال إن المعاهدات الدولية، مثل «معاهدة فيينا حول الحصانة الدبلوماسية» و«معاهدة كاراكاس حول اللجوء السياسي»، تحتاج إلى تعديل، لأنه من غير المقبول أن تمنح الدول اللجوء السياسي إلى الذين يخضعون لأحكام قضائية «لكون ذلك يشكل تدخلاً في سيادة الدول وأنظمتها القضائية».

ولكن، وبعدما رفعت المكسيك شكواها إلى «محكمة العدل الدولية»، مدعومة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، أعلنت أنها ستقدم اقتراحاً بطرد الإكوادور من الأمم المتحدة إذا ثبت أنها انتهكت الميثاق التأسيسي للمنظمة الدولية. ثم دعا الرئيس المكسيكي إلى فرض عقوبات صارمة على الإكوادور كي لا يتكرر مثل هذا الانتهاك للقانون الدولي، مؤكداً المضي في طلب طردها من الأمم المتحدة في حال رفض الاعتذار والتعهد بألا يتكرر ما حصل. وشدد الرئيس لوبيز أوبرادور على أهمية اللجوء السياسي وحق الدول في منحه وفقاً لأحكام القانون الدولي «لأن المضطهدين لأسباب سياسية يستحقون الدعم والحماية، وهذا من ركائز السياسة الخارجية للمكسيك».

كورّيا (رويترز)

أيضاً دعت المكسيك إلى عقد اجتماع استثنائي لـ«منظمة البلدان الأميركية»، حيث حصلت على إدانة شديدة ضد الإكوادور بغالبية ساحقة من الأعضاء، ودعم شبه كامل من دول أميركا اللاتينية والكاريبي، باستثناء السلفادور التي امتنعت عن التصويت. غير أن نوبوا رد على التصعيد المكسيكي برفع شكوى أمام «محكمة العدل الدولية» ضد لوبيز أوبرادور بتهمة «التدخل في الشؤون الداخلية» لبلاده عند منحه اللجوء السياسي إلى غلاس، الذي يراكم عدة أحكام مبرمة بتهم الفساد، وكان على وشك أن يَصدر حكم آخر بحقه عندما لجأ إلى سفارة المكسيك. وراهناً تطلب السلطة الإكوادورية، في شكواها إلى «محكمة العدل الدولية» إدانة الرئيس المكسيكي بتهمة انتهاك مبدأ امتناع التدخل في الشؤون الداخلية للدول عندما أدلى بتصريحات تشكك في شرعية الانتخابات الرئاسية التي فاز بها نوبوا العام الماضي.

الواقع، أن مانويل لوبيز أوبرادور كان قد أدلى في أحد مؤتمراته الصحافية اليومية بتصريحات أوحى فيها بأن نوبوا فاز في الانتخابات بفضل اغتيال أحد المرشحين على يد إحدى المنظمات الإجرامية، عندما كانت مرشحة «الثورة المدنية» متقدمة بعشر نقاط على نوبوا في استطلاعات الرأي. وتجدر الإشارة، إلى أن غلاس ينتمي إلى حزب «الثورة المدنية» الذي يتزعمه الرئيس الأسبق رافايل كورّيا الذي تربطه علاقة شخصية وسياسية وطيدة بالرئيس المكسيكي، وينتمي كلاهما إلى معسكر اليسار في أميركا اللاتينية.


العراق: السوداني يمسك رمّانتي بايدن وإردوغان بيد واحدة

السوداني بصافح ضيفه الرئيس التركي إردغان في بغداد (آ ب)
السوداني بصافح ضيفه الرئيس التركي إردغان في بغداد (آ ب)
TT

العراق: السوداني يمسك رمّانتي بايدن وإردوغان بيد واحدة

السوداني بصافح ضيفه الرئيس التركي إردغان في بغداد (آ ب)
السوداني بصافح ضيفه الرئيس التركي إردغان في بغداد (آ ب)

بعد يوم من عودة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى بغداد، بعد زيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، استغرقت أسبوعاً، زار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان العاصمة العراقية. وبينما وصفت زيارة السوداني إلى واشنطن، وهي الأولى له منذ توليه منصبه أواخر عام 2022 بـ«الناجحة»، وصفت بـ«التاريخية» الزيارة التي قام بها الرئيس التركي، التي هي الثانية له منذ 13 سنة إلى العراق. وللعلم، كان رئيس الوزراء العراقي قد التقى في واشنطن الرئيس الأميركي جو بايدن، في وقت يواجه خصوماً واضحين وآخرين غامضين في الداخل وسط تأييد سياسي وشعبي كبيرين. ومعلوم أن بايدن يخوض معركة انتخابية مصيرية بالنسبة له ضد خصمه العنيد الرئيس السابق دونالد ترمب. أما فيما يتعلق بالرئيس إردوغان، فقد التقاه السوداني ورفع يده فيما بات أقوى سلاح يواجه به خصومه، وبعضهم من القوى التي تملك السلاح وتستخدمه أحياناً ضد الدولة، وهو مشروع «طريق التنمية».

تبدو رهانات كل من رئيس وزراء العراق محمد شيّاع السوداني، وضيفه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، مختلفةً بشأن «طريق التنمية» الذي يسعى من خلاله الأول لتعزيز موقفه أمام من يلوح أمامه بين فترة وأخرى بورقة الانتخابات المبكرة. وفي المقابل، فإن الأمر بالنسبة لإردوغان جزءٌ من إرث سياسي يريد أن يبقيه لحزبه - حزب «العدالة والتنمية» - أمام خصومه من أحزاب المعارضة، بالأخص بعدما خسر أمامهم الانتخابات المحلية.

ووفقاً لهذه المعادلة الثلاثية، يبدو السوداني هو الرابح الأكبر من زيارته إلى واشنطن التي يرى المراقبون أنها وإن كانت لا تضيف الكثير إلى رصيد بايدن، فإنها حتماً تأتي بفائدة لا شك فيها إلى رصيد السوداني. كذلك، وفق المراقبين، فإن زيارة إردوغان البغدادية بالكاد تجعل كفته السياسية أمام خصومه المحليين راجحة حتى بعد توقيعه في بغداد على مشروع «طريق التنمية»، بعكس النفع الكبير المرتقب للسوداني في الداخل العراقي، لا سيما أن كثيرين يعدون «طريق التنمية» المشروع الأكبر بعد مشاريع مجلس الإعمار التي قادها في خمسينات القرن الماضي رئيس وزراء العراق (آنذاك) نوري السعيد.

تأييد شبه كامل من السنّة والكرد

المفارقة اللافتة أن الحراك السياسي والتنموي الذي يقوده السوداني منذ توليه السلطة في العراق، قبل نحو سنة ونصف السنة، يحظى بتأييد يكاد يكون كاملاً من قبل السنة والكرد، لكنه ما عاد يحظى بتأييد كامل من قبل القوى السياسية الشيعية. وما يستحق الذكر هنا أن القوى الشيعية، تحديداً قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي، التي كانت قد رشحته للمنصب، رغم أنها تبدو ظاهرياً داعمةً للسوداني، بما في ذلك زيارته إلى الولايات المتحدة - ولقد أصدرت بياناً بذلك - فإنها من الناحية العملية تبدو في وضع لا تُحسد عليه لجهة الخلافات في ما بين بعض أطرافها.

في المقابل، على الرغم من المطالب التي يعبّر عنها السنة والكرد، سواءً ما يخص عمل الحكومة أو المطالب التي تخص الشريك الشيعي في البرلمان أو ضمن «ائتلاف إدارة الدولة»، تظل المشكلة الحقيقية داخل الوسط الشيعي مختلفة وأكثر تعقيداً مما تبدو عليه ظاهراً. ونعم، كان هناك خلاف داخل البيت السني بشأن منصب رئيس البرلمان الشاغر حتى الآن. وأيضاً هناك الخلاف الكردي - الكردي بين الحزبين الرئيسين الذي يتركز اليوم بالدرجة الأولى على موضوع انتخابات الإقليم.

ولكن في ما يتعلق بالمكون الشيعي، في هذه الأثناء، فإن قوى «الإطار التنسيقي» تظهر نفسها بأنها موحدة داخل البرلمان بوصفها الغالبية... إلا أنها في واقع الأمر تتكون من ثلاث قوى تتنافس مرة وتتصارع مرة وهي: «الإطار التنسيقي» نفسه الذي يضم القوى والأحزاب المشاركة في البرلمان والحكومة، و«التيار الصدري» المنسحب من البرلمان وغير المشارك في الحكومة حالياً، والفصائل المسلحة التي لدى بعضها أجنحة في «هيئة الحشد الشعبي»... الذي هو مؤسسة أمنية رسمية لكنها تعلن دائماً أنها ليست جزءاً من العملية السياسية الحالية، وإن عملها في العراق ذو بُعد عقائدي.

من لقاء السوداني في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي بايدن (د ب أ)

حصاد السوداني

في أي حال، اليوم، بعد مرور أكثر من سنة ونصف السنة على تولي السوداني السلطة وتبنيه مصطلح «الدبلوماسية المنتجة»، يبدو رئيس الوزراء العراقي في وضع مريح لجهة ما بدا أنه حصادٌ لدبلوماسيته المنتجة. إذ زيارته للولايات المتحدة جاءت في أعقاب جدل حاد مع التحالف الدولي والولايات المتحدة نفسها بشأن توصيف التحالف الدولي وانتقال العلاقة معه إلى علاقة ثنائية.

ولقد كان الطلب العراقي بهذا الخصوص قد سبق زيارة السوداني بأكثر من شهر ونصف الشهر، حتى أن كثيرين لا سيما من خصوم السوداني، راهنوا على أن الزيارة لن تتم. ففي شهر فبراير (شباط) الماضي أعلنت الخارجية العراقية استئناف عمل اللجنة الثنائية بين العراق والتحالف الدولي، التي كان العراق قد أعلن عنها في بيان رسمي على لسان الناطق العسكري باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى الزيدي ووزارة الخارجية.

وكان من أول مؤشرات ذلك على أرض الواقع بدء هدنة بين واشنطن من جهة والفصائل المسلحة من جهة أخرى، وبتأثير من السوداني. وهو ما أعطته «كتائب حزب الله» مسمى «الدفاع السلبي» عقب بيانها الخاص بتعليق عملياتها قبل اغتيال القيادي فيها أبو باقر الساعدي. وفي سياق بدء عمل اللجنة العراقية - الأميركية لتحديد شكل العلاقة بين بغداد وواشنطن بعد نهاية التحالف الدولي، أكد الدكتور حسين علاوي، مستشار رئيس الوزراء، لـ«الشرق الأوسط»، أن «استئناف عمل اللجنة الثنائية العراقية - الأميركية مهمٌ جداً وخطوة فعالة من الحكومة العراقية، لوضع الجدول الزمني للانسحاب المنظم الذي قرّره رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في الخامس من يناير (كانون الثاني) 2024 لإنهاء مهام التحالف الدولي، ونقل العلاقات العراقية مع دول التحالف الدولي إلى علاقات طبيعية ثنائية، والعودة إلى مرحلة ما قبل سقوط الموصل للعلاقات المتكاملة وفقاً للمصالح الاستراتيجية الوطنية العراقية كمحدد استراتيجي لهذه العلاقات».

وأضاف علاوي أنه «بالإضافة إلى ذلك هناك تقييم التهديدات ومستواها التأثيري على مسرح العمليات التشغيلي، وتقييم قدرات التنظيم الإرهابي (داعش) في العالم وحجم تأثيره في العراق... إذ إن إنهاء مهام التحالف الدولي سيكون مدخلاً استراتيجياً لانتقال البلاد نحو الاستقرار والتقدم والازدهار الاقتصادي، بدلاً من العسكرة والتعبئة لمكافحة الإرهاب، وبذلك نغلق فصلاً من التعاون مع التحالف الدولي امتد لعشر سنوات».

من جهة ثانية، قال علاوي إن «العراق اليوم أفضل بقابلياته القتالية واستعداداته العسكرية، لبناء القدرات وإعادة التنظيم للقوات المسلحة... في مرحلة بناء السلام التي أعطت خبرةً وتمرساً كبيراً لمهارات القوات المسلحة العراقية في القتال وفرض القانون ومواجهة الإرهاب والتطرف العنيف». وأشار إلى أن «النظر إلى الدولة الطبيعية في الوضع العراقي... أمر مهم جداً في هذه اللحظة التاريخية، التي ينتظرها الشعب العراقي من أجل التركيز على بناء مصدّات أمنية فعالة للسيطرة على مكامن الإرهاب وتفكيكها وتفكيك البؤر الاستراتيجية والعقد الجغرافية التي تحتضن فلول التنظيم الإرهابي (داعش)». ولفت إلى أنه مع كل محاولات الفصائل المسلحة ثني السوداني عن استكمال إجراءاته في تنظيم العلاقة مع الولايات المتحدة، أو على صعيد فرض الهدنة مع الفصائل، فإن واشنطن بدتْ هي الأخرى جادة في التعامل مع تلك الفصائل بما لا يؤدي الى إفساد مهمتها في العراق والمنطقة.

واشنطن جادة

أما الدكتور عصام فيلي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، فقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الواضح أن الولايات المتحدة جادة في توجيه الضربات، لكن هذا الأمر يخضع في النهاية لعدة آراء داخل الإدارة الأميركية. إذ هناك من يَرى أن القصف الذي حصل للموقع الحدودي الأردني ـ السوري نفذه وكلاء إيران في المنطقة، وبالتالي، لا ينبغي أن تكون الضربة في العمق الإيراني كجزء من رغبة أميركية في أن لا يتوسع نطاق المواجهة».

ورداً على سؤال بشأن موقف الحكومة العراقية، ذكر فيلي أن «الحكومة العراقية، في إطار المعالجة، كانت قد رتّبت الأمر في ما يتعلق بالتحالف الدولي، وعبر اللجنة الثنائية التي جرى تفعيلها. لكن من ضمن قوات التحالف الدولي هناك الولايات المتحدة الأميركية التي لدى العراق معها اتفاقية، وهي التي تنص على إبلاغ أحد الطرفين في حال أراد أحدهما إنهاء الاتفاقية. ولذلك تم تشكيل اللجنة مع أن الضربة وقعت بعد 24 ساعة من بدء عمل اللجنة».

وبشأن تنظيم العلاقة بين واشنطن وبغداد، يرى فيلي أن «إعادة تفعيل عمل اللجنة الثنائية العليا بين العراق والولايات المتحدة الأميركية يعني أن الحكومة سائرة في نهجها في معالجة القضايا العالقة بين العراق وأميركا عبر آليات الحوار... في محاولة للتخفيف من حدة الضغط الذي تتعرض له الحكومة، بخاصة أن هذا الموقف جاء بناءً على مواقف القوى السياسية، بالذات (قوى الإطار التنسيقي) الشيعي التي ترى أن من الضروري مراعاة مصلحة العراق، بحيث تأخذ مساراً رسمياً بطريقة لا تثير حفيظة الأطراف الأخرى».

ثم تابع شارحاً: «ضمن هذا (الإطار)، أرى أن هذا النهج يسير بطريقة معقولة، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المطالب الرافضة للوجود الأميركي في العراق، والمطالبة بضرورة الانسحاب السريع. وفي مقابل ذلك هناك أطراف تريد بقاء القوات الأميركية، هم الكرد والسنة، الذين يرون أن أي محاولة للمعالجة السريعة غير البناءة يمكن أن تجر العراق إلى مساحات أخرى على الأصعدة المختلفة، في مقدمها البعد الاقتصادي والملفات الأخرى التي تحتاج إلى معالجات هادئة من دون فرض الإرادات من قبل هذا الطرف أو ذاك».

قوى «الإطار التنسيقي» تُظهر نفسها بأنها موحدةٌ داخل البرلمان بوصفها الغالبية...

إلا أنها في واقع الأمر تتكون من ثلاث قوى تتنافس مرة وتتصارع مرة



إنهاء مهام التحالف

!في السياق نفسه، عدَّ الدكتور إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد لـ«الشرق الأوسط»، أن «الخيارات أمام صانع القرار السياسي في العراق لإعادة التفاوض مع الأميركيين يمكن أن تبدأ بإنهاء مهام التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق. وربما يكون هذا التفاوض هو البداية للانطلاق نحو إعادة هندسة العلاقات بين واشنطن وبغداد». وأردف: «لكن الحكومة العراقية، حتى الآن، لا تملك رؤيةً واضحةً بشأن الاتجاه الذي يمكن أن تكون عليه العلاقات بين العراق وأميركا... هل هي علاقة صداقة أم شراكة استراتيجية أو تحالف، وإشكالية تحديد أي توصيف من هذه التوصيفات... هل هو من قرار الحكومة أم بعض الزعامات السياسية التي تسوّق نفسها على أنها معادية للأميركيين وترفض العلاقة معها بأي شكل كانت؟... هذه الإشكالية التي لم تتضح خيوط حلها لدى حكومة السوداني حتى الآن».

أما بشأن موضوع العقوبات على المصارف، فيرى العنبر أن «الخزانة الأميركية واضحة بشأن هذا الموضوع. إذ تعده مرتبطاً بتهريب الدولار إلى دول تفرض عليها الولايات المتحدة عقوبات. وعجز حكومة بغداد، تحديداً البنك المركزي العراقي، عن معالجة هذه المشكلة، هو السبب في العقوبات. ومن ثم فهذا الموضوع على امتداد أكثر من سنة هي عمر الحكومة، فشلت الحكومة في معالجته. وهذا الفشل في المعالجة لا يعطيها قوة في التفاوض بشأن هذا الموضوع». ومن ثم أوضح الأكاديمي العراقي «أن حكومة السوداني ممكن أن تنجح في إعادة رسم ملامح العلاقة مع واشنطن إذا تمكنت من إقناعهم بنقل العلاقة مع واشنطن من الجانب الأمني إلى الشراكة الاقتصادية».

في هذه الأثناء، ما بين رحلة السوداني إلى واشنطن وبين زيارة إردوغان الى بغداد، يبدو «حصاد» محمد شيّاع السوداني مستمراً لجهة ترسيخ أقدامه أمام خصومه وتقوية موقفه بالتزامن مع ما بات يحظى به من تأييد شعبي. ولكن في حين تمكن السوداني في واشنطن، خلال زيارته التي استغرقت 6 أيام، من حسم الكثير من النقاط العالقة بين البلدين، والتوقيع على عشرات الاتفاقات مع الحكومة الأميركية على صعيد عقود التسليح ومع الشركات الأميركية بشأن العديد من الميادين والفرص الاستثمارية في العراق، فإن الملفات التي كان حملها الرئيس التركي معه إلى بغداد ملفات مختلف عليها بين مختلف الأوساط العراقية.والواقع، أن المتغير المهم على صعيد العلاقات العراقية - الأميركية هو الموقف من الفصائل المسلحة التي تنادي بانسحاب كامل لما تبقّى من قوات أميركية في العراق تصنفهم بغداد بأنهم «مستشارون». وفي المقابل، المتغير الأهم في العلاقة بين بغداد وأنقرة هو الموقف من «حزب العمال الكردستاني» المختلف على توصيفه في العراق.

حقل كورمور للغاز بمحافظة السليمانية في كردستان العراق (رويترز)

الظاهر والخفي... في علاقات بغداد مع واشنطن

قبل أن تحط طائرة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني في قاعدة إندروز الجوية بولاية ماريلاند الأميركية، كانت كل القوى السياسية والبرلمانية العراقية أعلنت تأييدها، ليس للزيارة وحسب... بل أيضاً لمخرجات تلك الزيارة قبل أن يبدأ رئيس الوزراء مباحثاته في اليوم التالي مع المسؤولين الأميركيين. ذلك أن البرلمان العراقي، المكوّن من 329 نائباً، أصدر بياناً أعلن فيه تأييده لزيارة السوداني. وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعي أصدرت بياناً أيّدت فيه مقدماً الزيارة ومخرجاتها. وأيضاً «ائتلاف إدارة الدولة»، الذي هو الكتلة البرلمانية الأكبر الداعمة للحكومة، أصدر هو الآخر بيان تأييد مما يعني أن السوداني وقبيل لقائه مع الرئيس الأميركي جو بايدن بات يحظى بإجماع عراقي شامل. إلا أن ما خفي من بعض الأمور كان مختلفاً عن ظاهرها، بما في ذلك هدنة الفصائل المسلحة مع القوات الأميركية، وما تعرّض له حقل كورمور الغازي في محافظة السليمانية بإقليم كردستان العراق من قصف بطائرة مسيّرة بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى بغداد بأيام قلائل. إذ وضع هذا الأمر مزيداً من علامات الاستفهام حيال ما يجري. وفي حين بدت عملية قصف حقل كورمور الغازي وكأنها جزءٌ من مساعي تقويض الأمن، فإنها من جهة أخرى تبدو جزءاً من عملية تصفية الحسابات في الداخل العراقي بين عدة أطراف تتداخل فيها المصالح وتتشابك مع أطراف خارجية، لا سيما تركيا وإيران، بخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار طبيعة التصريحات والتصريحات المضادة لبعض الأطراف... من بينها أطراف كردية. ولكن ما أعلنه رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني خلال اجتماع «ائتلاف إدارة الدولة» الذي عُقد في القصر الحكومي ببغداد، والذي خصّص لمناقشة زيارة رئيس الوزراء إلى واشنطن وزيارة إردوغان إلى بغداد، هو أن الأجهزة الأمنية العراقية توصلت إلى خيوط أولية بشأن الجهة المتورطة في قصف الحقل الغازي في السليمانية. ومع أن السوداني ترك النهايات مفتوحةً بانتظار ما يمكن أن تسفر عنه النتائج، فإن ما أعلنه بدا رسالةً مبطنةً إلى الجهة المتورطة بالقصف، مضمونها أن الدولة العراقية تعرف هوية هذه الجهة بصرف النظر عن الإجراءات التي يمكن اتخاذها ضدها الآن أو في المستقبل.


الكويت... صيف ساخن ينتظر «الحكومة الـ 46»

متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)
متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)
TT

الكويت... صيف ساخن ينتظر «الحكومة الـ 46»

متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)
متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)

جاءت رياح انتخابات مجلس الأمة الكويتي (البرلمان)، في الرابع من أبريل (نيسان) 2024، بما لا تشتهي سفينة الحكومة ولا سفن أخرى، كانت تنتظر أن يهبّ الكويتيون لتغيير التركيبة السياسية التي تحكم السلطة التشريعية منذ نحو عقدٍ من الزمان، وتقاسمت خلالها مع الحكومة الاضطراب السياسي الذي تشهده البلاد. إذ كان التغيير طفيفاً، ولا يعتدّ به. ذلك أنه على الرغم من أن التقديرات الأولية أشارت إلى أن نسبة التغيير في انتخابات 2024 بلغت 22 في المائة، فإن النسبة الحقيقية كانت في حدود 10 في المائة فقط، مع بقاء 90 في المائة من التركيبة البرلمانية السابقة، إذا جرى احتساب أن ثلاثة نواب سابقين لم يرغبوا أصلاً في خوض السباق الانتخابي، ونائب رابع شطب ترشحه هو مرزوق الحبيني، ومع عودة ثلاثة نواب سابقين للقبة البرلمانية: نائبان من مجلس 2016 وهم صالح عاشور وأحمد الفضل، ونائب واحد من مجلس 2020 هو الدكتور عبيد الوسمي. وبالتالي، لم يشمل التغيير في هذه الانتخابات سوى دخول 8 نواب جدد فقط من أصل 50 نائباً.

داخل قاعة مجلس الامة (كونا)

الانتخابات الكويتية السابقة جاءت على وقع حلّ برلمان عام 2023 (بعد عمر لم يتجاوز 9 أشهر)، لسبب لا يتصل مباشرة بالعلاقة المضطربة بالحكومة، بل إن الحل وهو الأول من نوعه من حيث التسبيب جاء «بناء على ما بدر من مجلس الأمة من تجاوز للثوابت الدستورية في إبراز الاحترام الواجب للمقام السامي وتعمد استخدام العبارات الماسة غير المنضبطة»، حسبما جاء في مرسوم الحلّ رقم 16 لسنة 2024 في 15 فبراير (شباط) الماضي. ومنذ كان ولياً للعهد، دأب الشيخ مشعل الأحمد الصباح، أمير الكويت على تأكيد «تصحيح المسار». ويوم 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي وجه انتقادات لاذعة لعمل السلطتين التشريعية والتنفيذية في أول خطاب له بعد أدائه اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة أميراً للبلاد، متهماً إياهما بالتواطؤ في الإضرار بمصالح البلاد.

مفاجآت انتخابية

المفاجأة الأولى التي حملتها الانتخابات تمثلت في أن العملية الانتخابية أسفرت عن عودة كامل الوجوه القديمة، وإضافة وجوه أخرى كانت تعدّ من «الصقور». بل إن النائب المتهم بإطلاق التوصيفات التي صدر بسببها مرسوم الحلّ، وهو عبد الكريم الكندري، حقق فوزاً ساحقاً في الدائرة الثالثة، وجاء في المركز الأول بعدد أصوات بلغ 9428 صوتاً.

أما المفاجأة الثانية، فكانت نسبة الإقبال على الاقتراع، إذ فاقت النسبة الـ62 في المائة. ومع نسبة مشاركة عالية بلغت 62.10 في المائة من الناخبين البالغ عددهم 518 ألفاً و365 ناخباً من أصل 835 ألفاً يحق لهم التصويت - أكثر من نصفهم من النساء - رغم الظروف المصاحبة لإجراء الانتخابات ووقوعها في أواخر شهر رمضان، وأيضاً مع تكرار توجه الناخبين للاقتراع، وسط فقدان الأمل بحدوث تغيير حقيقي، بدا أن النسبة العالية أبرزت قلقاً على مصير التجربة الانتخابية في الكويت، ورغبة في تأكيد التمسك بها، مع تكرار عمليات حلّ المجلس. ثم إنها أظهرت أيضاً قلقاً آخر بشأن إجراءات سحب الجناسي، وهو موضوع اختارت الحكومة طرحه بموازاة الحملات الانتخابية، بعدما أعلنت عن عزمها على مكافحة مزوري ومزدوجي الجنسية، ودعت الجمهور للإبلاغ عنهم. هذا الموضوع شكل في الواقع القضية الأساسية للانتخابات. وبحسب أحد النواب الفائزين لـ«الشرق الأوسط»، فإن الكويتيين خاضوا انتخابات 2024 من دون قضية مركزية، إلى أن جاءت التصريحات الحكومية بشأن مكافحة تزوير الهوية الوطنية (الجنسية) وملاحقة المزدوجين، لكي تشدّ العصب في اتجاهين متناقضين: الاتجاه الأول الجمهور الذي كان يخشى استغلال قضايا الهوية الوطنية للعقاب السياسي، وهؤلاء أكثرهم من الاتجاهات القبلية. والاتجاه الثاني الذي أظهر تشدداً وحزماً نحو حماية الهوية الوطنية ومكافحة المزورين.

لقد أنتجت الانتخابات أيضاً مجلساً تهيمن عليه المعارضة التي حافظت على مقاعدها الـ29 من أصل 50، وإن كانت معارضة مفتتة وغير متجانسة، وسيكون بإمكان الحكومة أن تشدّ بعض الكتل والمستقلين نحوها. بل إن الخلافات بين أعضاء المجلس تبدو أحياناً أقوى مما هي عليه مع الحكومة، أضف إلى ذلك أنه عادة ما يمثل قطاع واسع من النواب الانقسام السياسي الأكبر الذي تقوده أقطاب بارزة في الدولة.

خريطة المجلس

لقد تقاسم مجلس الأمة بالمناصفة: الحَضَر (25 نائباً)، والقبائل (25 نائباً). وجاء الإسلاميون السنة بنصيب وافر (8 مقاعد للتيار السلفي)، ومقعد واحد من أصل ثلاثة للحركة الدستورية الإسلامية (حدس – الإخوان المسلمين) مع وجود نواب مقربين لها في العديد من الدوائر. وحصل الإسلاميون الشيعة على 3 نواب: «نائبان للتآلف الإسلامي»، ونائب واحد لـ«تجمع العدل والسلام». ولوحظ أن الانتخابات الأخيرة أسوة بالانتخابات التي سبقتها شهدت تراجعاً في مزاج الناخب الشيعي في الكويت لصالح دعم مرشحين ليبراليين أو مستقلين، مع تمثيل المرأة الوحيدة في المجلس لدورتين، الدكتورة جنان بوشهري، كما حصل نائبان شيعيان على التمثيل لأول مرة، وهما من فئة الشباب: محمد جوهر حيات (ليبرالي)، وباسل البحراني، الذي ينتمي إلى التكتل الشعبي الذي يقوده النائب السابق مسلم البراك (يمثل هذا التكتل حالياً نائبان، هما البحراني، ومحمد الدوسري)، وهكذا يصبح مجموع النواب الشيعة في هذا المجلس ثمانية.

مشاركة واسعة في الافتراع (كونا)

العواصف المقبلة

نتيجة هذه الانتخابات ظهرت بوضوح في قرار رئيس الحكومة السابق، الدكتور محمد صباح السالم، الاعتذار عن تشكيل الحكومة المقبلة، وذلك بعد أول تجربة له في قيادة «الكابينة» الوزارية، وفي أعقاب موجة تفاؤل وترحيب لم يسبق لهما مثيل، استقبلته يوم تعيينه رئيساً للوزراء في 4 يناير (كانون الثاني) 2024. لكن المدة التي أمضاها رئيساً للوزراء لم تتجاوز 100 يوم.

وعلى الأثر جرى تعيين رئيس وزراء جديد، يتولى قيادة الحكومة لأول مرة، هو الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح. وفي حال تشكيل حكومته الجديدة سيصبح الشيخ أحمد العبد الله، رئيس الوزراء الحادي عشر في تاريخ الكويت، وستحمل حكومته المقبلة الرقم 46 في تاريخ الحكومات منذ نحو 62 سنة هو عمر الحكومات الكويتية.

ولكن إذا نظرنا إلى الصورة القريبة، فإن الحكومة العتيدة ستكون الرابعة في ظرف ثلاث سنوات فقط. ويكفي أن نشير إلى أنه خلال سنتين جرى تكليف ثلاثة رؤساء للحكومات، كما أن الرئيس الأول، وهو الشيخ أحمد النواف، مكث في منصبه نحو سنة ونصف شكّل خلالها أربع وزارات. ومنذ عام 2022 تم انتخاب ثلاثة مجالس نيابية في غضون سنتين. ومنذ عام 2020، نظّمت أربع انتخابات برلمانية في الكويت، وحُلّ مجلس الأمة السابق 2023 في فبراير (شباط) الماضي، بعد نحو تسعة أشهر فقط على بدء أعماله.

فضلاً عما سبق، فإنه قبل أسبوعين من موعد افتتاح أعمال مجلس الأمة، وتقديم الحكومة تشكيلتها للمجلس، توعّدت مجموعة من النواب كلاً من رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالاستجواب، على خلفية توقيف مرشح سابق بسبب تصريحات منسوبة إليه تمثّل تجاوزاً على الذات الأميرية، بحسب النيابة. غير أنه من الواضح أن هذه الحادثة، ومعها قضايا ملاحقة مزوري الجنسية، تمثلان «رأس جبل الجليد» في الثقة المعدومة بين النواب والحكومة، وخاصة أن علاقة المجلس السابقة برئيس الحكومة الجديد لم تكن على وفاق حين كان وزيراً في الحكومات السابقة.

أنتجت الانتخابات مجلساً تهيمن عليه

المعارضة

التي حافظت

على مقاعدها

الـ29 من أصل 50

آفاق المرحلة المقبلة

بالنسبة لآفاق المرحلة المقبلة، توّقع المحلل السياسي الكويتي الدكتور عايد منّاع في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تشهد العلاقة بين المجلس الجديد والحكومة المقبلة «شدّاً وجذباً» في المرحلة المقبلة. ويلاحظ الدكتور منّاع، أن رئيس الوزراء الجديد يمتلك سجلاً من العلاقات السابقة بالبرلمان، إذ سبق له شغل مناصب وزارية متعددة كالمالية والمواصلات والنفط والإعلام والصحة. ولكن في المقابل أيضاً، كان يشوب هذه العلاقة كثير من الشوائب، وكانت لكثرة من نواب البرلمان تحفظات عليه في المرحلة السابقة قبل أن يكلف رئاسة الوزارة. ومع أن الرئيس الجديد القادم من القطاع الخاص، يمتلك تأهيلاً جيداً، فإن العلاقة المستقبلية بين رئيس الوزراء وحكومته، وبين البرلمان، تعتمد على السياسة التي ستتبناها الحكومة في علاقتها بالبرلمان، وعلى الخطوات التي ستقوم بها.

أما عما يتعيّن على رئيس الوزراء القيام به، فهنا يقول الدكتور عايد مناع «يتعيّن على رئيس الوزراء الجديد، كي يتجنب المواجهة مع البرلمان، أن يتعامل معه بطريقة مهنية تتضمن تلبية مطالب النواب وفقاً للقانون وبأسرع طريقة ممكنة. وعدا ذلك فإن العلاقة ستشهد مرحلة من التجاذب لكنها قد لا تصل إلى القطيعة إذا ما أجاد رئيس الوزراء كيفية التعامل وامتصاص ردود الفعل، وقدّم رؤى حقيقية من القيادة السياسية لتحسين الأوضاع الداخلية في البلد من تحسين رواتب المواطنين وتنظيم مصادر الدخل وضبط الأمن الداخلي وتجنب استفزاز المجتمع بملفات معينة، مثل قضايا التجنيس وغيرها».

 

الدكتور عايد المناع (الشرق الأوسط)

من هو رئيس الوزراء المقبل؟

رئيس الوزراء الجديد الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح (مواليد 5 سبتمبر (أيلول) 1952)، هو الابن الخامس للشيخ عبد الله الأحمد الجابر الصباح، الابن الأكبر لحاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح. وهو مثل سلفه الشيخ محمد صباح السالم، متخصص في الاقتصاد، إذ التحق بجامعة إيلينوي في الولايات المتحدة؛ حيث درس تمويل البنوك والاستثمارات، وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1976. بعد ذلك، في عام 1978 عمل في المركز المالي الكويتي، ثم انتقل إلى العمل في البنك المركزي الكويتي، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1987. وكان في ذلك الوقت يشغل منصب مدير إدارة الرقابة المصرفية بدولة الكويت.

في عام 1987 تولى الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح منصب رئيس مجلس إدارة بنك برقان الكويتي، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1998. أما أول منصب وزاري يتولاه فكان تعيينه وزيراً للمالية ووزيراً للمواصلات يوم 13 يوليو (تموز) 1999. بعدها، في 14 فبراير 2001 جرى تعيينه وزيراً للمواصلات مجدداً. وفي 14 يوليو 2003 عيّن وزيراً للمواصلات ووزيراً للتخطيط ووزير دولة لشؤون التنمية الإدارية. وفي 15 يونيو (حزيران) 2005 عيّن وزيراً للمواصلات ووزيراً للصحة. ومن ثم عُين في 9 فبراير 2006 وزيراً للصحة. وفي 10 يوليو 2006 أعيد تعيينه وزيراً للصحة مرة أخرى.

صدام مع البرلمان

لقد شهدت مسيرة الشيخ أحمد صداماً مع البرلمان، حين قُدّم له في 19 فبراير 2007 استجواب من عدد من أعضاء مجلس الأمة، وتقرر تقديم طلب طرح ثقة فيه. عندها أقدمت الحكومة على تقديم استقالتها في 4 مارس (آذار) 2007، ورفض الشيخ أحمد الصباح العودة إلى الحكومة التي تلتها في أي منصب وزاري آخر. بيد أنه عاد يوم 9 فبراير 2009 ليشغل منصب وزير النفط، ثم في 29 مايو (أيار) من العام نفسه أسندت إليه أيضاً حقيبة وزارة الإعلام بجانب وزارة النفط، وظل بهذا المنصب حتى 8 مايو 2011 عندما شُكّلت حكومة جديدة ولم يكن ضمن الوزراء بها. ولاحقاً، في 20 سبتمبر 2021 صدر مرسوم بتعيينه رئيساً لديوان ولي العهد بدرجة وزير لمدة أربع سنوات.


خصوصية الكويت بعد الأحداث و«المتلازمة الثلاثينية»

الدكتور عبد الله سهر (الشرق الأوسط)
الدكتور عبد الله سهر (الشرق الأوسط)
TT

خصوصية الكويت بعد الأحداث و«المتلازمة الثلاثينية»

الدكتور عبد الله سهر (الشرق الأوسط)
الدكتور عبد الله سهر (الشرق الأوسط)

> ليست الكويت وحدها التي تعيش تداعيات التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، بل يشمل ذلك جميع دول المنطقة. لكن الكويت لها خصوصيتها من حيث إنها خلال هذه الفترة تمرّ في انتقال سياسي داخلي بعد انتخابات مجلس الأمة التي حدثت بتاريخ 4 أبريل (نيسان) 2024.

ولا شك أن الكويت كبقية الدول الخليجية تتأثر بوقائع السياسة الإقليمية والدولية التي تشهد هي الأخرى اضطرابات كبيرة تمتد من المسرح العسكري في الحرب الروسية الأوكرانية إلى الحرب الفلسطينية - الإيرانية - الإسرائيلية، وكذلك في المسرح الاقتصادي العالمي الممتد من المواجهة بين الصين والولايات المتحدة على رقعة التجارة العالمية البحرية والبرية والمالية. وما يتوّج تلك الأحداث هو الهجوم الصاروخي الذي شنّته إيران على إسرائيل، والذي يعدّ أيضاً من ملامح تصاعد دخان المعارك في المنطقة منذرةً بـ«بسيناريوهات» متعددة ومعقدة.

إذن، هناك أحداث ساخنة تحيط بالكويت من الداخل والخارج، ما يجعلها من أكثر الدول حساسية وتأثراً في المنطقة الخليجية الاستراتيجية.

الحقيقة، لم تكن هذه الظروف الأولى من نوعها، حيث تجتمع متغيرات وتحديات داخلية وخارجية تحيط بالكويت، بل هي متكررة على مدى أكثر من 100 سنة منذ أن تقلد الشيخ مبارك الصباح الحكم عام 1896 حين شهدت الكويت مشكلات داخلية، وأحاطت بالمنطقة تحديات خارجية، تمثلت في تصاعد حدة الصراع بين بريطانيا والدولة العثمانية وحلفائهم الميدانيين في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة.

ثم تكررت الأحداث الداخلية والتحديات الخارجية في حقبة الثلاثينات من القرن الماضي منذ طالبت الحكومة الملكية العراقية بالكويت إلى عام 1938 حين حدثت المواجهة بين مجلس الشورى وحاكم الكويت حينها الشيخ أحمد الجابر. ومن ثم، تكررت في بداية الستينات عندما استقلت الكويت، وسرعان ما واجهت تهديدات عبد الكريم قاسم بضمّها إلى العراق، وبروز الدعوات لوضع النظام الدستوري والبرلماني. ثم عاودت المشكلات الداخلية والتحديات ذاتها الظهور عام 1990، وتمثلت في أحداث «دواوين الاثنين» ومطالباتها بعودة الديمقراطية، والتحدي الخارجي الذي تمثل في العدوان العراقي على الكويت، وفي الوقت الراهن تعاود المشكلات الداخلية والتحديات الخارجية تكرار نفسها بشكل مختلف. والملاحظ مما تقدم أن هذه الأحداث تتكرر كل 30 سنة تقريباً... وبالتالي، يصدق وصفها بـ«متلازمة الكويت الثلاثينية».

لكن في المقابل، من الخبرات الماضية، استطاعت القيادة الكويتية أن تخرج من كل هذه التجارب إلى آفاق جديدة لتنطلق إلى فضاء رحب جديد. وهذه المرة، الكويت على موعد للخروج من تلك الضغوط بفضل قيادتها الحكيمة والمتّزنة التي صنعت منها دولة مهمة وكبيرة، على الرغم من صغرها الجغرافي.


نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»
TT

نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

تصدر اسمها محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت مادةً لتقارير إعلامية عربية وأجنبية تسترجع تاريخها وأصولها ومواقفها من القضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة. إنها الدكتورة نعمت شفيق - وشهرتها «مينوش» - رئيسة جامعة كولمبيا الأميركية العريقة، التي وضعتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في «عين العاصفة». وذلك بعدما أثار قرار الخبيرة الاقتصادية الأميركية، ذات الأصول المصرية، استدعاء شرطة نيويورك لتفريق احتجاج لدعم فلسطين في حرم الجامعة، صدمة كبرى في البيئة الجامعية الأميركية والشارع العربي على حد سواء. ومن ثم، مع اندلاع التظاهرات والاعتصامات الطلابية في العديد من كبريات الجامعات الأميركية، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بعاصفة من الهجوم عليها، كادت تمحو سنوات من الاحتفاء بنجاحاتها المهنية كعربية حصدت مناصب مهمة في الغرب.

أثار قرار الدكتورة نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولمبيا الأميركية العريقة (أُسست عام 1754 م) تكليف شرطة نيويورك بتفريق التظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية ضد حرب غزة، جدلاً واسعاً وترددات هزت الولايات المتحدة.

إذ تعرّضت شفيق لانتقادات شديدة في الأوساط العربية بحجة «رفضها مساندة القضية الفلسطينية، ودعوتها لقمع الاحتجاجات المتعاطفة مع معاناة غزة». وفي المقابل، واجهت من الجماعات الصهيونية اتهامات بـ«تشجيع معاداة السامية»، و«التقصير بتوفير مناخ آمن للطلاب»، وصلت حد مطالبتها بالاستقالة من منصبها. ووسط سيل الانتقادات، أكدت الأكاديمية المصرية الأصل أمام مجلس النواب الأميركي، الأسبوع الماضي، «قدرة الجامعة على مواجهة معاداة السامية وتوفير بيئة جامعية آمنة». وأردفت أن «التحدي الأكبر أمامها هو محاولة التوفيق بين حرية التعبير للمتظاهرين، وبين خلق بيئة خالية من المضايقات والتمييز للطلبة اليهود الآخرين».

البداية والنشأة

ولدت نعمت شفيق في مدينة الإسكندرية المصرية عام 1962، إلا أنها لم تعش طويلاً فيها. إذ ما إن بلغت الرابعة - تحديداً عام 1966 - حتى غادرت مع أسرتها مصر بعد تأميم أملاك والدها. ولقد استقرت العائلة أولاً في مدينة سافاناه بولاية جورجيا (جنوب شرق الولايات المتحدة)، ولم يكن من أفرادها من يجيد الإنجليزية سوى الأب.

لكن سرعان ما اندمجت الأسرة في مجتمعها الجديد، وتعلمت لغته، لا سيما بعدما نفذت والدتها نصيحة أحد الجيران، واستضافت حفلات للأطفال في منزلها لتكوين صداقات. وحسب شفيق غرست تلك التجربة فيها اهتماماً بقضايا الحراك الاجتماعي، شارحة «عاشت أسرتي حراكاً اجتماعياً، سواء إلى أسفل أو إلى أعلى»، وفقاً تقرير نشرته مجلة «التمويل والتنمية» التابعة لصندوق النقد الدولي في سبتمبر (أيلول) 2023. وبالفعل، عاصرت في طفولتها أحداثاً اجتماعية وسياسية عدة، من حرب فيتنام، مروراً بحركة الحقوق المدنية، وفضيحة «ووترغيت». ومن ثم، تنقلت وشقيقاتها بين عدة مدارس في جورجيا ونورث كارولينا وفلوريدا، إما بسبب تغيير أسرتها محل الإقامة، أو إثر محاولات السلطات الأميركية «تحقيق قدر من التوازن» بين أعداد الطلاب السود والبيض في الفصول الدراسية، ما أثر في اهتماماتها وحياتها في ما بعد.

حصلت شفيق على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والسياسة من جامعة ماساتشوستس - أمهرست عام 1983، ثم نالت الماجستير في الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بالعاصمة البريطانية عام 1986، فالدكتوراه من جامعة أوكسفورد عام 1989. عائلياً، تزوجت شفيق من العالم رافائيل جوفين، عام 2002 في واشنطن، وأنجبت منه توأماً، انضموا لثلاثة أبناء آخرين لجوفين من زواج سابق.

إنجازات مهنية

بدأت نعمت شفيق حياتها المهنية في «البنك الدولي»، وكانت مسؤولة عن القضايا المتعلقة بأوروبا الشرقية في البنك بعد سقوط «جدار برلين» عام 1989. ومع بداية الألفية، شغلت مناصب أكاديمية في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا، وفي قسم الاقتصاد بجامعة جورجتاون، قبل تعيينها عام 2008، أميناً عاماً دائماً في وزارة التنمية الدولية ببريطانيا، حيث قادت عملية إصلاح شاملة للمساعدات الخارجية البريطانية. ثم، في سن الـ36 أصبحت شفيق أصغر نائب لرئيس البنك الدولي، كما شغلت منصب نائب مدير صندوق النقد الدولي، وأشرفت على عمل الصندوق في عدة دول أوروبية إبان أزمة الديون في منطقة اليورو في عامي 2009 و2010، وأدارت أيضاً برامج صندوق النقد الدولي في الشرق الأوسط، خلال فترة احتجاجات ما يعرف بـ«الربيع العربي».

وشغلت شفيق كذلك منصب نائب محافظ بنك إنجلترا لمدة 3 سنوات تزامنت مع تصويت بريطانيا عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبعدها، عام 2017، عادت شفيق إلى الأوساط الأكاديمية كرئيسة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. وإبان ذروة جائحة «كوفيد - 19»، ألفت كتاب «ما يدين به كل منا للآخر... عقد اجتماعي جديد»، وفيه قالت إن «الناس لن يدعموا نظاماً عالمياً أكثر تعاوناً إلا إذا كان العقد الاجتماعي الوطني عادلاً».

وبعد 6 سنوات مع كلية لندن للاقتصاد، تحديداً في يناير (كانون الثاني) 2023، اختيرت شفيق لرئاسة جامعة كولمبيا بنيويورك، لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الجامعة.

خبرة اقتصادية استثنائية

يرى زملاء شفيق وأصدقاؤها أنها «تجمع بين قوة الشكيمة، وحدة الذكاء والشجاعة والقدرة على التأثير على صناع السياسات». ويعدّونها خبيرة اقتصادية استثنائية تنوّعت حياتها المهنية ما بين صنع السياسات الوطنية، وإدارة المؤسسات المالية الدولية، والبنوك المركزية، إلى جانب العمل الأكاديمي، وإدارة مؤسسات تعليمية. ووصفتها كريستين لاغارد، المديرة السابقة لصندوق النقد الدولي، بأنها «مزيج دقيق من الشرق والغرب؛ فهي مصرية مثلما هي أوروبية بريطانية ومثلما هي أميركية. وهي تدعم الآخرين، وخاصة النساء، عندما يستحقون الدعم، كما أنها لا تصبر على تصرفات الحمقى، ولكنها ستمنح فرصة للجميع».

مُنحت نعمت شفيق لقب «بارونة» وعيّنت في مجلس اللوردات البريطاني، كما كرمتها الملكة إليزابيث الثانية الراحلة في عام 2015. وهي أيضاً زميلة فخرية في الأكاديمية البريطانية، وكلية سانت أنتوني بجامعة أوكسفورد، وزميل أكاديمية العلوم الاجتماعية.

ومن جهة ثانية، منحت شهادات دكتوراه فخرية من جامعات ووريك وريدينغ وغلاسغو في بريطانيا، وأيضاً دكتوراه فخرية من الجامعة الأميركية في بيروت، واختيرت «امرأة العام» في «جوائز القيادة العالمية والتنوع العالمي» عام 2009، وصنفتها مجلة «فوربز» ضمن «أقوى 100 امرأة» عام 2015، وضمن «100 امرأة رائدة في الصناعة المالية الأوروبية» عام 2018، كما كانت ضمن قائمة «100 امرأة أفريقية الأكثر تأثيراً» عام 2021.

احتفاء مصري ودولي

نجاح شفيق المهني أسهم بالاحتفاء بها عربياً ومحلياً في موطنها الأم مصر، ففي عام 2017، ألقت كلمة بالفيديو أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال مؤتمر الشمول المالي، وكانت حينذاك رئيسة لكلية لندن للاقتصاد.

وفي مارس (آذار) 2019، استضافتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث ألقت المحاضرة التذكارية السنوية لتكريم الدبلوماسية نادية يونس، بعنوان «القيادة العالمية في عالم متغير»، وخلال تلك المحاضرة عمدت شفيق إلى الاستدلال بتجربتها الشخصية على أهمية التعليم، لافتة إلى أنه «بعد خسائر والدها خلال التأميم في حقبة الستينيات في مصر، بدأت أسرتها من الصفر في أميركا». وأردفت: «كان أبي دوماً يقول لنا إن بإمكانهم أخذ كل شيء منكم إلا تعليمكم. لقد كنا مهاجرين عندما ذهبنا إلى الولايات المتحدة، ولا شك أن عائلتي واجهت التمييز العنصري، لكن سُمح لنا أيضاً بالمضي قدماً والاستفادة من الفرص المتاحة».

وفي عام 2020، احتفت وزارة الهجرة المصرية بشفيق، حين شاركت افتراضياً عبر «زووم»، كمتحدث رئيس في فعاليات مؤتمر «مصر تستطيع بالصناعة»، وأكدت «استعدادها لتقديم خبراتها لخدمة وطنها الأم مصر». وبطبيعة الحال، حظي تعيينها رئيسة لجامعة كولمبيا في يناير 2023، بتقدير واحتفاء عربيين كونها عربية مصرية، ترأس واحدة من أعرق الجامعات في العالم، وأيضاً باعتبارها أول سيدة تتولى هذا المنصب الذي تسلمته في يوليو (تموز) من العام نفسه.

الحرب على غزة

غير أن الحفاوة التي صاحبت تعيين شفيق انقلبت أخيراً إلى سيل من الانتقادات لموقفها غير المتعاطف مع التظاهرات والاعتصامات الطلابية المطالبة بوقف الحرب على غزة. وبلغ الأمر حد المطالبة باستقالتها قبل إكمالها سنتها الأولى في المنصب.

بدأت الأزمة مع استدعاء شفيق شرطة نيويورك لفض تظاهرات لـ«دعم غزة»، داخل الحرم الجامعي، ما أسفر عن اعتقال نحو 100 طالب، في خطوة أثارت جدلاً طوال الأسبوع الماضي بين مؤيد ومعارض، وأجّجت احتجاجات طلابية في العديد من الجامعات الأميركية الكبرى. وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي، بالذات، حملات مكثفة ضد شفيق، متسائلين عن «السبب وراء رفضها مساندة فلسطين رغم أصولها المصرية العربية»، وهذا، مقابل الضغوط الابتزازية التي ينظمها مناصرو إسرائيل بمشاركة أعضاء في الكونغرس تحت ادعاءات «تزايد العداء للسامية والمضايقات التي يتعرض لها اليهود داخل الحرم الجامعي». وفعلاً حث 25 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأميركي، إدارة الرئيس جو بايدن، على «استعادة النظام في الجامعات التي يشعر فيها الطلاب اليهود بتهديد».

في أي حال، لم يثن الهجوم شفيق عن موقفها، إذ هددت الجامعة، الثلاثاء الماضي، باستدعاء سلطات إنفاذ القانون لإزالة خيام الاعتصام من الحرم الجامعي ما لم يفعل الطلاب ذلك بحلول منتصف الليل. وهذا، قبل أن تعلن، الأربعاء، تمديد المهلة 48 ساعة أخرى إثر «اتفاق مع الطلاب على إزالة عدد كبير من الخيام».

شفيق ترى - وفق إفادة رسمية من الجامعة - أن «المخيم يثير مخاوف خطيرة تتعلق بالسلامة، ويعطل الحياة في الحرم الجامعي، ويخلق بيئة متوترة ومعادية في بعض الأحيان... من الضروري أن نمضي قدماً في خطة تفكيكه». ولكن، في مصر، لا تؤيد الدكتورة نائلة حمدي، العميد المشارك للدراسات العليا والبحوث بكلية الشؤون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، قرار شفيق استدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي.

وفي لقاء لـ«الشرق الأوسط»، علقت حمدي: «كان ينبغي عليها أن تقف إلى جانب الداعمين لفلسطين، والشرطة لم تكن لتدخل الحرم الجامعي دون موافقتها».

أيضاً، في حوار مع «الشرق الأوسط»، قال الدكتور عبد الحكيم القرالة، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الأردن، إن «حرم الجامعة مكان مقدس، وجرى العرف على ألا تتدخل الشرطة فيه... وربما كان على شفيق معالجة الأزمة بنوع من الحكمة بدلاً من استدعاء الشرطة».

جامعات في الواجهة

الواقع أن كولمبيا هي واحدة من جامعات عديدة في الولايات المتحدة شهدت أخيراً موجة من الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، وسط ادعاء طلبة وأكاديميين يهود وإسرائيليين وجود «بيئة معادية للسامية جعلتهم يشعرون بعدم الأمان في الحرم الجامعي»، حسب ما نقلته وسائل إعلام أميركية. وفي هذا الإطار أوقف 133 متظاهراً في جامعة نيويورك، ونُظّمت تظاهرات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، وجامعة ميشيغان، وجامعة كاليفورنيا - بيركلي، وجامعة ييل، حيث أوقف 47 شخصاً على الأقل رفضوا الدعوات لإنهاء التجمّع.

حمدي فسّرت تركيز الانتقاد على شفيق وحدها رغم أحداث شبيهة في جامعات أخرى إلى «كونها من أصول مصرية عربية، لذا كانت التوقعات بشأن موقفها مختلفة عما حدث... وينبغي أن يتحلى المرء بالشجاعة حتى لو فقد الوظيفة». أما القرالة فربط قرار شفيق بمراكز القوى داخل النظام السياسي الأميركي واللوبي الداعم لإسرائيل. وكانت الاحتجاجات المرتبطة بالحرب في غزة، أدت لاستقالة إليزابيث ماغيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ثم كلودين غاي، نظيرتها في جامعة هارفارد، في يناير. جامعة كولمبيا واحدة من جامعات عديدة في الولايات المتحدة

شهدت أخيراً موجة من الاحتجاجات الداعمة لفلسطين


أكاديميون وعلماء مصريون لمعوا في الغرب

محمد العريان (الشرق الأوسط)
محمد العريان (الشرق الأوسط)
TT

أكاديميون وعلماء مصريون لمعوا في الغرب

محمد العريان (الشرق الأوسط)
محمد العريان (الشرق الأوسط)

> طوال سنوات سجّل علماء وأكاديميون مصريون نجاحات عدة في دول المهجر، وبين الحين والآخر كان يبرز اسم جديد لأكاديمي حصل على جائزة دولية، أو حاز منصباً مهماً.

وحقاً، لا يمكن حصر كل من لمعوا في الغرب، فكثير من تلك النجاحات لم ترصدها وسائل الإعلام، وإن كان هناك بعض الأسماء البارزة الذين حصدوا شهرة إعلامية وثقت إنجازاتهم، من أبرزهم:

> أحمد زويل، العالم المصري الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999. ولد زويل عام 1946. وحصل على بكالوريوس العلوم في الكيمياء من جامعة الإسكندرية عام 1967، ثم سافر للولايات المتحدة في منحة دراسية، حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا في علوم الليزر. وعام 2009 عينه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في المجلس الاستشاري الرئاسي للبيت الأبيض، وأول مبعوث علمي للولايات المتحدة إلى دول الشرق الأوسط. أصيب بورم سرطاني في النخاع الشوكي توفي إثره في 2 أغسطس (آب) 2016.

أحمد زويل (الشرق الأوسط)

> مها عاشور، عالمة فيزياء من أصول مصرية، ولدت عام 1943، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة الإسكندرية، ثم الدكتوراه من «إمبريال كوليدج» في لندن عام 1971. وعملت لاحقاً في المركز الوطني للاتصالات في فرنسا. بعدها انتقلت إلى الولايات المتحدة، حيث عملت أستاذة للفيزياء بجامعة كاليفورنيا، وساهمت في وضع خطة الأبحاث الأساسية لفيزياء الفضاء في إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا). حصلت على جائزة «نساء العلم» الأميركيات سنة 1990. وتوفيت عام 2016.

> محمد العريان، خبير اقتصادي مصري لقّب بـ«حكيم وول ستريت». ولد عام 1958، وحصل على شهادة جامعية في الاقتصاد من جامعة كامبريدج البريطانية، ودرجتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أوكسفورد. عمل لمدة سنتين رئيساً تنفيذياً في وقف جامعة هارفارد الذي يتولى إدارة صندوق المنح الجامعية والحسابات التابعة لها، كما عمل في صندوق النقد الدولي، وكان رئيساً لمجلس التنمية العالمية. اختير أربع مرات على التوالي ضمن قائمة «تايم» لأبرز 100 شخصية مؤثرة نظراً لدوره في المساهمة بتشكيل ملامح الاقتصاد العالمي، وهو حاليا رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج.

> هاني عتيبة، أول طبيب مصري يترأس الكلية الملكية للأطباء والجراحين بغلاسغو (أسكوتلندا). حصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة الأزهر عام 1979، وعين بعدها نائباً في قسم القلب بكلية طب الأزهر، ثم حصل بعدها على درجة الماجستير من الكلية ذاتها سنة 1983. سافر في بعثة علمية إلى بريطانيا لنيل درجة الدكتوراه، ليبدأ بعدها عمله بالكلية الملكية للأطباء والجراحين.

مجدي يعقوب (مؤسسة مجدي يعقوب للقلب))

> مجدي يعقوب، جراح مصري بريطاني، ولد عام 1935. وتخصّص في جراحات القلب والرئتين في مستشفى هيرفيلد بضواحي لندن، ما بين عامي 1969 و2001، وعمل مديراً لقسم الأبحاث العلمية والتعليم، وأستاذاً في المعهد القومي للقلب والرئة. قاد فريقاً طبياً لتطوير صمام للقلب. حصل على تقدير «فارس» عام 1966، وعلى جائزة «فخر بريطانيا» سنة 2007.

> مصطفى السيد، عالم كيمياء مصري ولد 1933، وهو أول عربي يحصل على قلادة العلوم الوطنية الأميركية في مجال التقنية النانوية، وتعد «أعلى وسام أميركي في العلوم». صنف عام 2011 في المرتبة الـ17 ضمن تصنيف تومسون رويترز لـ«أفضل علماء الكيمياء في العقد الماضي».

> فاروق الباز، عالم مصري ولد 1938، ساعد خلال عمله في أميركا مع وكالة الطيران والفضاء الوطنية (ناسا) في التخطيط للاستكشاف الجيولوجي للقمر. تولى منصب مدير مركز تطبيقات الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية، وحصل على 12 جائزة علمية وله 12 كتاباً و450 ورقة علمية منشورة.

 

 

 


ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
TT

ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)

بعد أسابيع من تصويت الكونغرس الأميركي على حظر تطبيق «تيك توك» الإلكتروني الصيني، قرّر المستشار الألماني أولاف شولتس أن يفتح حساباً رسمياً في التطبيق. وكانت الصدفة أن حساب شولتس الذي كانت بداياته بـ«فيديو» لحقيبته التي ترافقه حيثما سافر، انطلق قبل أيام من زيارة للمستشار إلى الصين. ثم إنه على الرغم من أن الناطق باسم شولتس أكد أن الحدثين غير مرتبطين، بل جاءا بمحض «المصادفة»، فإنهما بلا شك يشيران إلى مقاربتين متناقضتين لعلاقات كل من الإدارة الأميركية والحكومة الألمانية مع بكين. تأتي زيارة شولتس الصينية، وهي الثانية له منذ تسلّمه منصبه عام 2021، لتوضح أن التبادل التجاري هو في طليعة اهتمامات برلين في علاقتها مع بكين، فالمستشار الألماني ترأس وفد شخصيات أعمال كبيراً ورافقه 3 وزراء للتكنولوجيا والبيئة، كما خصّص اليومين الأوّلين من الزيارة التي امتدت 3 أيام للقاءات تتعلّق بالأعمال. وكان لافتاً أن البحث لم يتطرّق إلى السياسة إلا في اليوم الثالث، حين التقى شولتس بالرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الحكومة لي كيانغ. من جهة ثانية، بدت هذه الزيارة شبيهة بالزيارات التي كانت تُجريها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، مركّزة فيها على التجارة والأعمال، مع أن تبنّي حكومة شولتس الائتلافية استراتيجية جديدة تجاه الصين العام الماضي يتمحوَر حول «تخفيف المخاطر» من مغبة الإفراط في اعتماد الصناعة الألمانية على الصين. وما يُذكر أن هذه السياسة تبلوَرت بعد الحرب في أوكرانيا، و«الأخطاء» التي قالت ألمانيا إنها تعلمتها من تلك الحرب بسبب اعتمادها السابق على الغاز الروسي الذي أوقفت موسكو إمداداته بعد الحرب رداً على العقوبات الأوروبية. وفي المقابل، لم تعكس زيارة شولتس لبكين، على الإطلاق، الاستراتيجية الألمانية الجديدة تجاه الصين، ولا الاستراتيجية الأوروبية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي العام الماضي... التي تعكس أيضاً المخاوف من زيادة اعتماد السوق الأوروبية على البضائع الصينية.

شولتز في مدينة تشونغكينغ، إحدى المحطات الاقتصادية المهمة في زيارته (رويترز)

احتاج اعتماد الحكومة الألمانية استراتيجية جديدة تجاه الصين، العام الماضي، إلى فترة طالت عدة أشهر، وشهدت اندلاع خلافات داخل أحزاب الائتلاف الحاكم - الذي يقوده اشتراكيو الحزب «الديمقراطي الاجتماعي»، ويضم كلاً من ليبراليي الحزب ««الديمقراطي الحر»، وبيئيي حزب «الخضر». وفي حين كانت وزارة الخارجية التي يديرها حزب «الخضر»، تشدّ باتجاه تبنّي سياسة متشددة تجاه بكين، كانت المستشارية (أي رئاسة الحكومة) التي يديرها الاشتراكيون تدفع في الاتجاه المعاكس. ولقد ظهر هذا الخلاف في المسوّدة الأولى التي خطتها وزارة الخارجية للاستراتيجية الجديدة مع الصين، والتي تضمنت تعابير مثل «فصل» الاقتصاد الصيني عن نظيره الألماني. بيد أن مكتب المستشار أولاف شولتس رفض استخدام تعبير «فصل»، وطلب الاستعاضة عنه بـ«تنويع»... ومن ثم «تخفيف» الاعتماد على السوق الصينية في كثير من المنتجات، خاصة المتعلقة بالتكنولوجيا والبيئة.

استراتيجية «صديقة» للصين

في الحقيقة، منذ اعتماد الاستراتيجية الجديدة، حرض شولتس على تكرار القول إن ألمانيا لا تسعى إلى «فصل» الاقتصاد الصيني عن الاقتصاد الألماني، وهذا الكلام أعاد تكراره غير مرة خلال محطات زيارته الأخيرة للصين. وللعلم، لم تواجه الخارجية، آنذاك، اعتراضاً من المستشار فقط، بل من أصحاب الأعمال كذلك. بل، عندما حاولت وزيرة الداخلية (الاشتراكية) نانسي فيزر، العام الماضي، إجبار شركات الاتصالات على التخلّي عن بعض القطع الصينية في تحديث شبكات الاتصالات، فإنها وُوجهت بموجه عارمة من الاعتراضات، ليس فقط من شركات الهواتف التي طالبت بتعويضات من الحكومة، بل أيضاً من داخل الحكومة - وتحديداً من وزير التحديث الرقمي فولكر فيسينغ المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الحر - والذي رافق شولتس في رحلته إلى الصين. وأرسلت كبرى شركات الاتصالات في ألمانيا مثل «تيليكوم» و«فودافون» و«تيليفونيكا»، رسالة إلى وزيرة الداخلية وصفت فيها مطالبها بأنها «أشبه بمصادرة جزئية»، وبأنها ستكلّف الشركات المليارات، وتعيد إلى الوراء تحديث الشبكات بسنوات.

هذه الشركات الثلاث كانت قد اختارت منذ سنوات، في ظل حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المحافظة، شركة «هواوي» الصينية لتحديث شبكة الإنترنت وبناء شبكة الـ«5 جي». وهنا تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا كانت قد رفضت «النصائح» والضغوط الأميركية التي مارسها الرئيس السابق دونالد ترمب على ألمانيا ودول أوروبية أخرى لكي ترفض السماح لشركة «هواوي» بالعمل فيها. والمعلوم أن ذريعة ترمب في حينه قامت على الزعم بأن «هواوي» مرتبطة بالنظام الحاكم في الصين، وبالتالي، ستكون قادرة على مراقبة الاتصالات من خلال شبكاتها. وها هي ألمانيا، حتى اليوم، مستمرة بانتهاج السياسة نفسها رغم استراتيجيتها الجديدة مع الصين.

من جانب آخر، تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، تليها الولايات المتحدة. وخلال العام الماضي 2023، بلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 253 مليار يورو، لتكون الشريك الأول للعام الثامن على التوالي. ولم يختلف حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في العام نفسه كثيراً؛ إذ بلغ أكثر من 252 مليار يورو، ولكن بفارق كبير في العجز والفائض التجاريَّين. ذلك أنه مع الصين يربو العجز التجاري الألماني على 58 مليار يورو، في حين حققت ألمانيا فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة زاد على الـ63 مليار يورو.

نقاط خلافية مع واشنطن...وبعض الأوروبيين

شكّل التبادل التجاري الألماني مع الصين والولايات المتحدة واحدة من النقاط الخلافية الكثيرة بين برلين وواشنطن إبان عهد ترمب، ساهمت بتوتر العلاقات بين الجانبين، وهي مخاوف ستعود إلى الظهور، من دون شك، إذا ما عاد ترمب إلى البيت الأبيض. ولكن السوق الصينية تُعد سوقاً أساسية بالنسبة لألمانيا، خاصة بالنسبة لقطاع صناعة السيارات الألمانية؛ إذ تبيع شركات «مرسيدس بنز» و«بي إم دبليو» و«فولكسفاغن» من السيارات في الصين أعداداً أكبر مما تبيعه في قارة أوروبا مجتمعة. وعلى الرغم من شكوى ألمانيا من أن الصين لا تعامل شركاءها التجاريين وشركاتهم الصانعة كما تعامل ألمانيا الشركات الصينية، فهي تتخوف من دعم سياسة تجارية متشدّدة تجاه الصين تخوفاً من خسارة سوق أساسية بالنسبة إليها.

وبالتوازي، فإن هذا التردّد الألماني في التشدد مع الصين فجّر خلافات أيضاً بينها وبين شركائها الأوروبيين، وتحديداً فرنسا، التي تدفع باتجاه خطوات «حمائية» إضافية على صعيد الاتحاد الأوروبي. وحقاً، فإن فرنسا ولاعبين أوروبيين آخرين يأملون بالتوافق على إجراءات تحمي أسواقها وتحول دون «إغراقها» بالسلع الصينية الرخيصة، ما يهدد الشركات الأوروبية، ويلغي المنافسة، ويزيد من الاعتماد على الصين. وخلال اجتماع عقد بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس مطلع أبريل (نيسان) الجاري لوزراء اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، قال وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير إن أوروبا «تتلقى كميات ضخمة من السلع الصينية الرخيصة». وأشار إلى أن العجز التجاري بين أوروبا والصين تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الماضية، وعليه، دعا الوزير الفرنسي إلى مناقشة سياسات أشد صرامة لمواجهة ذلك. غير أن وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي كان مشاركاً في الاجتماع، حذّر من «الحمائية» ورفع التعرفات الجمركية... في صدىً لمواقف المستشار شولتس، مع أن هابيك ينتمي إلى حزب «الخضر» الذي يفضل سياسات اقتصادية أكثر تشدداً مع الصين.

سيارة بي واي دي صينية... في طريقها لغزو أسواق أوروبا (رويترز)

والاتحاد الأوروبي أيضاً... ميّال إلى التشدّد

وأبعد من ألمانيا، يدفع الاتحاد الأوروبي برئيسة مفوضيته أورسولا فون دير لاين إلى مقاربة متشدّدة مع الصين، ولقد تبين هذا في الاستراتيجية الأوروبية التي أعلنت عنها بروكسل العام الماضي، والتحقيقات التي تفتحها في شركات صينية يشتبه بأنها لا تلتزم بقواعد المنافسة.

وللعلم، تستند بروكسل إلى آليات داخلية لمراقبة الشركات التي تستخدمها الصين غطاءً لإغراق السوق ببضائع رخيصة. وفي العام الماضي، فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً في وضع قطاع الآليات الكهربائية الصينية لتحديد ما إذا كانت الصين استخدمت شركات مدعومة بشكل غير شرعي بهدف إلغاء المنافسة. وبناءً على نتائج التحقيق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض رسوماً إضافية على استيراد السيارات الصينية الكهربائية. وكان الاتحاد قد فتح كذلك تحقيقات خلال العام الماضي في عدد من الحالات التي تستهدف شركات لتوربينات الرياح والألواح الشمسية في عدد من الدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا وفرنسا ورومانيا وبلغاريا، اشتبه بأنها غطاء لشركات صينية. ولكن بروكسل، التي تريد تشديد الخطط الحمائية، تصطدم بمعارضة برلين التي ترفض اتخاذ خطوات عقابية أو فرض رسوم إضافية على البضائع الصينية للإبقاء على المنافسة ورفع أسعارها البخسة، كما تفعل واشنطن بشكل مستمر.

وفي الأسبوع الماضي فقط، أعلنت واشنطن رفع الرسوم على الصلب والألمنيوم الصيني بنسبة 25 في المائة، كما فتحت تحقيقاً فيما ادعت أنه «ممارسات الصين غير النزيهة» في قطاع بناء السفن. إلا أن المستشار الألماني لا يدعم خطوات مماثلة في الاتحاد الأوروبي؛ لأنه يخشى أن تؤدي إلى «حرب تجارية»، ويرى أنه من الأفضل السماح للشركات تحمل مسؤولية تنويع الصادرات بشكل فردي. وبالفعل، نقلت مجلة «دير شبيغل» عن مصادر مقربة من شولتس، أن خطوة «تخفيض الاعتماد» على الصين هي مسألة «سنوات وليست شهوراً». وأردفت المجلة، نقلاً عن المصادر، أن وضع ألمانيا مختلف عن وضعي فرنسا والولايات المتحدة؛ كونها دولة مصدّرة وتبيع كميات ضخمة من السيارات في السوق الصينية.

وفي سياق متصل، إلى جانب التكنولوجيا المتعلقة بالاتصالات، تغرق الصين أسواق أوروبا حالياً بالتكنولوجيا البيئية مثل مضخات التدفئة وتوربينات الرياح وغيرها من المعدات التي تحتاج إليها أوروبا في خططها الانتقالية البيئية لوقف اعتمادها على الغاز والنفط، توصلاً إلى الاعتماد فقط على الطاقة النظيفة. وهنا نذكر، على سبيل المثال، أن أوروبا تستورد مثلاً قرابة 29 في المائة من توربينات الرياح و68 في المائة من مضخات التدفئة من الصين.

الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019 في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا

أهمية قطاع السيارات

غير أن قطاع السيارات يظل يشكل التحدّي الأكبر أمام أوروبا في تبادلها التجاري مع الصين، وفق تقرير لـ«معهد الأطلسي» الأميركي للدراسات. ويضيف تقرير المعهد أن الصين لطالما كانت سوقاً أساسية للسيارات التي تنتجها دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة ألمانيا، بيد أنها أضحت أخيراً - كذلك - مصدّراً أساسياً للسيارات إلى أوروبا. ويشير إلى أنه «حتى الآن، ما زال الاتحاد الأوروبي محافظاً على تبادل تجاري إيجابي مع الصين فيما يتعلق بالسيارات، ولكن ارتفاع الواردات الصينية يشير إلى أنه، من دون خطوات حمائية جديدة، قد يصبح الاتحاد الأوروبي مستورداً صافياً».

وضمن هذا الإطار، قارن المعهد بين أرقام الصادرات والواردات بين أوروبا والصين في السنوات الماضية، فذكر أن الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019، في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا خلال الفترة نفسها بنسبة تصل إلى 3000 في المائة، وارتفعت قيمة معدل الواردات الصينية شهرياً من 33 مليون دولار عام 2019 إلى أكثر من مليار يورو عام 2023. وبين الواردات الصينية من السيارات الكهربائية منتجات شركة «إم جي» - البريطانية سابقاً والصينية حالياً. وهنا يورد تقرير المعهد أن واردات السيارات الصينية ساهمت بزيادة حجم الواردات بنسبة 75 في المائة.

ويتفق خبراء اقتصاديون في ألمانيا على أنه منذ اعتماد الاستراتيجية الصينية، لم يحدث تغيير كبير في علاقة ألمانيا والصين. ونقلت مجلة «دير شبيغل» عن نادين غوديهارت، المتخصصة بالشؤون الآسيوية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، قولها إن «الاستراتيجية تجاه الصين لم تؤدِّ بعد إلى شيء ملموس، ولا يوجد هناك أصلاً أي تغيير بنيوي؛ إذ لم يعيّن مفوض للصين ولا هيئة خبراء». غير أن شولتس مصرّ على التمسك بسياسته مع بكين والتي يعتمد فيها على الاقتصاد أولاً، على الرغم من تحذيرات الاستخبارات الألمانية من أن الصين تشكل «تهديداً بعيد المدى لأمن ألمانيا ومصالحها، أكبر من التهديد الذي تشكله روسيا». وكان توماس هالدنفانغ، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، قد أعطى إحاطة وافية لـ«البوندستاغ» (مجلس النواب) عام 2022 حول المخاطر التي تشكلها الصين، وقال آنذاك: «إذا كانت روسيا العاصفة، فإن الصين التغير المناخي!».

شعار شركة هواوي (أ ف ب/غيتي)

الضغط على الروس

هنا، لا ينكر المستشار الألماني أن تصرفات الصين التجارية «مقلقة»، وصرّح بأنه تكلم مع المسؤولين الصينيين «بوضوح» حول مسائل تتعلق بالمنافسة المنصفة وحقوق الاختراع وغيرها. لكنه حتى الآن يبدو مكتفياً بالتحاور مع الجانب الصيني من دون التهديد بعواقب أو دعم خطوات تصعيدية ضد بكين داخل الاتحاد الأوروبي. ذلك أنه مقتنع بأن «الشراكة مع الصين تحمل بعداً سياسياً بالغ الأهمية»، خاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتأثير الصين على روسيا.

وحقاً، في ختام زيارته إلى الصين، قال شولتس إن مسألة الحرب في أوكرانيا كانت «نقطة محوَرية» خلال اللقاءات التي أجراها في بكين. وأضاف أنه طلب من القيادة الصينية المشاركة في عملية السلام بشكل أكثر فاعلية؛ لأن «كلماتها تحمل ثقلاً» في موسكو. وتابع المستشار الألماني أنه طلب من الرئيس الصيني المشاركة في مؤتمر يونيو (حزيران) للسلام الذي تستضيفه سويسرا من دون روسيا. وليس واضحاً ما إذا كانت الصين وافقت على ذلك، علما بأنها تعدّ نفسها طرفاً محايداً في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، رغم أنها ترفض إدانة موسكو.

 

إبعاد الأوروبيين عن الصين... هاجس عند واشنطن

> يرى مراقبون سياسيون أن علاقة ألمانيا بالصين قد تصبح إشكالية أكبر بالنسبة إليها قريباً، خصوصاً في حال عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، لا سيما أنه كان يلوّح بشن حرب تجارية على الصين عندما كان رئيساً، وكان ينتقد كلاً من ألمانيا والاتحاد الأوروبي بسبب علاقاتهما التجارية مع الصين. ولكن، حتى في ظل إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، نرى واشنطن تتشدد في مواجهة بكين سياسياً وتجارياً، إذ تعدّ ممارساتها الاقتصادية والتجارية «عديمة النزاهة». وهنا، لا بد من الإشارة، إلى أنه حتى الاتحاد الأوروبي بات يفتح تحقيقاً تلو الآخر بشركات صينية وإغراق الأسواق الأوروبية ببضائع تلغي المنافسة الأوروبية. وأخيراً، فتح الاتحاد تحقيقاً في تطبيق «تيك توك» بعد إطلاقه منصة جديدة في فرنسا وإسبانيا موجهة للمراهقين والأطفال وتقديمه مكافآت مالية لمشاركة الفيديوهات ومشاهدتها. وفي ضوء ذلك، أعرب الاتحاد عن قلقه من أن يتسبب التطبيق في «إدمان» لدى الأطفال والمراهقين وطلب تفاصيل إضافية من «تيك توك» لتقييم المخاطر.أكثر من هذا، على الرغم من أن الخلافات الأوروبية الداخلية - وحتى الألمانية الداخلية - تمنع بروكسل حتى الآن من اتخاذ خطوات إضافية تواجه بصورة أفضل السياسة التجارية الصينية، يعتقد خبراء بوجود حاجة إلى خطط أوروبية بعيدة المدى حول العلاقات مع الصين. وفي تقرير «معهد الأطلسي» الأميركي حول الموضوع، قال إن «أوروبا لن تكون قادرة على تحقيق وقف اعتمادها على الصين في المدى القصير، ولا بالسرعة أو الأشكال التي تريدها واشنطن، لأن الأمر يتطلب استثمارات ضخمة داخل أوروبا تبني اقتصادات أكثر تنافسية، ستستغرق عدة سنوات، وعلى مدى عدة رئاسات أوروبية». وأضاف تقرير المعهد أن إدارة رئيسة مفوضية الاتحاد أورسولا فون دير لاين «تطور خريطة طريق لضمان نجاح خطة كهذه تطبق بعد انتهاء ولايتها». وتابع: «كي يتحقق ذلك، ستبقى ألمانيا، ومعها كبرى الشركات المستفيدة من التجارة مع الصين بسبب انخفاض أسعار البضائع، عقبة كبيرة في طريق تعديلات إضافية تبعد أوروبا عن إدمانها التجاري» على الصين.


«صراع الطارقَين» في فنزويلا... بين الضغوط والصفقات

طارق صعب (آ ب)
طارق صعب (آ ب)
TT

«صراع الطارقَين» في فنزويلا... بين الضغوط والصفقات

طارق صعب (آ ب)
طارق صعب (آ ب)

مطلع الأسبوع الماضي، اهتزت دعائم الحزب الحاكم في فنزويلا عندما أعلن مكتب النائب العام اعتقال وزير النفط والنائب السابق لرئيس الجمهورية، طارق العيسمي، الذي كان، لأشهر قليلة خَلَت، من أعضاء الدائرة الضيّقة التي تحظى بثقة تامة من نيكولاس مادورو. وكان العيسمي قد استقال من منصبه بعد الكشف عن «تورطه» بفضيحة مالية ضخمة يقدّرها الخبراء بما يزيد على 21 مليار دولار، في شركة النفط الرسمية التي كان يشرف على إدارتها بصفته الحكومية.

في الحقيقة، منذ استقالة العيسمي، مطالع الصيف الفائت، كانت التساؤلات تتكاثر حول الأسباب التي حالت دون توجيه أي اتهامات إليه بعد انكشاف فضيحة الفساد التي طالت عدداً من كبار المسؤولين الذين أُحيل بعضهم إلى المحاكمة، في حين كان آخرون قد فرّوا من وجه العدالة، قبل أن تَصدر مذكرات التوقيف بحقهم. لكن، خلال الأسبوع الماضي، على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، المقررة أواخر يوليو (تموز) المقبل، وزّعت النيابة العامة، التي يرأسها طارق صعب، صوراً للعيسمي مقيّداً في ثياب المساجين، يواكبه عدد غفير من رجال الشرطة الملثّمين، وسرعان ما تناقلتها وسائل الإعلام الرسمية بشكل متكرر للدلالة على الأهمية التي يُوليها النظام لهذه الخطوة.

الرئيس نيكولاس مادورو (رويترز)

إلى جانب ما سبق، أعلن المدعي العام أيضاً اعتقال وزير الاقتصاد والمال السابق، الذي كان من بين الدائرة الضيّقة المحيطة بمادورو، وسبق أن عيّنه تشافيز رئيساً لصندوق التنمية الذي كان يُودِع فيه فائض المدخول النفطي، قبل أن يتحوّل إلى وكر للفساد، على حد تعبير صعب. وجرى اعتقال رجل أعمال وصفته النيابة العامة بأنه كان وسيطاً للعيسمي في الصفقات المالية غير المشروعة، إضافة إلى 54 متهماً من كبار الموظفين وبعض النواب المقربين من نائب رئيس الجمهورية ووزير النفط السابق.

ويُستفاد من المعلومات والرواية التي روّج لها النظام عن طريق النيابة العامة ووسائل الإعلام التابعة له، بعد أشهر من التكتم والصمت التام، أن دائرة النفوذين السياسي والمالي، التي كانت محيطة بطارق العيسمي، وفي مرمى المعارضة السياسية التي تتهمها بالفساد وتبذير أموال الدولة، قد سقطت نهائياً، وصارت هي أيضاً طريدة الحملة التي قرر مادورو شنّها على الفساد.

عملية التطهير الأعمق منذ وصول تشافيز

لا شك في أن عملية التطهير هذه هي الأعمق والأوسع منذ وصول تشافيز وحزبه إلى السلطة. إلا أنها موجهة أيضاً لإبعاد الشبهات عن مادورو الذي يَعدّ لتجديد ولايته في الانتخابات المقبلة، ولترسيخ نفوذ النائب العام طارق صعب الذي يشكّل منذ فترة «رأس الحربة القانونية» للنظام في وجه المعارضة. فطارق العيسمي لم يُعتقل ولم يُسق إلى المحاكمة لأسباب سياسية أو عقائدية، بل لأنه «أساء استخدام السلطة»، و«أسرف في أعمال الفساد والرشوة» التي كانت من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى انهيار الاقتصاد وتدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، مع أن النظام يصرّ على الأسباب الخارجية لهذا الانهيار. وللعلم، إلى جانب الاتهامات التي كانت توجّهها المعارضة للعيسمي، كانت الولايات المتحدة قد أصدرت بحقه عدة مذكرات توقيف بتُهم الرشوة، وتبييض الأموال، وتسهيل الاتجار بالمخدرات.

طيلة 17 سنة، كان طارق العيسمي من السياسيين الأوسع نفوذاً في فنزويلا، والشخصية البارزة في المواقع القيادية. ولقد بدأ الرجل صعوده، إلى جانب هوغو تشافيز، ثم تولّى مراكز مهة في نظام نيكولاس مادورو حتى استقالته، العام الماضي، بعد بدء التحقيقات في فضائح الفساد حول شركة النفط التي كان يشرف عليها من منصبه الوزاري.

في حينه أعلن المدّعي العام طارق صعب أن اعتقال وزير النفط السابق جاء استناداً إلى التهم الموجهة إليه بالمشاركة في فضيحة الفساد المالي التي كشفتها الأجهزة بشركة البترول الرسمية. وأردف صعب: «أظهرت التحقيقات التي أجريناها ضلوع العيسمي المباشر في عمليات الفساد، وهو سيحاكَم بتُهم خيانة الوطن والاستيلاء على المال العام والتباهي بالنفوذ والسلطة». وهذه تُهم خطرة قد تؤدي إلى زجِّه في السجن لفترة ثلاثين سنة، حال ثبوتها. وكان العيسمي قد قدّم استقالته من وزارة النفط ومن قيادة الحزب الاشتراكي الموحّد الحاكم، بعد الإعلان عن بدء التحقيقات القضائية في عمليات بيع النفط الخام عن طريق صفقات بالعملات الإلكترونية المشفّرة.

من طارق العيسمي؟

أبصر طارق العيسمي النور عام 1974 في مدينة فيخيّا، من أعمال مقاطعة مريدا، في كنف عائلة درزية مهاجرة تعيش في كل من جنوب شرقي لبنان (قضاء حاصبيّا)، وجنوب سوريا (محافظة السويداء)، وهو مُجاز في الحقوق، ومتخصص في علم الجرائم. ولقد رافق هوغو تشافيز منذ وصول هذا الأخير إلى الحكم عام 1999 حتى وفاته مصاباً بالسرطان في عام 2013، وكان بين أبرز المرشحين لخلافته قبل مادورو، إذ كان عضواً في مجلس النواب، وتولّى مناصب قيادية عدة؛ منها نائب وزير الأمن القومي، ووزير الداخلية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم تشافيز.

ثم إن مادورو هو الذي فتح أمام العيسمي أبواب السلطة العليا عندما عيّنه نائباً له في عام 2017 ، ثم وزيراً للصناعة والإنتاج الوطني في العام التالي، قبل أن يعيّنه وزيراً للنفط في عام 2020. وعندما أصدرت الولايات المتحدة أولى مذكرات التوقيف بحقه في عام 2019، واتهمته بتجارة المخدرات وغسل الأموال، دافع عنه الرئيس الفنزويلي بالقول إن «واشنطن تُلاحقه لأنه يتحدر من أصول عربية». وتابع: «أنا أعرفه جيداً، فهو شجاع، ووطني، وثوري واشتراكي لا غبار عليه».

«هناك من يعدّ أن سقوط العيسمي لم يكن بسبب ضلوعه في فضائح الفساد المالي نتيجة صراعات داخلية على قمة هرم السلطة»

هذا، وكانت الإدارة الأميركية قد اتهمت العيسمي بتسهيل نقل شحنات كبيرة من المخدرات إلى المكسيك والولايات المتحدة، انطلاقاً من قواعد عسكرية جوية وبحرية في فنزويلا، بالتواطؤ مع قيادات عسكرية كانت قد أدرجتها واشنطن أيضاً على قائمة المطلوبين إلى جانب العيسمي الذي وضعت واشنطن جائزة قدرها 10 ملايين دولار لمن يساعد على اعتقاله أو تسليمه. ويومذاك، ردّ العيسمي بنشره إعلاناً مدفوعاً في صحيفة «نيويورك تايمز» قال فيه إن السلطات الأميركية «خدعتها معلومات مضلّلة زوّدتها بها جهات لها مصلحة في منع إصلاح العلاقات بين البلدين»، وأنه عندما تولّى وزارة الداخلية حققت مكافحة المخدرات أفضل النتائج في تاريخها.

الملاحقة أميركياً... و«صراع سلطة» محلياً

غير أن المدّعي العام الفنزويلي صعب ذكر، في تصريحاته التي رافقت اعتقال العيسمي، أن هذا الأخير كان «الرئيس الفعلي للعصابة» التي كانت تدير عمليات الفساد، وأن خمسة من الشهود الذين كانوا ضالعين في تلك العمليات «اعترفوا»، خلال التحقيقات، بأن العيسمي وشركاءه كانوا يرسلون إلى الخارج حقائب محملة عملات وذهباً، بجانب تُهم أخرى. وأضاف صعب، فيما يشبه المرافعة ضد العيسمي: «أنه كان يستغلّ منصبه لتحويل مبالغ ضخمة لشركات وهمية يدّعي أنها متعاقدة مع الدولة»، ويذكّر خصومه في المعارضة بما جاء في الاعترافات التي أدلى بها كبير مهرّبي المخدرات في فنزويلا، وليد مقلّد - وهو أيضاً من أصول لبنانية - إلى السلطات الفنزويلية، ومنها أن العيسمي عندما كان نائباً لوزير الأمن القومي «كان يسهّل نقل شحنات الكوكايين عبر فنزويلا إلى المكسيك والولايات المتحدة».

واقع الأمر أن الذين يعرفون طارق العيسمي جيداً يقولون إنه كان «العدو الأول للمعارضة»، التي تتهمه بالوقوف وراء كل المؤامرات لتفرقتها وملاحقة قياداتها، وأنه يقارب العمل السياسي على أنه معركة حياة أو موت، إذ يتعامل مع خصومه بوصفهم أعداء يجب سحقهم بكل الوسائل المتاحة. ويتبيّن من مراجعة حسابه على «تويتر» كيف كان يهاجم خصومه بشراسة غير معهودة، ويحمل على الصحافيين الذين ينتقدونه.

وهناك من يعدّ أن سقوط العيسمي، الذي انقطعت أخباره وكان متوارياً عن الأنظار منذ استقالته، لم يكن بسبب ضلوعه في فضائح الفساد المالي الذي قوّض دعائم الاقتصاد الفنزويلي - الذي يصرّ النظام على أن انهياره كان بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي - بل هو نتيجة صراعات داخلية على قمة هرم السلطة. المعنى أن إطاحته كانت جِزية لا بد من تأديتها أمام ضخامة الفضائح المالية، وربما أيضاً نتيجة صفقة مع الإدارة الأميركية ليست هي الأولى بين واشنطن ومادورو. ويبدو من هذه الصفقة أن المستفيد الأول منها هو المدّعي العام طارق صعب، الذي يتردد في الأوساط الفنزويلية أن الوقت أزف لترسيخ صعوده عندما يجدّد مادورو ولايته في انتخابات الصيف المقبل.

طارق العيسمي (بلومبيرغ)

صعب في الواجهة

ثوري منذ شبابه الأول، ومن أشدّ أنصار تشافيز تحمساً.

من مؤسّسي الحزب الاشتراكي الموحّد، ومنظمّ لمهرجانات موسيقى الروك، وتولى حاكمية عدة مقاطعات قبل تعيينه في منصب المدعي العام الأول.

هذا هو طارق صعب، أحد الشخصيات الأكثر إثارة للجدل في قيادة الحزب الذي يسيطر على الحكم في فنزويلا منذ 25 سنة. صعب مُجاز في الحقوق ومتخصص في القانون الجنائي وحقوق الإنسان، وهو يشغل هذا المنصب منذ عام 2017 بعد تعيينه في الجمعية الوطنية التأسيسية التي ابتدعها النظام في عزّ الأزمة السياسية لتحل مكان البرلمان المنتخب عام 2015 بغالبية مطلقة من المعارضة.

منذ ذلك التاريخ كان صعب «الدرع الأمامية» للنظام المكلفة بصدّ الاتهامات الموجّهة إليه بسبب أعمال القمع التي يمارسها ضد المعارضة السياسية وأقطابها، والجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، وكانت موضع إدانات مباشرة وصريحة من المؤسسات الحقوقية الدولية، وفي طليعتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية.

وقد بدأ صعب يشقّ طريقه نحو الشهرة السياسية، مطلع عام 1989، عندما قاد حملة الدفاع عن ضحايا المجزرة التي ارتكبتها أجهزة الأمن اثناء قمعها التظاهرات الشعبية، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، وأدى القمع إلى وقوع عدد كبير من الضحايا بين قتلى وجرحى. في تلك الفترة كان صعب يتردد باستمرار على مكاتب تحرير الصحف ووسائل الإعلام المرئية التي كانت تستضيفه في برامجها، حتى أصبح من الشخصيات المألوفة لدى المواطنين.

وُلد طارق صعب في بلدة صغيرة بشرق فنزويلا، لعائلة درزية أيضاً هاجرت من لبنان، والتحق منذ صباه بجماعة الثوار الشهيرة التي كان يقودها دوغلاس برافو، ثم انخرط في عدد من التنظيمات اليسارية المتطرفة، قبل أن ينضمّ إلى الحركة التي أسسها هوغو تشافيز عندما قام بمحاولته الأولى الفاشلة للاستيلاء على السلطة.

إبان عهد تشافيز، كان ولاء صعب للنظام مطلقاً، وأسهم عبر أنشطته ومؤلفاته ومحاضراته في ترسيخ قاعدة النظام الشعبية حتى أطلق عليه تشافيز لقب «شاعر الثورة». ومع مجيء مادورو إلى السلطة استمر في ولائه المطلق للنظام الجديد الذي كافأه بتعيينه في منصب النائب العام الأول، الذي توقّع كثيرون أنه سيضع حداً لطموحاته السياسية؛ لما ينطوي عليه من صعوبات في عز الأزمة السياسية التي كانت البلاد تجتازها. وبالفعل، تعرّض صعب، بعد تعيينه، لسيلٍ من الانتقادات القاسية؛ لجنوحه دائماً نحو تأييد مواقف النظام، واتخاذه قرارات تخدم مصالحه وتُقصي رموز المعارضة وقياداتها عن فرص الوصول إلى مواقع المسؤولية السياسية.

لكن، بعد أشهر من توليه منصب النائب العام، وفي خضم الاحتجاجات التي عمّت فنزويلا، أعلن ابنه جبران تضامنه مع المتظاهرين الذين كانوا يحتجّون على اغتيال عدد من الطلاب في مواجهات مع الشرطة. ويومها ردّ على موقف ابنه بالقول «إنه موقف يستلهم المبادئ والقيم التي تربّى عليها»، ودعا إلى احترام ذلك الموقف الذي استخدمه خصومه لشن حملة شعواء ضده كادت تؤدي إلى سقوطه.ثم إنه تعرّض أيضاً لانتقادات شديدة من دول عدة، في طليعتها الولايات المتحدة التي اتهمته بتقويض دعائم النظام الديمقراطي، وانحيازه خلال التحقيقات حول تجاوزات الحكومة في مجال حقوق الإنسان. وراهناً، تتهم المعارضة السياسية صعب أيضاً بأنه يقف وراء القرارات التي أدّت إلى إبعاد كثيرين من قياداتها عن البلاد «بتُهم ملفّقة»، أو منع بعضهم من الترشح للانتخابات، كما حصل أخيراً مع ماريّا كورينا ماتشادو، المرشحة التي اختارتها أحزاب المعارضة لمنافسة مادورو في الانتخابات الرئاسية المقررة في يوليو (تموز) المقبل.