نشاط تشكيلي مكثف في القاهرة واهتمام بمواهب الشباب

معارض متنوعة وافتتاح الدورة التأسيسية لصالون 20 بمتحف «مختار»

ملصق الدورة التأسيسية لصالون 20
ملصق الدورة التأسيسية لصالون 20
TT

نشاط تشكيلي مكثف في القاهرة واهتمام بمواهب الشباب

ملصق الدورة التأسيسية لصالون 20
ملصق الدورة التأسيسية لصالون 20

تشهد الحياة التشكيلية المصرية نشاطاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، تبلور في افتتاح كثير من المعارض المفتوحة على شتى التيارات والمذاهب الفنية المختلفة، ولأجيال متنوعة من الفنانين بينهم الكبار والشباب، فلا يزال المعرض التذكاري للفنان الرائد الراحل سيد عبد الرسول بقاعة أفق يجذب كثيراً من المشاهدين ويستمر المعرض حتى 18 مايو (أيار) الحالي، كما افتتح الفنان عادل السيوي معرضاً ضخماً بعنوان «في حضرة الحيوان»، ضم المعرض أكثر من مائتي لوحة تعرض بقاعة مشربية بوسط العاصمة القاهرة وقاعتين مجاورتين لها.
وتحت رعاية حلمي النمنم وزير الثقافة، يفتتح الدكتور خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية فعاليات الدورة التأسيسية لصالون 20، مساء غد (الاثنين) مساءً بمركز محمود مختار الثقافي بالقاهرة.
تأتي الدورة الأولى لهذا الحدث الفني والثقافي الهام تحت عنوان «تعدد المهام» عنواناً محفزاً لطرح رؤى وتناول فني لمفهوم العصر الرقمي وانعكاساته المتباينة على الإنسان والتغيرات التي أحدثها في السلوك وفي العادات وفي طبيعة الحياة بشكل عام، وينطلق المعرض من أن الفن ليس بعيداً عن هذه الإشكالية المعاصرة والمواكبة لثورات تكنولوجية هائلة، حيث تعددت المهام كذلك عند الفنان فأصبحنا نرى العمل الفني، وقد تعددت مهام الفنان فيه، فبات يجمع بين أكثر من مجال في العمل الواحد، فهل سيكون لذلك نتائجه الإيجابية أم العكس.
وقال خالد سرور إن «صالون عشرين» معني بالكشف عن المواهب الفنية وتعريف طلاب الجامعات بالحركة التشكيلية ودعوتهم للمشاركة، مع الاهتمام بطلاب الكليات الفنية إعداداً لدخولهم الحركة التشكيلية بقوة من خلال تنظيم الندوات والورش المصاحبة للصالون طوال فترة انعقاده في مجالات الفنون المختلفة.
أما د. تامر عاصم قوميسير الدورة التأسيسية للصالون، فاعتبره مبادرة جريئة يتخذها قطاع الفنون التشكيلية مستهدفاً بها شريحة جديدة من شباب الفنانين الواعدين، لإلقاء الضوء على التجارب الأولية للطلاب المتميزين من جميع أنحاء الجمهورية وإبراز إبداعاتهم خارج النطاق الأكاديمي ليصبحوا جزءاً فعالاً في المشهد الفني، بدلاً من أن يكونوا مجرد مشاهدين ومتابعين يتطلعون لفرصة عرض أعمالهم يوماً ما في إحدى الفعاليات الفنية الكبيرة مثل صالون الشباب، كما يعنى هذا الصالون بطلبة الفن المتميزين مانحاً لهم الفرصة ليخطوا أولى خطواتهم في الوسط الفني ويكون بمثابة بطاقة التعارف بينهم وبين قطاع الفنون التشكيلية والجمهور النقاد.
يشار إلى أن لجنة تحكيم الصالون ضمت كلاً من الفنانة د. نجلاء سمير (رئيساً)، والفنانة د. نسرين يوسف (عضواً)، والفنانة د. دارين وهبة (عضواً)، والفنان د. شادي أديب (عضواً)، وسوف تمتد فعاليات الصالون لمدة شهر تقريباً، ويصاحبه نشاط رسوم الغرافيتي من خلال فنانين يتم ترشيحهم من قبل قوميسير الصالون ويعاونهم عدد من الشباب المشاركين بالعرض لتنفيذ جدارية على جدار مركز محمود مختار الثقافي.
على الصعيد نفسه، افتُتح مساء أمس (السبت) بغاليري بيكاسو معرض بعنوان «خارج الإطار» يُشارك به 15 فناناً شاباً من أصحاب التجارب الواعدة، يُقدمون أعمالاً تتميز بالتنوع والثراء من حيث موضوعاتها وأساليبها واتجاهاتها وخاماتها، ويستمر المعرض حتى 25 مايو الحالي.
وذكر رضا بيكاسو مدير الغاليري ومنسق العرض أن «المعرض يأتي في إطار الأهداف التي يسعى لتحقيقها غاليري بيكاسو إيست لإعلاء القيم الفنية والاحتفاء بها وتنشيط حركة الفنون التشكيلية، وأحد المحاور الرئيسية التي نعمل عليها هو احتضان تجارب شباب الفنانين وتقديمها بالشكل اللائق، خصوصاً أنها تجارب إبداعية حقيقية واستطاعت لفت الأنظار لها بشكل قوي ويُنتظر لها مستقبل واعد».
يشارك في المعرض آلاء يحيى، وتامر رجب، ورانيا أبو العزم، ورواء الديجوي، وريم أسامة، وسلمى العشري، وشيماء الألفي، وشيماء درويش، وعبير فوزي، ومحمد تمام، ومحمد عيد، ومحمود رشدي، ومروة يوسف، ونهلة رضا، ونهى علي.



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.