معارض الكتب العربية... ضغط الاقتصاد ومطالب السياسة

مفهومها تغير بمجرد دخولها الأفق الثقافي العربي

جانب من معرض أبوظبي للكتاب 2017
جانب من معرض أبوظبي للكتاب 2017
TT
20

معارض الكتب العربية... ضغط الاقتصاد ومطالب السياسة

جانب من معرض أبوظبي للكتاب 2017
جانب من معرض أبوظبي للكتاب 2017

في معارض الكتب العربية عدد من الأسماء الخاطئة والهموم العالقة: هي أولاً ليست معارض؛ بل أسواق كتب. فكما هي معظم عناصر الحياة العربية بوجوهها المختلفة: السياسية والثقافية... إلخ، ولدت معارض الكتاب لأن لها نموذجا مسبقا في الغرب، أوروبا تحديداً. لكن مفهوم معرض الكتاب تغير بمجرد دخوله الأفق الثقافي العربي؛ واقع النشر والتأليف، وواقع توفر الكتاب، وما يحيط ذلك كله من سياسات وتوجهات فكرية ومذهبية وظروف اقتصادية وغيرها. معرض الكتاب في الإنجليزية هو Book Exhibit ومعارضنا، ربما باستثناء معرض أو معرضين، ليست لعرض الكتب، كما يشير اسمها، وإنما لتسويقها وشرائها، أو العرض بغرض التسويق. حتى معرض فرنكفورت الأكبر من نوعه في العالم، كما يقال، يسمى Book fair أي «سوق الكتاب» لكن ليس لأن الكتاب يباع فيه ويشترى، وإنما لأن المكان والمناسبة يتيحان للناشرين عرض إنتاجهم وللمؤلفين عرض أعمالهم والتعاقد مع الناشرين، أي إن المكان والمناسبة، بغض النظر عن الاسم، ليسا لشراء الكتاب كما هو معرض الرياض أو القاهرة أو الشارقة، وإنما هو لتحقيق فعالية اقتصادية ثقافية تتيح للكتاب أن ينشر وينتشر. البلاد التي لا توجد بها عوائق أمام توفر الكتاب لا تحتاج إلى معرض لبيعه أو تسويقه. لكن تلك هي أزمة الكتاب العربي والناشر العربي والقارئ العربي أيضاً.
سمة البيع والشراء للكتاب بوصفه سلعة جاهزة تعرفها معارض الكتب العربية ولم ترد في ذهن من طور فكرة معرض للكتاب في الغرب، ويعني هذا أن الناشرين يأتون إلى معارض الكتب ليساً بحثاً عن كتاب لينشر وإنما عن كتاب يمكن نشره. يأتون لأن ثمة مشكلة في التسويق، مشكلة اقتصادية وسياسية في الآن نفسه، وهي نموذج لتوحد الاقتصاد والسياسة في هم واحد. واضعو السياسات في الحكومات العربية يهمهم ضبط سوق المعرفة والثقافة التي يتم فيها تداول الأفكار والرؤى، لذا هناك دائماً مكتب للمراقبة ومقص للرقيب. الكتب قابلة للسحب والمنع من العرض في أي لحظة وحسب تقدير موظف قد لا يكون مؤهلاً (مع أن البعض يرى أن التأهيل - أي الشهادة العليا والثقافة - قد يكون أسوأ أثراً أحياناً)، فهو يخشى إن هو تسامح من سلطة أعلى منه تحاسبه فيستسهل محاسبة الناشر والكتاب ومعهما القارئ. غير أن الطريف والمؤلم في الآن ذاته أن الرقيب قد لا يعمل على نحو مباشر. الرقيب يكون قد جرى استيعابه من قبل الجميع ومنهم الناشر الذي يعرف أي الكتب يأتي بها وأيها يتركه في مخازنه لمعرض آخر تختلف معايير الرقابة فيه. وقد سمعت بعض الناشرين يقولون بالحرف الواحد إنهم يعرفون أي الكتب تصلح للرياض وأيها لأبوظبي وأيها للقاهرة وهكذا، أي إننا نتحدث عن رقيب داخلي ليس لدى الكاتب المؤلف وحده وإنما لدى الناشر المسوّق أيضاً. ذلك الرقيب يتدخل بطبيعة الحال عند الموافقة على نشر كتاب وقبل ذلك - بطبيعة الحال أيضاً - عند تأليفه.
الجانب الآخر الذي يسترعي الانتباه في معارض الكتب العربية، وكنت مؤخراً في أحد تلك المعارض، هو النشاط الثقافي المصاحب، النشاط المعروف بالفعاليات التي تتألف عادة من ندوات ومحاضرات وإبراز لشخصيات على نحو لا يخلو من رسائل سياسية تكرس توجهاً أو شخصاً بعينه. معارض الكتب العربية جميعاً تتسم بهذه السمة السياسية التي لن نجدها مطلقاً في لندن أو باريس أو فرنكفورت، تماماً مثلما أننا لن نجد الكتاب المعروض للبيع (إلا في أضيق الحالات). تلك الفعاليات ذات طابع ثقافي وفكري غالباً وتشمل نشاطاً تقيمه الدولة المستضافة (وهو تقليد غربي أيضاً) إلى جانب النشاط الرئيسي الذي يصاحب المعرض وتعده عادة لجنة مشرفة تقترح الموضوعات والمتحدثين. وفي ذلك ما يثري الناس بكل تأكيد. لكن المشكلة هي أن الفعاليات لا علاقة لها في الغالب بالكتب التي أتى بها الناشرون، لأن الناشرين لا علاقة لهم أصلاً بتلك الفعاليات التي تعدها جهات معنية في الدولة التي يقام المعرض على أرضها. فباستثناء التوقيع على الكتب، فإن الفعاليات في الغالب لا تناقش كتاباً صدر حديثاً أو موضوعاً صدرت فيه كتب حديثة معروضة. الفعاليات، بتعبير آخر، تطرح قضايا عامة ليست في المجمل موصولة بالكتب التي أقيم المعرض أساساً لعرضها وتسويقها. ثمة نشاطان منفصلان إذن، نشاط الناشرين والمؤلفين ونشاط المؤسسة الراعية والمشرفة على المعرض.
بين هاذين الجانبين يقع الطرف الثالث وربما الأهم: القراء أو الزوار الذي يعدون زبائن يتطلع الطرفان الآخران إلى اجتذابهم، إما بشراء الكتب أو حضور الفعاليات، لأنه من دون أولئك لن يكون هناك معرض أو فعاليات. لكن لأن الفعاليات تقام في فترات ومناسبات أخرى، فإنها في الغالب ليست ما يبحث عنه زوار المعرض. هم هناك من أجل الكتب بغض النظر عن نوعها أو مستواها. الزوار يعلمون أنه في الوطن العربي لا تتوفر الكتب بالكمية أو بالسهولة أو التنوع الذي يجدونه في معارض الكتب. الرقابة أشد ما تكون عادة على ما يأتي إلى «المكتبات» (الوراقون أو دكاكين الكتب بتعبير أدق)، لكنها تخف كثيراً في المعارض، لذا يتاح للقارئ في تلك المعارض الحصول على كتب يتعذر عليه الحصول عليها في الظروف العادية. أما لماذا تكون الرقابة ثقيلة هناك وخفيفة هنا؟ فلأسباب عملية في المقام الأول: لو شددت الرقابة لما أمكن للمعرض أن تكون له قيمة، لما جاء الزوار ولا الناشرون، ولما حقق المعرض مكاسب تجارية كالتي يحققها نتيجة تأجير المساحات للعارضين وللمستثمرين. أي إن للمعرض جانبه التجاري في عالم تطغى عليه النزعة الاستهلاكية ويتحول إلى سوق تحكمه عقلية الأرباح. البعد الاقتصادي عامل رئيس في تخفيف الرقابة.
العامل الآخر في تخفيف الرقابة هو أن السيطرة على انتشار الكتاب لم تعد بالسهولة التي كانت عليها قبل عقد أو عقدين. فمع العولمة الإنترنتية وتداخل الأسواق وسهولة التنقل لم يعد ممكنا السيطرة على حصول الناس على الكتب، مع أن جهوداً تبذل للاحتفاظ بأكبر قدر من تلك السيطرة. الكتب تأتي بالبريد المتعدد الوسائط وبالإنترنت عن طريق التنزيل ومع المسافرين الذين يصعب ضبط كل ما يحملون. إنه تنازل عملي واقعي، اعتراف بواقع متغير وبإمكانات محدودة. طبعاً لا تزال بعض المعارض العربية تحكم بعقلية الرقابة المشددة، وهي عقلية دون كيخوتية بالتأكيد، لكن هذا يدفع بالناس للذهاب إلى معارض أخرى للحصول على الكتب أو الاعتماد على الوسائل الإلكترونية المختلفة (يمكن تحميل آلاف الكتب على «فلاش ميموري» كما هو معروف).
باختصار: معارض الكتاب العربية تختصر واقع الثقافة العربية، وهي تتشكل تحت ضغوط الاقتصاد والسياسة، فتستجيب حيناً لمتغيرات العالم، وتصر حيناً آخر على أن تختلف فتستجيب لثوابت عربية يعرفها الجميع.



جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)