تحت شمس حارقة في غرب الموصل، يقف عشرات من السكان في طابورين طويلين، واحد للرجال وآخر للنساء والأطفال، ينتظرون من دون تأفف متى يحين دورهم للصعود إلى شاحنة بيضاء بداخلها طبيب يعاينهم ويصف لهم الدواء، وصيدلاني يعطيهم إياه مجانا.
وحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن هذه العيادة المتنقلة التي تقف على بعد عشرات الأمتار منها عيادة أخرى مماثلة مخصصة للنساء الحوامل، هي الحل الذي أوجدته المنظمات الإغاثية بدعم من منظمة الصحة العالمية ودولة الكويت، لتوفير الرعاية الصحية الأساسية لسكان الأحياء التي استعادتها القوات الحكومية أخيرا من أيدي المتطرفين في غرب الموصل، حيث أدت المعارك الشرسة بين الطرفين إلى تدمير البنى التحتية بالكامل.
وما يزيد من الحاجة إلى هذه العيادات النقالة هو الحظر الذي فرضته القوات الحكومية على سير العربات المدنية في هذه «المنطقة العسكرية»، وذلك بسبب خشيتها من السيارات المفخخة التي يقودها انتحاريو تنظيم داعش، الأمر الذي جعل انتقال المرضى إلى العيادات الثابتة، إن وُجدت، أمرا صعبا إذا كانت بعيدة عن منازلهم.
ويقول إيهاب عامر (31 عاما) الذي يعمل مع منظمة «داري» الإنسانية غير الحكومية: «نحن في منظمة داري لدينا مركز صحي ثابت في حمام العليل، وست عيادات متنقلة، إحداها عيادة نسائية تضم جهاز تصوير بالسونار وأجهزة متكاملة للكشف على النساء الحوامل، وتعمل فيها طبيبة». ويضيف أن «الكادر الذي يشغل هذه العيادات محلي ويتكون من عشرة أطباء وعشرة معاونين، إضافة إلى كاتب وسائق لكل عيادة نقالة. نحن ننشر هذه العيادات الست يوميا من الثامنة صباحا وحتى الثانية بعد الظهر في كثير من الأحياء، مثل الموصل الجديدة ووادي حجر وحي المنصور، وذلك وفقا لمناطق النزوح والأحياء المحررة»، مؤكدا أن «الأطباء في هذه العيادات الست يجرون 1250 مراجعة يوميا».
وفي داخل العيادة النقالة المقسمة على صغر حجمها إلى أقسام متعددة، يجلس الطبيب مصطفى محمود إلى كرسي وأمامه تجلس عجوز سبعينية، يفحصها ويصف لها الدواء، ثم يعطي الورقة للصيدلاني الواقف خلفه الذي يسلم السيدة دواءها بعدما يكون الطبيب قد شرح لها كيف تتناوله. ويقول الطبيب: «أكثر الحالات التي نواجهها إضافة إلى الأمراض المزمنة، هي أمراض ناجمة عن سوء التغذية لدى النساء وكذلك لدى الأطفال».
ومن هؤلاء الأطفال الرضيعة رقية، التي لا تكف عن البكاء بينما تحاول والدتها المراهقة إسكاتها بمصاصة، من دون جدوى. تقف الأم بعباءتها السوداء تحت لهيب الشمس حائرة ماذا تفعل بابنتها الشقراء التي تبكي من دون توقف. تقول: «ليس لدي حليب لأطعمها»، قبل أن يتدخل أحد الصحافيين الأجانب ليناولها قارورة ماء ويطلب منها أن تسقي ابنتها «لأنها قد تكون مصابة بالجفاف» كما يقول. بضع قطرات من الماء تشربها الرضيعة فتتوقف عن البكاء وسط فرحة الأم.
والماء أصبح في هذه الأحياء المنكوبة عملة نادرة، والسكان يدفعون ثمن «الجريكان» أي القارورة الكبيرة (17 لترا) 2500 دينار (دولاران)، كما يقول راعي المحمد الصالح (21 عاما). ويضيف الشاب القصير القامة ببنيته الهزيلة: «لا توجد لدينا أي قطرة ماء منذ شهرين. المياه مقطوعة والمؤن نفدت». أما رفيقه عمر فيقول: «أنا بلاط، وراعي هو تقني أجهزة تبريد، ونحن اليوم عاطلان عن العمل، وليس معنا أي مال بعدما كان كل منا يكسب مليون دينار شهريا» (800 دولار)، قبل بدء الهجوم على غرب الموصل في 19 فبراير (شباط).
أما المحظوظ من بين هؤلاء فهو من توفرت لديه دراجة هوائية أو عربة تجرها دابة، فعندها يمكنه أن ينقل قطعة أثاث أو كميات كبيرة من المواد الغذائية والمياه، كما هي حال أبو صلاح الخمسيني وحماره المربوط إلى عربة خشبية قديمة، تستعيد اليوم مجدها الضائع.
لكن الحكومة العراقية تحاول التخفيف من هذه المعاناة عبر توفير مياه الشرب للسكان بواسطة صهاريج، وتوزيع المساعدات الغذائية عليهم بالتعاون مع منظمات إغاثية.
توفير الخدمات الأساسية لسكان غرب الموصل مهمة شبه مستحيلة
«عيادات نقالة» لعلاج المرضى... وماء الشرب «عملة نادرة»
توفير الخدمات الأساسية لسكان غرب الموصل مهمة شبه مستحيلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة