سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم

يصنع في ورش خراطة بخبرات المنشقين والأجانب.. وقذائف الهاون أبرزها

سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم
TT

سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم

سلاح المعارضة السورية.. يقصف ولا يحسم

لم يكن كشف «الجبهة الإسلامية»، أكبر التشكيلات العسكرية في سوريا، عن أنها تمتلك مصانع ذخيرة محلية الصنع في البلاد، مفاجئا. فمسار الأزمة التي امتدت على طول البلاد وعرضها لأكثر من ثلاث سنوات، في ظل «الشح» بالدعم العسكري لمقاتلي المعارضة السورية، دفع مقاتلي المعارضة إلى محاولات «الاكتفاء الذاتي من السلاح».
واستعانت تلك القوات، بحسب قيادي ميداني معارض، بخبرات «الضباط المنشقين عن القوات النظامية، وبخبرات المقاتلين الإسلاميين الذين سبق أن قاتلوا في العراق»، ما أسهم في توفير ذخيرة أساسية لقوات المعارضة، لكنها لم تعطها القدرة على الحسم.
يقتصر الحديث عن التصنيع العسكري عند المعارضة السورية على ثلاثة وجوه بشكل أساس، تقول مصادر المعارضة لـ«الشرق الأوسط» إن أبرز إنجازات الصناعة المحلية هو تصنيع قذائف الهاون بعيارين متفاوتين، واستخدمت على نطاق واسع في دمشق وريفها. والثاني هو تصنيع المواد المتفجرة من المواد الكيميائية لتستخدم في العبوات الناسفة وعمليات التفخيخ. أما الثالث فكان تطوير الصواريخ المحلية الصنع، بما يمنحها قدرة على الوصول إلى مناطق أبعد جغرافيّا، علما بأن هذه الصناعة اقتصرت على حشوات الصواريخ وهيكلها المعدني، من غير أن تصل إلى صناعة الرأس المتفجر نفسه.
ولم تظهر صناعة المعدات العسكرية عند المعارضة السورية، طوال ثلاث سنوات، قبل أن تعلن «الجبهة الإسلامية» عن استحداث مدفع «جهنم»، قبل أسبوعين بموازاة استحداث «جبهة النصرة» مؤسسة التصنيع العسكري، أطلقت عليها اسم «بأس»، من غير أن تكشف تفاصيل الصناعات. ويشير مسار الاعتماد على الذات في تصنيع سلاح فعال في الميدان، وخصوصا في مناطق ريف دمشق المحاصرة، إلى الاعتماد شبه الكامل على جهود ذاتية لمواصلة القتال ضد النظام الذي يستخدم المدرعات وسلاح الجو وأحدث الصواريخ.
ويأتي الاعتماد على السلاح المحلي الصنع، تعويضا عن «الشح» الذي تلا مرحلة الاستيلاء على غنائم عسكرية، هي ذخائر ومدافع وبنادق آلية خفيفة ومتوسطة، من مخازن ومقار القوات النظامية التي تجري السيطرة عليها. وقال مصدر قيادي معارض في شمال سوريا لـ«الشرق الأوسط» إن «خبرات المنشقين من الجيش النظامي، وخبرات المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا خارج سوريا في السابق، وخصوصا العراق، أسهمت في التوصل إلى منظومة صناعة للذخيرة، تعوض عن النقص بالمعدات العسكرية»، مشيرا إلى أن معظم خبرات المقاتلين الأجانب «تركزت على صناعة المواد المتفجرة، بما يتخطى الذخائر والسلاح». وقال المصدر: «من يستطِع تكرير النفط بطريقة بدائية، لن يستعصي عليه تصنيع الذخيرة».
وبينما تطورت صناعة مدافع الهاون بشكل قياسي، منذ بداية عام 2013، لم تتمكن قوات المعارضة من إنتاج كمية كبيرة من الصواريخ المحلية الصنع. وترجع المصادر ذلك إلى «عدم الاعتماد بشكل أساس على الصواريخ في المعارك، كون منصاتها ستكون مكشوفة»، لكن «استخدامها لقصف المناطق البعيدة المدى، وتتجاوز الـ10 كيلومترات مثل قصف ريف اللاذقية، يجعل الحاجة إليها أكثر إلحاحا». وأوضح أن تصنيع الصواريخ المحلية الصنع «اقتصر على تطوير صواريخ الغراد ومدها بحشوات دافعة إضافية، وتشكيل جسمها المعدني أحيانا، بعد توفر رؤوسها المتفجرة».
وبينما تتنافس الكتائب المقاتلة في ما بينها من أجل تطوير عتادها العسكري، تفوقت «الجبهة الإسلامية» بصناعة قذائف المورتر التي تطلق من مدافع هاون في ريف دمشق، بعد تحويل ورشات الخراطة الصناعية في المليحة وجوبر وغيرهما من مناطق الغوطة الشرقية لدمشق، إلى مصانع تنتج ما يزيد على ألف قذيفة مورتر من عياري 80 و120 مللم شهريا، وهي كمية تغطي أغلب الجبهات جنوب ووسط سوريا إضافة إلى العاصمة وريفها.
وبثت الجبهة الإسلامية تقريرا مصورا عن أحد معاملها المنتجة لقذائف الهاون والصواريخ المحلية الصنع، تحدث فيه أحد قادة الجبهة، قائلا: «بدأنا التصنيع بصانعة الألغام والقنابل اليدوية، وذلك نتيجة الحاجة في ظل قلة الموارد».
وتتشارك الجبهة الإسلامية مع فصائل أخرى موجودة في حلب، كانت أول من صنع قذائف المورتر، ما أعطى المعارضة قدرة أوسع على التحرك، لكن المقاتلين في الجيش الحر لم يتمكنوا من صناعة السلاح، وكانت الجبهة الإسلامية أول من أعلن صناعة مدفع «جهنم» بعد ثلاثة أشهر من العمل المتواصل، حيث يتميز المدفع بقدرته على إلقاء قذائف يزيد وزنها على 200 كيلوغرام، إلى مسافة تقارب خمس كيلومترات، بقدرة تفجيرية تعادل تفجير براميل الموت المتفجرة، التي تلقيها الطائرات المروحية لقوات الأسد.
ويوضح مقاتلون من الشمال أن هذا المدفع يمكنه إطلاق قذائف يبلغ وزنها من 5 كلغ إلى 40 كلغ، كما يمكنه إطلاق 15 قذيفة دون أن تتأثر سبطانته»، كما تفوق قدرته التدميرية مساحة 200 متر مربع، كما يحتوي على منصتين لإطلاق الصواريخ محلية الصنع وأبرزها صاروخ «روهينغا» في مؤشر إلى «المسلمين المضطهدين في بورما، ميانمار».
ويؤكد أحد المقاتلين في كتائب «أحرار الشمال»، المتمركزة في محافظة إدلب أن «نيران هذا المدفع بدأت يغير من شروط المعركة الميدانية لصالح المعارضة»، مشيرا إلى أن «مساحة التفجير التي تحدثها قذائفه كبيرة جدا مقارنة بالأسلحة الأخرى التي يصنعها المقاتلون». ويقول المقاتل المعارض إن «مدفع (جهنم) جرى استخدمه للمرة الأولى في معركة القصاص لأهلنا في بانياس، وكان لاستخدامه الأثر الكبير في تحرير الكثير من الحواجز النظامية في إدلب».
وتصنع حشوة مدفع «جهنم» من جرار الغاز المسال المستخدمة للأفران في البيوت والمحال التجارية، حيث يقوم صناع هذه القذائف بثقب جرة الغاز وحشوها بمادة «TNT» المتفجرة، إضافة إلى مواد أخرى شديدة الانفجار غالبا ما يجري استخراجها من الصواريخ والبراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات النظام السوري على القرى والبلدات السورية ولا تنفجر. ويوصل بالمقذوف «جرة الغاز» أسطوانة قطرها نحو خمسة إنشات بطول نحو 90 سم تعبأ بالبارود ومواد دافعة أخرى، إضافة إلى مسمار الاشتعال في أسفل الأسطوانة الطولية، ويتراوح وزن هذه القذائف بين 20 إلى 30 كلغ.
وبموازاة الكشف عن هذا المدفع، انفردت جبهة «النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة وحدها في إنشاء مؤسسة لـ«التصنيع الحربي»، بحسب ما أعلنته على حسابها على موقع «تويتر» ويتركز عمل المؤسسة الذي أطلق عليه اسم «بأس»، وفق مصادر جهادية، على «مجال التطوير والإنتاج الحربي القائم على أسس علمية مؤسسية لم تشهدها الساحات من قبل». وتأتي هذه المؤسسة ضمن مشروع بدأت به «جبهة النصرة» منتصف العام الماضي هدفه صناعة بعض أنواع الأسلحة والذخائر اعتمادا على آلات ومعدات استولت عليها من المصانع ومعامل الدفاع في مناطق سيطرتها.
ونقلت «مؤسسة المنارة»، التي تعتبر الذراع الإعلامية للجبهة عن المسؤول الجهادي قوله إن «المؤسسة تنتج اليوم الكثير من مدافع الهاون بعيارات مختلفة مع قذائفها، إلى الكواتم وقطع غيار لبعض الأسلحة، وقواعد بعض المدافع الرشاشة إلى مخازن كلاشنيكوف والعبوات والصواعق وغيرها، هذا بالإضافة إلى الصواريخ».
وإذا كان مراقبون يتوقعون أن تتمكن جبهة «النصرة» في القريب العاجل من تحديث بعض المدافع وتطوير مداها، قال ناشطون إنه يجري تحويل بعض المستودعات في مدينة حلب إلى ورش لتصنيع الأسلحة، حيث يعمل عناصر المعارضة على مخارط عملاقة مستخدمين رقاقات معدنية، كما يستخرجون مادة «تي إن تي» من الصواريخ التي أطلقتها القوات النظامية عليهم ولم تنفجر ويعيدون تعبئتها في أسلحتهم، وبحسب الناشطين فإن العاملين في هذه الورش يستعينون بمواقع على «شبكة الإنترنت» لإتقان صناعة الأسلحة البدائية.
لكن هذه الأسلحة التي يجري تصنيعها ليست فاعلة في الحرب التي تخاض على الأراضي السورية، بحسب ما يؤكده الخبير العسكري العميد المتقاعد نزار عبد القادر لـ«الشرق الأوسط»، موضحا أن «نوعية هذه الأسلحة متخلفة جدا». ويقول: «هي عبارة عن مدافع هاون يجري تصنيعها عبر أنابيب معدنية، إضافة إلى قذائف لهذه المدافع يستخدم المتفجرات في تصنيعها داخل ورش صناعية استولت عليها المعارضة السورية».
وتظهر أشرطة فيديو بثها ناشطون على موقع «يوتيوب» مصانع للسلاح تنتشر في ريف إدلب شمال سوريا الخاضع بمعظمه لسلطة المعارضة. ويوضح عبد القادر أن معظم هذه المصانع عبارة عن ورش «خراطة»، لافتا إلى أن «هذا السلاح ليس فاعلا ولا يمكن أن يؤدي إلى تغيير المعادلات الميدانية، لا سيما أن النظام يملك قوة نارية هائلة وأسلحة ذات مدى بعيدة لا تمتلكها المعارضة ولا تستطيع تصنيعها».
ويضيف عبد القادر: «هذه النوعية من الأسلحة يمكن أن تستخدم في حروب المواقع السريعة بحكم سرعة حركة تركيبها وفكها، وكذلك استخدامها على النقيض من النظام الذي يستخدم عادة أسلحة ثقيلة يسهل استهدافها».
ولا تمتلك المعارضة السورية أي خبرات تقنية بين صفوفها تشرف على تصنيع هذه الأسلحة، فالضباط العسكريون الذين انشقوا عن النظام وانضموا إلى المعارضة معظمهم من قطاعات المشاة الذين تقتصر خبراتهم على الخطط الميدانية، لكن الخبير العسكري نزار عبد القادر يؤكد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» أن تصنيع مثل هذه الأسلحة البدائية لا يحتاج إلى خبرات تقنية أو أكاديمية، إذ يكفي أن تتوفر المواد حتى تجري عملية التصنيع»، ويضيف: «تصنيع مدفع الهاون يحتاج فقط إلى وجود أسطوانات وأحيانا يجري الاستعانة بشرائح معدنية من أجل تطوير المدى».
وبحسب أشرطة الفيديو التي تبث على مواقع المعارضة، فإن المشرفين على تصنيع الأسلحة هم من المقاتلين العاديين وأحيانا من سكان القرى ذوي الخبرات الصناعية. وتتركز معظم مصانع المعارضة في مناطق الشمال السوري، لا سيما في إدلب وحلب.
وتعد الجبهة الإسلامية التي تشكلت نهاية عام 2013 أكبر تجمع للقوى الإسلامية المسلحة في سوريا. وقد أعلنت الجبهة في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) انسحابها من هيئة الأركان بسبب ما سمته «تبعية هيئة الأركان للائتلاف الوطني وعدم تمثيليتها». أما كتائب «أحرار الشام» فهي من أبرز الفصائل الموجودة على الأرض، والمنتشرة على نطاق واسع.
وكانت نواة الجبهة أنشئت في عام 2012 حيث انضمت إلى هيئة الأركان، قبل أن تنفصل عنها، ويقدر عدد مقاتليها بما بين 35 و40 ألف مقاتل. والجبهة هي عبارة عن تحالفات لنحو 20 من المجموعات. تضم الجبهة ألوية الفاروق، الفاروق الإسلامي، لواء التوحيد، لواء الفتح، لواء الإسلام، صقور الشام، ومجلس ثوار دير الزور. أكبر فصائل الجبهة وأكثرها سطوة هي حركة أحرار الشام الإسلامية بقيادة حسان عبود، الذي يعرف أيضا بأبي عبد الله الحموي، وهو رئيس الجبهة (اعتقلته السلطات السورية بعد مشاركته في هجمات في العراق، وأطلق سراحه في أوائل عام 2011 كجزء من عفو عام).
وكانت حركة أحرار الشام اندمجت في فبراير (شباط) 2013 مع ثلاث حركات أخرى لتكوين حركة أحرار الشام الإسلامية. ويعرف عن مقاتليها قوتهم وانتظامهم. وكانت الحركة من أوائل من استخدموا أجهزة التفجير واستهدفوا القواعد العسكرية للحصول على السلاح. وتقول الجماعة إنها تدير 83 كتيبة في كل سوريا، بما في ذلك دمشق وحلب.
ومن أسس الجبهة أيضا، لواء الإسلام الذي يقدر عدد مقاتليه بنحو 9000، وقد تأسس لواء الإسلام في منتصف عام 2011 على يد زهران علوش، وهو ناشط سلفي اعتقلته السلطات قبل سنتين من تأسيس اللواء. تصاعدت أهمية اللواء بعد تبنيه تفجير مقر مكتب الأمن القومي بدمشق في يوليو (تموز) 2012، حيث قتل الكثير من كبار مسؤولي الأمن بمن فيهم وزير الدفاع، صهر الرئيس الأسد.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.