ليبيا... تقارب الجنرالات

أول حوار بين ضباط الجيش منذ 2011

ليبيا... تقارب الجنرالات
TT

ليبيا... تقارب الجنرالات

ليبيا... تقارب الجنرالات

انفتحَ باب جديد للحوار بين ضباط في الجيش الليبي، قبل أيام، يعد هو الأول من نوعه منذ الانتفاضة المسلحة التي أدت إلى إسقاط نظام معمر القذافي ومقتله في عام 2011. وبعيدا عن الأضواء، يعوِّل فريق من السياسيين والنشطاء والوجهاء الليبيين، في الوقت الراهن، على إحداث تقارب بين جنرالات القوات المسلحة، لإنقاذ الدولة من الفوضى، بشرط أن يتم التوافق أولا على كل شيء، قبل الإعلان عن تشكيل مؤسسة متكاملة مثلما كانت عليه قبل ست سنوات. ويتخوف الليبيون من تدخل دول أجنبية في شؤونهم، بما في ذلك التلويح الأوروبي بإرسال قوات إلى شواطئها.
كان الجيش الليبي موحدا في عهد معمر القذافي، ثم تعرض لانقسامات حادة بسبب تباين مواقف كبار قادته من تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ما بين مؤيد ومعارض. ومنذ ذلك الوقت تورط الكثير من القادة العسكريين، من توجهات مختلفة، في حروب داخلية أدت إلى تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتسببت في إثارة مخاوف دول الجوار من خطر انتشار الجماعات المتطرفة وهشاشة الحراسة على الحدود البرية ومنافذ الدولة البحرية والجوية. ويشعر قادة الجيش اليوم بأن الخطر يزداد، وإمكانية التدخل العسكري الخارجي أصبحت تلوح في الأفق، وهو أمر مثير لقلق جنرالات القوات المسلحة.
وبالإضافة إلى الأمم المتحدة والدول الكبرى، تبذل مصر وتونس والجزائر جهودا حثيثة لمساعدة الليبيين على الخروج من المأزق الذي يهدد الدولة الغنية بالنفط، والحيلولة دون أن تصبح «دولة فاشلة». وعلى باب فندق فاخر يقع على مرمى حجر من مطار القاهرة الدولي، توقف جنرال ليبي في بدلة سوداء وربطة عنق حمراء، وقال وهو يبتسم في أمل «لم نصل بعد إلى تصور. ما زلنا في مرحلة اختبار الدرب». وفي المساء كان هناك لقاء آخر في حديقة فندق على شاطئ النيل، بين ثلاثة ضباط ليبيين، كل منهم برتبة عميد.
الأول من القيادات العسكرية في مدينة مصراتة ذات التسليح القوي. وهي مدينة تقع على بعد 200 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة طرابلس. وكان هذا العميد من المؤيدين لتدخل الناتو للتخلص من نظام القذافي. واليوم، يبدو ممسكا بكوب القهوة، وهو يشعر بالإرهاق من سنوات الاحتراب التي راح ضحيتها ألوف الشباب، وتشريد نحو مليوني ليبي، وخسائر بمليارات الدولارات.
أما الثاني، فمن قيادات مدينة الزنتان، في جنوب غربي طرابلس، وكان أيضا من مؤيدي تدخل الناتو، بل أشرف على فتح المجال لإسقاط أسلحة قادمة من إحدى الدول الأجنبية، للمنتفضين المسلحين الذين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب «ثوار». وأشار في كلمات مقتضبة إلى ما معناه أن الوقت قد حان لـ«توحيد المؤسسة العسكرية وفتح حوار بين العسكريين بعيدا عن التجاذبات السياسية والجهوية. ما نريده هو إعادة بناء الجيش وترك السياسة لما يقرره الليبيون بعد وضع دستور للدولة. الخطر الآن هو أن ليبيا يمكن أن تنتهي كدولة».
ومع أن هذين القائدين كان يجمعهما النضال المشترك للقضاء على حكم القذافي، إلا أن الخلافات نشبت بينهما بداية من عام 2014؛ بسبب الصراع على تقاسم النفوذ بين المسلحين في العاصمة، حيث تسبب هذا النزاع في احتراق مطار طرابلس الدولي. واليوم يسعى كل منهما لطي صفحة الماضي وفتح ملف جديد من أجل المستقبل. ولكن لكل منهما «مخاوف من تزايد النشاط الإيطالي في مناطق عدة في ليبيا بحجة مواجهة الهجرة غير الشرعية».
العميد الثالث من بنغازي. ووصل متأخرا إلى الفندق آتياً من مطار برج العرب قرب مدينة الإسكندرية المصرية. وهو عسكري محسوب على المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي. وكان حفتر نفسه من المناصرين لتدخل الناتو. إلا أنه حين أعلن إعادة تنظيم جانب من صفوف الجيش، قبل ثلاث سنوات، واجه معارضة من جانب عدد كبير من القيادات العسكرية في الغرب الليبي، أي من مصراتة وجبل نفوسة والزنتان وغيرها، معتبرين ما قام به «انقلابا».

النظرة إلى حفتر
لكن جهود حفتر باتت الآن تثير الانتباه، وتجبر الخصوم على إعادة النظر. ومد عسكريون من المحسوبين على نظام القذافي يد العون لحفتر، أخيرا، في مواجهة التنظيمات المسلحة والمتطرفة. ويقول العميد المشار إليه «ليبيا أصبحت في خطر. نخشى من مزيد من الفوضى ومن الانقسامات. نحن، كما قال المشير حفتر مرارا، لا شأن لنا بالسياسة، ما نريده وما نتحاور حوله كعسكريين، في الوقت الراهن، هو أن مؤسسة الجيش لا بد أن تعود، وهذا ما فشل فيه السياسيون خلال السنوات الماضية، وآن الأوان لكي يقوم رجال القوات المسلحة بالمهمة».
الأمم المتحدة، من جهتها عملت لإنجاح الحل السياسي الذي نتج من الاتفاق المعروف باسم «الصخيرات»، لكن المجلس الرئاسي الذي انبثق عن هذا الاتفاق، منذ أواخر عام 2015، عجز عن حل مشكلة إدارة الحكم في ليبيا. وحالياً توجد ثلاث حكومات وثلاثة برلمانات. في الغرب هناك حكومتا «الوفاق الوطني» برئاسة فايز السراج، و«الإنقاذ» برئاسة خليفة الغويل. وفي الشرق «الحكومة المؤقتة» برئاسة عبد الله الثني. أيضاً، في طرابلس نرى المؤتمر الوطني (البرلمان السابق) برئاسة نوري أبو سهمين، ومجلس الدولة (جزء من البرلمان السابق) برئاسة الدكتور عبد الرحمن السويحلي. ويوجد في طبرق شرقا البرلمان الحالي برئاسة المستشار عقيلة صالح. ولقد وقفت هذه الأجسام السياسية والتشريعية وراء مجاميع مسلحة يحارب بعضها بعضا، وهي، في معظمها، عبارة عن خليط من ضباط وجنود كانوا في الجيش الليبي القديم، ومدنيين يحملون السلاح.
الجنرال الآتي من مصراتة، المدينة التي كان عليها العبء الأكبر في محاربة تنظيم داعش وطرده من مدينة سرت أواخر العام الماضي، يقول: «بعد نهاية الحرب في سرت، حاولت بعض الجماعات السياسية في طرابلس وفي مصراتة، استغلال قوتنا للهجوم على الموانئ النفطية التي يسيطر عليها حفتر في الشرق والمشاركة في الهجوم على القبائل المعروف أنها محسوبة على نظام القذافي في الجنوب، وبخاصة في كل من مدينة سبها ومدينة بني وليد. وحين رفضنا ذلك، تعرضنا للمؤامرات. وانقلب المتشددون، قبل نحو شهر، على المجلس البلدي لمصراتة».
ويضيف موضحا، أن عدد مَن قُتلوا في الحرب على «داعش» في سرت يبلغ أكثر من 800، وليس 300 كما كان يتردد. ونحو 700 من هؤلاء الضحايا من أبناء مدينة مصراتة، ونحو 120 من المدن الليبية الأخرى. بينما بلغ عدد المصابين نحو 3 آلاف. ما أريد أن أقوله وأن يفهمه إخوتنا من العسكريين الليبيين الذين بدأنا فتح قنوات تواصل بيننا لأول مرة منذ رحيل القذافي، هو أننا لن نحارب من أجل جماعة أو تيار أو جهة. سنحارب من أجل ليبيا فقط».
للعلم، وصل من مصراتة وطرابلس، إلى القاهرة، دفعتان من الجنرالات، خلال شهر. كانت جلسات تمهيدية لرتب عسكرية مهمة مصابة بالإرهاق من طول فترة الاقتتال والاحتراب في الصحراء الليبية الشاسعة. وبعد ذلك بأسبوعين وصل نحو عشرين رتبة عسكرية من مناطق جبل نفوسة والزنتان وورشفانة وغيرها. ويقول أحد القادة العسكريين من القبائل القوية في غرب ليبيا «هناك حراك جديد في عموم البلاد. تستطيع القول إننا نتخلص رويدا رويدا من حالة الاستقطاب التي كانت موجودة بين العسكريين المنتمين أساسا للجيش. الحراك الجديد حراك وطني يتواصل مع الجميع، ويرفع شعار «توحيد المؤسسة العسكرية».
من ناحية أخرى، منذ بداية الأزمة الليبية كان يتواصل مع الأطراف الداخلية، دبلوماسيون ومسؤولون دوليون وإقليميون محاولين رأب الصدع السياسي. ووفقا لمصادر اجتماعات الضباط الليبيين في القاهرة، شاركت تونس بقوة في تسهيل اللقاء الذي عقد بين المستشار صالح والدكتور السويحلي، في العاصمة الإيطالية روما، الأسبوع الماضي. كما قام وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، الجزائري، عبد القادر مساهل، بجولة في ليبيا من أجل تقريب وجهات النظر بين الزعماء المتخاصمين.
في المقابل، أخذت مصر تعمل على الملف الليبي، بطريقة مختلفة، منذ أشهر، حين أوكلت هذا الملف للفريق محمود حجازي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية. وأشرفت لجنة حجازي على عقد لقاءات استماع «مفتوحة وصريحة» لمئات عدة من خصوم القوى السياسية والقبلية والإعلامية الليبية، لكن الخطوة اللافتة تعد، وفقا للمصادر العسكرية الليبية، فتح الباب المصري للقاءات في القاهرة لأول مرة بين قادة عسكريين كانوا يحاربون بعضهم بعضا حتى وقت قريب.
مصدر أمني مصري قريب من لقاءات الجنرالات الليبيين، قال «يبدو أنهم يسعون لاستغلال حالة الإرهاق التي أصابت الجميع في ليبيا. أعتقد أنهم يريدون رفع شعار يهدف إلى جمع الليبيين حول توحيد الجيش والبحث عن سبل للتوافق بين كبار القادة العسكريين».

أنواع ثلاثة
واليوم يوجد ثلاثة أنواع من القيادات العسكرية الليبية: الأول، العاملون مع المشير حفتر. والثاني، المنخرطون في المجالس العسكرية للمدن، وهم يعملون مع مسلحين مدنيين، وتتركز هذه الظاهرة في المنطقة الغربية من البلاد. والثالث، الضباط الذين يطلق عليهم أنصار النظام السابق، ومنذ مقتل القذافي ظلوا يرفضون المشاركة في العمل في الجيش تحت علم «الثورة» ذي الخطوط الملونة. وما زال بعض منهم يرفع علم الدولة في عهد القذافي ذي اللون الأخضر.
حفتر ظل منذ 2014 يحاول إنشاء مؤسسة عسكرية، ولكن واجهته عراقيل تتمثل في تمسكه بمبادئ «ثورة 17 فبراير 2011»، وهو أمر يرفضه عدد من قادة الجيش السابقين الذين كانوا يحاربون مع القذافي. غير أن لقاءات العسكريين الأخيرة في القاهرة أعطت زخما جديدا يمكن البناء عليه. كما أن بعض القادة ممن كانوا يتهمون حفتر بأنه يدير «ميليشيا انقلابية وليس جيشا»، ويرفضون أي دور له، بدأوا يتحدثون حول الطاولة بطريقة مختلفة.
ويقول جنرال مصراتة، وهو يعدل من ربطة عنقه الحمراء «لقد بدأت تحدث عملية تواصل شبه مستمرة من أجل تطوير الحوار والنقاش. جئنا للقاهرة للأسباب نفسها... وعلى عكس التصورات السابقة، توصلنا إلى أنه «لا توجد مدينة ذات لون أبيض وأخرى ذات لون أسود، واتفقنا على أن كل المناطق فيها مشتركات وفيها تباين أيضا. وأن كل هذه الأمور قابلة للمناقشة والأخذ والرد».
كذلك، جرى التطرق إلى أنه في «بعض الأحيان تتغلب بعض التيارات في بعض المناطق، بحكم خلو الساحة. لكن، الأكيد، أن كل منطقة تستطيع أن تخلق مشكلة للطرف الآخر، كما أن الطرف الآخر لديه القدرة على خلق مشكلة عكسية». ولهذا؛ يبدو أن حوار الجنرالات يسير على نحو فيه قدر من الندية والجدية وحساب القوى الشعبية والقوة العسكرية... «حين يتمكن طرف في المنطقة الغربية من صنع مشكلة مع حفتر، فإن الطرف المقابل يمكنه خلق مشكلة مماثلة».
ويوضح أحد الزعماء العسكريين أنه... «من غير المقبول الاستمرار في شيطنة مدينة، أو الزعم بأن كل سكانها كذا وكذا (يقصد جانبا من ميليشيات مصراتة التي شاركت مع ميليشيات الإسلاميين في محاربة حفتر وبرلمان صالح)، أو أنهم مسؤولون عن المشكلات التي تمر بها البلاد. الليبيون لديهم العنف في كل شيء، وهم عصبيون جدا... الحب بعنف والكراهية بعنف. كل شيء لدينا بعنف».
ويضيف، أنه من المعروف أن الوضع في غرب ليبيا شديد التعقيد عموما؛ إذ إن القوة العسكرية للقذافي كانت تتركز هناك، وجرى فيها معظم القتال المهم في عام 2011: «وبالتالي تكونت مراكز قوى استغلتها بعض الأطراف. والمقصود بها بعض التيارات الإسلامية»، مشيرا إلى أن «الميليشيات المتطرفة استغلت ألوف الشبان، غالبيتهم من مصراتة، من أجل خوض حروب خاصة بها خلال الأعوام الأخيرة، وهذا الأمر اتضح الآن ونعمل على عدم تكراره... ما نحن فيه حقا هو القيام بتهدئة شاملة بين المدن والقبائل في المنطقة الغربية، باستثناء بعض الأعمال الإجرامية، مثل إغلاق طريق هنا وآخر هناك».
أيضاً، يتحدث العسكريون الليبيون الذين يترددون على القاهرة عن أن الحل، انطلاقا من مؤسسة الجيش، أمر ممكن... «كان الأمر قابلا للتحقق حين أوقف ضباط في الجيش - بغض النظر عن انتمائهم لحفتر أم لا - الاحتراب بين مدن عدة في الغرب، كما حدث في الزاوية وورشفانة والزنتان. هذا الأمر الجديد أصبح واضحا على الأرض منذ العام الماضي، إلا أنه لم يتم تطويره والبناء عليه بشكل إيجابي؛ لأن المناكفات السياسية بين البرلمان والمؤتمر الوطني (البرلمان السابق) تلقي بظلالها على الأوضاع».
في هذه الأثناء، في الخلفية، يقوم تيار وطني يضم عناصر قبلية وناشطين من مناطق غرب ليبيا، بدور مهم من وراء الستار، من أجل إنجاح محاولات توحيد الجيش في مؤسسة قوية. ويقول أحد عناصره، وكان برفقة ضباط وصلوا أخيرا للعاصمة المصرية: «طبعا الحوار الذي نؤيده ونسهل له الطريق، يستفز التيارات المتشددة في ليبيا. وكان من آخر التداعيات التي تُشير إلى فاعلية التيار الوطني، الهجوم من جانب المتشددين على المجلس البلدي في مصراتة». ويضيف: ومع هذا لن نتوقف عن العمل؛ لأن علاقتنا جيدة بجميع الأطراف، سواء في المجلس الرئاسي، أو مجلس الدولة، أو المؤتمر الوطني، أو البرلمان. لقد فتحنا أبوابا كثيرة خلال وقت قصير.
مما أثمرت عنه لقاءات القاهرة، إعادة الجانب المصري لفتح خط الطيران الجوي بين مطار مدينة مصراتة ومطار برج العرب، لكن مع استمرار شرط مراجعة وثائق السفر في مطار الأبرق الموجود في الشرق لليبي، ويخضع لسلطات برلمان صالح وجيش حفتر. وبنظرة من قرب، من السهل أن تلاحظ وجود استعدادٍ للحوار بين أطراف رئيسية لم يكن من المتصوّر، حتى وقت قريب أن تجلس معا في غرفة واحدة.

لقاء صالح والسويحلي
من ناحية أخرى، مع أنه لم تخرج عن لقاء روما بين صالح والسويحلي نتائج ذات شأن، إلا أن لقاء الرجلين، يُنظر إليه باعتباره يعكس القدرة على التواصل بين زعماء الشرق وزعماء الغرب. ويقول جنرال ليبي، وهو يهم بمغادرة الفندق للعودة إلى بلاده مع مجموعة من معاونيه: اليوم هناك تحولات في الموقف السياسي لكثير من الشخصيات التي لم تكن ترضى بأي حوار مع الأطراف في الشرق. ويضيف: لم يستطع أحد الاستفادة من الإقصاء المتبادل. ويتابع: «اليوم، نحن نقول لخليفة حفتر، لا تطلب الشرعية من البرلمان. ولكن اطلبها من ضباط القوات المسلحة في المدن الليبية، من خلال حوار عسكري، وأن تعلن أن المؤسسة العسكرية لا علاقة لها بالسياسة، وأنها ستحترم رغبة الشعب الليبي عند إجراء الانتخابات، وأن يقول حفتر إنه ملتزم بأن يكون تحت السلطة السياسية حين يكون هناك دستور دائم للدولة، وأن يأتمر الجيش الوطني بأمر السلطة السياسية».
ويقول عقيد في الجيش الليبي من طرابلس أثناء مشاركته في لقاء آخر بالقاهرة «أبناء المؤسسة العسكرية في ليبيا لديهم احترام لبعضهم بعضا. ويمكن للحوار أن يثمر بين حفتر والضباط الكبار في المناطق العسكرية، مثل (كتلة مصراتة) وما حولها، و(كتلة ورشفانة) وما حولها، و(كتلة طرابلس) وما حولها، و(كتلة الزاوية)، و(كتلة جيل نفوسة والزنتان) وما حولها، و(كتلة المنطقة الجنوبية الغربية والجنوبية الوسطى)، مثل سبها وبراك الشاطئ». ويضيف أن «مراكز الثقل العسكرية الرئيسية هي، في الحقيقة، مجرد أربع أو خمس مراكز، وأعتقد أن إقامة حوار عسكري يحدد قيادة عسكرية جامعة توافقية، أفضل من النظام الهرمي. هذا هو المناسب لليبيا؛ لأن ليبيا دولة شاسعة. دول أخرى تعمل وفقا لنظام الجيوش... لكن القذافي كان يخدم بنظام المناطق العسكرية؛ لأن المناطق العسكرية هي الأنسب لدينا»، مشيرا إلى أنه «من الخطأ توحيد المؤسسة العسكرية بقرارات سياسية؛ لأنه حتى الآن لا يوجد طرف سياسي جامع يمكن الاتفاق عليه. الأمن أصبح مطلبا أول لليبيين قبل السياسة وقبل الاقتصاد».

بوادر حسن نية
وفيما يعد بوادر حسن نية من جانب قطاع من عسكريي المنطقة الوسطى والغربية والمعروفين بأنهم خصوم الجنرال حفتر، جرى رفض تحريك القوات في نطاق نفوذ الجيش الوطني، والابتعاد عن خطوط التماس مع رجال حفتر. أما أهم ثلاث نقاط بدت من لقاءات العسكريين الليبيين في القاهرة حتى الآن، فهي كالتالي:
الأولى، بذل جهود حثيثة وغير مسبوقة من جانب العسكريين لاستعادة مؤسسة الجيش وتوحيدها، على أن يبدأ ذلك بتشكيل لجنة من سبعة ضباط للتحضير لحوار واسع. وهذا أمر لا يتعارض مع تطلعات الأمم المتحدة واتفاق الصخيرات ودول الجوار. والثانية، دعم الحراك الوطني المدني المؤيد لحوار قيادات الجيش، وهو الحراك الذي يتمركز في غرب ليبيا، ويرفض استخدام المجاميع المسلحة في حروب ضد مدن أو قبائل. والثالثة، استقطاب الجناح المعتدل في التيار الإسلامي، واستبعاد المتشددين و«جناح الصقور» الذي يريد إطالة عمر الميليشيات على حساب إيجاد مؤسسة عسكرية قوية وموحدة بغض النظر عن اسم من يقودها.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.