غالستون: «الاستثنائية الأميركية» قدمت إسهامات مميزة للعالم

يرى أن قوة بلاده تكمن في قدرتها على كشف أخطائها ومناقشتها علنا وتصحيحها

ويليام غالستون  -  غلاف «الشعب أمر هام»
ويليام غالستون - غلاف «الشعب أمر هام»
TT

غالستون: «الاستثنائية الأميركية» قدمت إسهامات مميزة للعالم

ويليام غالستون  -  غلاف «الشعب أمر هام»
ويليام غالستون - غلاف «الشعب أمر هام»

حسب قاموس «مريام وبستر»: «الاستثنائية» هي «حالة أن يكون الشخص مختلفا عن القاعدة. وهي، أيضا، نظرية استثنائية خاصة بدولة أو منطقة».
لهذا، يبدو أن اللغة الإنجليزية لم تعتمد بعد وجود دول استثنائية. وتعود جذور الكلمة إلى بداية الوطنية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكتب بعض الفلاسفة الألمان، ليس فقط عن الدولة السياسية والعسكرية، ولكن، أيضا، عن كونها فريدة من نوعها. عن «فولك» (شعب) فريد في اللغة والتقاليد. لكن، حتى في ذلك الوقت، ادعى غير غربيين هذا التفرد. مثل: الخلافة العثمانية، والإمبراطورية الصينية.
في الوقت الحاضر، توجد في الثقافة الغربية مفاهيم قريبة، مثل: «الشعب المختار» (من منطلق ديني)، و«الاستثنائية الثقافية» (في المنافسة وسط اللغات)، و«النعرة العرقية» (العشق الذاتي، الذي يكون خفيا أحيانا)، وحتى «العنصرية» يمكن أن تكون لها صلة، من نوع ما، بالاستثنائية الفردية أو الوطنية. وتبدو «الاستثنائية الأميركية» مرتبطة بهذه المفاهيم، بصورة أو بأخرى.
هذا ما يبحثه د. ويليام غالستون في الكثير من كتبه مثل «الليبرالية التعددية» و«ممارسة الليبرالية التعددية» وكتابه «الشعب موضوع هام».
ويحتل غالستون كرسي «ارزا زلخا لدراسات الحكم» في معهد «بروكنغز» الليبرالي في واشنطن. وقبل ذلك، كان مستشارا سياسيا للرئيس السابق بيل كلينتون، ولمرشحين لرئاسة الجمهورية من الحزب الديمقراطي. وهو، أيضا، أستاذ في جامعة ميريلاند.
هنا حوار معه عن مفهوم «الاستثنائية الأميركية» وتطبيقاته العملية، ودور أميركا في العالم اليوم:

* كتبت: «الاستثنائية الأميركية لها ثلاثة جذور: الدين، الحرية، وتجربة المهاجرين». ما إيجابيات وسلبيات هذه الاستثنائية؟
- قدمت الاستثنائية الأميركية إسهامات مميزة للعالم. قدمت قيادة وحيوية للفكر الديمقراطي. وساعدت على جعل الحقوق الفردية ما هي عليه اليوم، لغة أخلاقية مشتركة حول العالم.
لكن، مبالغة دولة في الحديث عن قيادتها الأخلاقية تجعلها عرضة دائما لاتهامها بالنفاق. مثلا، منذ سنوات كثيرة، شكلنا تحالفات في الشرق الأوسط أدت إلى استقرار داخلي وسياسات خارجية موالية لنا وسط هؤلاء الحلفاء. لكن، برهن ترددنا في دعم الربيع العربي دعما قويا على هشاشة ممارستنا لما نؤمن به.
هذه نقطة. النقطة الثانية هي أن الاستثنائية الأميركية المتطرفة تتسبب في الغطرسة في إثبات الذات.
وهنا، يجب أن نفرق بين شيئين، الأول: الإيمان بأن «فكرة أميركا» هي فكرة مثالية، ويمكن أن تطبق في كل العالم. والثاني: نشر هذه الفكرة بالقوة.
بالنسبة للنقطة الثانية، ساعدت هذه المشاعر على تبرير أفعال مثل غزو العراق. لقد برهن عقد من التدخل العسكري في الشرق الأوسط على حقيقة أن الديمقراطية يصعب تصديرها، حتى إذا استعملنا القوة. لكن، في الوقت نفسه، يجب ألا تقودنا هذه الحقيقة إلى أن سوء معاملة حكومة لشعبها موضوع لا يهمنا.
* كتبت: «في كثير من الأحيان يخطئ الآخرون في وصف الاستثنائية الأميركية بأنها غطرسة وطنية، بينما هي ظاهرة اجتماعية». لكن، ربما كل النقاد الأجانب يقولون إنها غطرسة. أليست كذلك؟
- يوجد متغطرسون في كل دولة. وحسب تفسيرات الخبراء، تدل «الاستثنائية الأميركية» على سمات مميزة للثقافة وللمجتمع في الولايات المتحدة. ويشمل ذلك أولا الدور المتجدد للمهاجرين. وثانيا، الدرجة العالية من التعددية العرقية والدينية. وثالثا، الشك في سلطة الحكومة.
في القرن الثامن عشر، عندما أصبحت الولايات المتحدة دولة مستقلة، كانت استثنائية، لأنها أسست حكومة تعتمد على حقوق الفرد، وعلى موافقة الشعب. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت هذه الأفكار مقبولة في العالم، دولة بعد دولة.
* ولكن بالنسبة لكثير من الناس في العالم الثالث، لا ينعكس بشكل جيد في السياسة الخارجية الأميركية نحو دولهم، بل يرون سياسات خارجية سياسية وعسكرية عدوانية، خاصة بالنسبة للمحافظين المتدينين.
- توجد أنواع كثيرة من الدين في أميركا. وتوجد أنواع كثيرة من الأفكار السياسية الدينية، مثلا: تقود شخصيات ومنظمات دينية كثيرا من النشاطات لحل مشكلات الفقر، والمرض، وعدم المساواة في الولايات المتحدة، وفي دول أخرى.
أما عن المحافظين الدينيين، فهم موجودون في أغلبية الدول. في بعض الدول، يقمعون الحرية الفردية، ويمنعون الأقليات الدينية من ممارسة شعائرها الدينية. ويسرني أن أعلن أن هذا السلوك نادر جدا هنا في الولايات المتحدة.
وهنا، مثلما في دول أخرى، ليس المحافظون الدينيون متجانسين. على أي حال، يعتقد كثير من الناس أن عمل رجال الدين يجب أن يكون إنقاذ النفس البشرية وتحسينها، وليس الانخراط في السياسة، إطلاقا.
* كتبت أيضا: «وصل عدم المساواة الاقتصادية في الولايات المتحدة مرحلة لم نشهدها منذ عشرينات القرن الماضي». لكن كل العالم، كما يبدو، صار رأسماليا بعد سقوط الشيوعية. أليست ظاهرة عدم المساواة الاقتصادية جزءا لا يتجزأ من الرأسمالية؟
- خلال العقود الأربعة التي تلت الكساد العظيم في عام 1930 انخفض التفاوت في الدخول، لكن، بعد عام 1980 عاد التفاوت يزيد ويزيد.
لا أعرف إذا كانت الزيادة، أو الانخفاض، «جزءا لا يتجزأ من الرأسمالية». أعتقد أن ذلك يعتمد على تفسير القوانين الاقتصادية، وعلى طريقة ممارستها.
* في عام 2010، وافقت نسبة 56 في المائة من الأميركيين، في استطلاع أجراه تلفزيون «سي إن إن»، على الجملة الآتية: «أصبحت الحكومة كبيرة جدا، وقوية جدا. وصارت تهدد حرية المواطن». هل الكشف عن تجسس وكالة الأمن القومي (إن إس إيه)، ناهيك عن سجن غوانتانامو، وتعذيب الإرهابيين، أثار مخاوف متزايدة فيما يخص موضوع الحقوق والحريات؟
- نعم، الشعب الأميركي صار قلقا بصورة متزايدة، بسبب تنصت وكالات الأمن على اتصالاته. نحن نعد ذلك تعديا على خصوصية المواطن، وتهديدا لحريته. على أي حال، قالت الأخبار أخيرا إن الرئيس أوباما سوف يقترح قريبا تشريعات للقضاء على بعض هذه الممارسات، ولإخضاع بقية الممارسات لرقابة صارمة.
* كتب إدوارد لوس في كتابه «تحد استثنائي» أن خيارات أميركا في العالم صارت تتراجع، وصار مصير العالم يتقرر في أماكن أخرى. فهل باتت «الاستثنائية الأميركية» تواجه «تحديا استثنائيا»؟
- أعتقد أننا، نحن الأميركيين، نواجه تحديات، خاصة على الجبهة الاقتصادية. تحديات من نوع لم نره منذ أكثر من قرن من الزمان. وربما من قبل ذلك، أولا: لا يجري خلق فرص عمل بالسرعة الكافية. ثانيا: الأجور لا ترتفع، وبالتالي ينخفض دخل العائلة.
في الوقت نفسه، صار أعضاء الطبقة الوسطى يعملون أكثر من أي وقت مضى، ليقدروا على تحمل تكاليف الرعاية الصحية والتعليم العالي. لكن، في الجانب الآخر، تظل الولايات المتحدة تتمتع بمزايا استثنائية: جامعات ذات مستوى عالمي مميز، إمدادات كافية من رؤوس الأموال للاستثمار، وسكان شباب، نسبيا، وطموح المهاجرين، وأخيرا روح المبادرة والابتكار.
* كتب ديفيد ووربل في كتابه «نهاية الاستثنائية الأميركية»، أنها أصبحت من في الماضي. فهل توافق على أن الاستثنائية الأميركية شيء من الماضي؟
- لا أعتقد ذلك، لأن الاستثنائية الأميركية هي أطروحة حول الاختلافات الاجتماعية والثقافية هنا وفي الخارج. هذه لم تختف.
* ولكن هناك من الكتاب الأميركيين من يقول إن الاستثنائية الأميركية (إذا كانت حقيقة في أي وقت مضى) انتهت مع التدخلات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق، التي كما يبدو جلبت الخراب، وليس الاستقرار!
- ليست الاستثنائية الأميركية هي السياسة الخارجية للرئيس جورج دبليو بوش. لهذا، أنا لا أفهم كيف أن هذه السياسة لها صلة بالاستثنائية. هذه نقطة. النقطة الثانية هي أننا، طوال تاريخنا، ظللنا نمر بدورات ترتفع وتنخفض: تدخلات مكثفة مع العالم، ثم انسحاب مؤقت، ثم تدخلات مكثفة. اليوم، يبدو أن هذا النمط يعيد نفسه.
* كتب الرئيس الروسي بوتين في صفحة الرأي في صحيفة «نيويورك تايمز»: «يرى الملايين في جميع أنحاء العالم أميركا ليس كنموذج للديمقراطية، ولكن كدولة تعتمد فقط على القوة الغاشمة». ما تعليقك على ذلك؟
- حسب الأحداث في شبه جزيرة القرم، هل بوتين منافق لأنه ليس أحسن حالا؟ أم ينبغي على أميركا أن تقف على ربوة أخلاقية أعلى، ولا تقارن نفسها به؟ في خطابه في 18 مارس (آذار)، برر بوتين غزو شبه جزيرة القرم، وكشف للعالم معتقداته الحقيقية. لهذا، تقدر شعوب العالم على أن تحكم عليه. واحدة من أعظم نقاط القوة في بلدي، الولايات المتحدة، هي قدرتها على مناقشة أخطائها علنا، ثم تصحيح أخطائها. انظر إلى المناقشات الحالية حول أجهزة الاستخبارات الأميركية. لهذا أقول: حتى يصير بوتين على استعداد لكشف، ومناقشة، سياسات ومؤسسات بلده، بداية من «كي جي بي»، الذي كان يترأسه، وحتى ينشر روح الشفافية، وحتى يجري الإصلاحات الديمقراطية، لن يكون في وضع يسمح له بإلقاء محاضرة عن هذا الموضوع سواء فيما يخص الولايات المتحدة، أو أي بلد آخر.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.