مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس

اختلاف الرؤى الإقليمية انعكس على مداولات وزراء الداخلية العرب

مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس
TT

مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس

مؤتمر «التناقضات السياسية النائمة» في تونس

جمع المؤتمر السنوي لمجلس وزراء الداخلية العرب، الذي عقد أخيراً في تونس، وفوداً أمنية وعسكرية وسياسية رفيعة المستوى من كل الدول العربية، ترأس عدداً منها مسؤولون يجمعون بين صفتي وزير ورئيس مجلس وزراء أو نائب رئيس حكومة. ولكن، رغم تركيز التصريحات الرسمية لرؤساء الوفود والجنرالات الأمنيين والعسكريين المرافقين لهم حول المواقف من الإرهاب ودعم الشعب الفلسطيني، سادت نقاشات الكواليس والجلسات المغلقة أجواء الخلافات العربية - العربية حول الموقف من إيران. وكان واضحاً الخلاف بين من يعارضون التدخل الإيراني في كل من سوريا واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي، والأطراف السياسية والعسكرية المحسوبة على طهران وحلفائها. وبالتالي، مرة أخرى تكشف اللقاءات الأمنية والسياسية العربية اختلافات في مفهوم الإرهاب، تأكيداً على تبلور المحاور الإقليمية.
تغيّب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي عن جلسة افتتاح المؤتمر السنوي الدوري الـ34 لمجلس وزراء الداخلية العرب، الذي استضافته أخيراً تونس، رغم الإعلان الرسمي عن حضوره، وتكفل وزير الداخلية التونسي الهادي المجدوب تلاوة كلمة الرئاسة. وكان سبب التغيب حرص «رأس هرم» السلطة التونسية على تجنب «التورط» مباشرة في أشغال مؤتمر خاض في خلافات مثيرة للجدل إقليمياً ودولياً، وعلى رأسها العلاقة بين إيران والأطراف السياسية الموالية لها مثل «حزب الله» اللبناني وحركة «الجهاد الإسلامي» الفلسطينية والمتمردين الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية العراقية، والزمر المتهمة بالضلوع في عمليات إرهابية داخل البحرين وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي.

شعارات «المقاومة»
كان الملف الأكبر الحاضر في هذا المؤتمر السنوي على صعيد التنسيق في الحرب على الإرهاب الخلاف حول توجيه تهمة الإرهاب إلى طهران وتصنيف «حزب الله» كـ«حركة إرهابية»، على غرار ما وقع في البيان الختامي لمجلس وزراء الداخلية العرب العام الماضي. ولقد رفضت بضع دول ذلك البيان. لكن القمة العربية التي عقدت بعده أكدت تمسك الغالبية به، خصوصاً الهجوم على سفارة المملكة العربية السعودية في العاصمة الإيرانية طهران، وقنصليتها في مدينة أصفهان. لكن رغم تغيب السبسي وحرص البلاغات الرسمية التي بثتها تونس على تجنب الخوض في الخلافات والمواقف الإيرانية عربياً، أكدت تصريحات مسؤولين خليجيين للإعلاميين، وكذلك كلماتهم داخل قاعة المؤتمر وجود تلك الخلافات. بل لقد اتهم مسؤولو وزارة الداخلية البحريني، العراق كذلك بكونه أصبح وكراً للميليشيات الإرهابية المتهمة بالإرهاب في البحرين والدول العربية. وكان في الصف المقابل وزراء داخلية العراق ولبنان والجزائر.
ومع حرص الجانب الرسمي التونسي على تجنب انزلاق المؤتمر إلى لجّة الخلافات العربية - العربية، اختارت بعض الوفود التشديد على ما تعتبره التهديدات الإيرانية لأمنها الداخلي. وأضيف بُعدٌ آخر، هو التحذير من توظيف الأراضي العراقية لمهاجمة مواقع في البحرين والدول الخليجية العربية.
ومن جانب آخر، انتظمت على هامش المؤتمر تحرّكات بالجملة، علنية وأخرى في الكواليس، أبرزها تحركات الوفد البحريني الذي وصل مبكراً إلى تونس وعقد جلسات عمل مع الرئيس السبسي ووزير داخليته المجدوب بحضور مسؤولين أمنيين كبار من البلدين. وكشف العميد محمد بن دينة نائب رئيس الأمن العام البحريني أن اللقاء بين الرئيس التونسي بوزير داخلية بلده الفريق الركن الشيخ راشد بن عبد الله آل خليفة شمل بالخصوص «آفاق التعاون في مكافحة الإرهاب» ومستقبل «الشراكة الثنائية في كل المجالات» في سياق متابعة نتائج القمة الثنائية التونسية البحرينية التي عقدت في المنامة في يناير (كانون الثاني) 2016. كذلك جدّد البيان الرسمي عن اللقاء «تضامن تونس ومساندتها لمملكة البحرين في مساعيها الرامية إلى ضمان أمنها واستقرارها».

«قمة عربية» مصغّرة
في الوقت نفسه، تطوّر مؤتمر مجلس وزراء الداخلية العرب إلى ما يشبه «القمة» السياسية الأمنية الاقتصادية الاستثنائية، إذ كان التمثيل في المؤتمر والمحادثات التي جرت على هامشه في مستوى قمة عربية استثنائية. إذ ترأس وفد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ووفد دولة فلسطين الدكتور رامي الحمد الله رئيس الوزراء وزير الداخلية، ووفد دولة قطر الشيخ عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ووفد دولة الكويت الشيخ خالد الجراح الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية.

فلسطين «الحاضر الغائب»
من ناحية ثانية، لم يمنع الإجماع على إدانة الميليشيات الإرهابية التي تحسب نفسها على الإسلام السياسي السنّي، مثل «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة»، عدداً من الوفود - وعلى رأسها وفود فلسطين ولبنان والجزائر والعراق - من التركيز على «مخاطر» ما وصفته بـ«إرهاب الدولة» التي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة وخارجها. وفي هذا السياق، أكد الدكتور رامي الحمد الله، رئيس الوزراء وزير الداخلية الفلسطيني على اعتبار «مكافحة إرهاب دولة الاحتلال من أولويات الاستراتيجية العربية لمكافحة الإرهاب التي سبق أن صادق عليها مؤتمر وزراء الداخلية والعدل العرب في القاهرة قبل 20 سنة». ومن ثم، طالب عدد من رؤساء الوفود العربية بمعالجة الأسباب العميقة للتطرف والغلو في الدول العربية والإسلامية، وبينها احتلال القدس العربية وفلسطين وأراضٍ عربية كثيرة في سوريا ولبنان والأردن.

الأمن الثقافي
وفي اتجاه موازٍٍ، تزامن انعقاد المؤتمر السنوي لمجلس وزراء الداخلية العرب مع تظاهرات سياسية أمنية ثقافية عربية ودولية شددت على ضرورة تحاشي ربط معالجة ملف الإرهاب بالمعالجات الأمنية ومخططات العسكريين والأمنيين. وكان على رأس تلك الشخصيات أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر الأسبق، الذي أشرف بالمناسبة على عدة تظاهرات احتضنها المركز الثاني لجامعة الدول العربية بتونس وبعض مؤسسات العمل العربي المشترك التي ظل مقرها الرسمي في العاصمة التونسية بعد عودة الأمانة العامة إلى القاهرة عام 1991، من أبرزها اتحاد إذاعات الدول العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ولقد استضافت قاعة محاضرات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، بالمناسبة، وبحضور مديرها العام عبد الله حمد محارب ورؤساء المنظمات العربية في تونس، أبو الغيط، الذي ناقش مع عشرات من الدبلوماسيين العرب والأجانب واقع الأمن الإقليمي العربي والتحديات التي تواجهه. كما قدم كتابه الجديد «شهادتي» الذي ضمنه قراءة تقييمه لمسار العمل العربي المشترك والدبلوماسية المصرية والسياسات الأمنية والاقتصادية العربية. وكان وزير الداخلية المصري مجدي عبد الغفار والوفد المصري يوجدون في مؤتمر مجلس وزراء الداخلية العرب الذي شهد تحركات لوفدي مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة لاتهام حركة الإخوان المسلمين بالضلوع في العنف السياسي والإرهاب، ورفض حصر ملف الإرهاب بالجماعات المسلحة القريبة من تنظيمات راديكالية متطرفة، مثل «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة».

ليبيا وسوريا واليمن
وعلى الرغم من شغور كرسي سوريا في مؤتمر وزراء الداخلية العرب وضعف تمثيل ليبيا واليمن في المؤتمر، وبقية تظاهرات جامعة الدول العربية التي نظمت على هامشه فيه، بينت المحادثات الرسمية، وفي الكواليس أيضاً، أن الإرهاب استفحل عربياً بعد غزو العراق 2003 التي أدت إلى إسقاط نظام صدام حسين، ثم بعد «ثورات 2011» التي أطاحت برؤساء تونس ومصر وليبيا وأسهمت في إضعاف الدولة المركزية فيها. وعوض أن تكون حصيلة 6 سنوات ونصف السنة من الثورات الشبابية العربية تنويهاً بمعالجة مشكلات التنمية والبطالة، لاحظت التقارير الأمنية السياسية استفحال العنف والجريمة المنظمة والتهريب والهجرة غير القانونية..
وكان هناك اتفاق واسع على علاقة الاضطرابات الأمنية والحروب التي يشهدها عدد من الدول العربية منذ يناير 2011 بـ«أجندات» دولية، بعضها يسعى لإعادة رسم خريطة المنطقة عبر مزيد من إضعاف مؤسسات العمل العربي المشترك. وتحدث وزير داخلية الجزائر نور الدين بدوي عن أن تورط مزيد من الشباب العربي في العنف والقتل والدمار يأتي تنفيذاً لمخططات «حرب عالمية بالوكالة» فرضت على المنطقة - حسب تعبيره. وهذه القضايا وغيرها ستكون محور مناقشات المؤتمرات الأمنية السنوية العشرين التي من المقرر أن تعقد هذا العام تحضيراً لعقد دورة العام المقبل في العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك بعد طلب تقدم به الوفد اللبناني برئاسة الوزير نهاد المشنوق في أعقاب سلسلة من التحركات في الكواليس شملت وزراء خارجية الدول الخليجية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.