من التاريخ: توماس مور وتأثيره

من التاريخ: توماس مور وتأثيره
TT

من التاريخ: توماس مور وتأثيره

من التاريخ: توماس مور وتأثيره

الكلمات الأخيرة التي نطق بها توماس مور، أحد أشهر الساسة والفلاسفة الإنجليز في القرن السادس عشر قبيل الركوع على ركبتيه استعداداً لضرب عنقه تنفيذاً لحكم الإعدام الصادر بحقه بتهمة الخيانة العظمى من الملك هنري الثامن كانت «سأظل خادماً للملك لكنني، قبله، خادم للرب».
بعد الكلمات انتهت حياة مور ولكن ليس سيرته الفكرية والسياسية، ليجسد قرنين أو ثلاثة من المشاكل الدينية والسياسية التي عصفت بأوروبا واستقرارها، وراح ضحيتها ملايين من البشر في خضم ما يوصف بـ«الإصلاح الديني» وكسر شوكة بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الكاثوليكية. في هذه الحقبة وجد المواطن - البسيط أو المثقف - في حالة ارتباك ديني وسياسي جراء محاولات ملوك أوروبا وأمرائها الخروج من العباءة السياسية والدينية للفاتيكان وإصرار البابا على الدفاع عن سلطته الروحية أمام حركة إصلاح - بل اعتراض Protest تطوّر إلى تمرّد - واسعة النطاق باتت تهدّد كنيسته. ولقد كانت كلمات مور الأخيرة تجسيداً حقيقياً لأزمة في مفهوم الشرعية بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في أوروبا.
ولد توماس مور في لندن عام 1477 ودرس العلوم، ثم التحق بجامعة أكسفورد حيث درس اللغتين اللاتينية واليونانية إضافة إلى علم اللاهوت وغيره. وكانت ميوله الدينية طاغية على شخصيته لدرجة أنه فكّر في مرحلة محددة أن يهب حياته للرهبنة. غير أنه عاد فآثر دراسة الحقوق، وغدا محامياً بنصح من والده، ومارس مهنة المحاماة ثم دخل مجلس العموم (البرلمان) عام 1504، من ناحية أخرى، تنازعت حياة مور السياسية ثلاثة عناصر أساسية رافقته حتى إعدامه، هي: التزامه العميق بالكنيسة الكاثوليكية، وأفكاره السياسية، وولاؤه للعرش الإنجليزي.
تجاذبت هذه الانتماءات، أو الولاءات، مور لتخلق شخصية فريدة من نوعها في تاريخ إنجلترا. واستطاع الرجل أن يمارس الانتماءات الثلاثة بشكل مطّرد، فتدرج سريعاً في المناصب نتيجة قربه من الملك هنري الثامن، تلك الشخصية العميقة والدموية في آن واحد. وعينه هنري في منصب كبير مستشاريه لمزاياه الفكرية وحنكته السياسية اللامعة، ثم أصبح وزيراً للمالية وظل على قربه من الملك. وازدادت، من ثم، أهمية هذا المفكّر والسياسي مع بداية ظهور حركة «الإصلاح الديني» البروتستانتية Protestant في أوروبا التي قادها الراهب الألماني مارتن لوثر. وكان لوثر قد تحدّى السلطة المطلقة للبابا وكنيسته في روما، خاصة، ما يتعلق بفكرة الخلاص في الدنيا والآخرة، التي رأى لوثر أنها ليست بيد البابا وكنيسته بل تتحقق من خلال التوبة وعلاقة الإنسان بربه.
في ذلك الوقت كان هنري الثامن مقرّباً من البابا، وسرعان ما استعان بجهود مور للردّ على مارتن لوثر من خلال الكتاب الشهير «في الدفاع عن المقدّسات السبع»، وهو ما رفع شأنه بالنسبة للعرش ليس فقط كسياسي، بل كمفكر أيضاً، وهي سلعة كانت شبه نادرة في البلاط الإنجليزي.
وحقاً، كرّس مور الكثير من وقته في الدراسة والتفكير في الظروف السياسية والدينية. وكانت صداقته للمفكّر والعالم الإنساني الهولندي إراسموس Erasmus، أحد قادة فكر الإصلاح السياسي والإنساني في أوروبا، ذات أثر كبير في حياته حيث تبادلا الأفكار والرؤى، وأسّسا معاً ما يسمى بالتيار الإنساني Humanism في الفكر الأوروبي الحديث، وأثر أحدهما على الآخر.
وفي لندن استضاف مور إراسموس، وكتب الأخير خلال هذه الفترة أحد أهم كتاباته وأهداها إلى صديقه. إلا أن مور كانت له أفكاره الخاصة، إذ عكف على كتابة واحد من أهم الكتب في عصر الإصلاح سماه «يوتوبيا» واصطلح على ترجمة هذا العمل بـ«المدينة الفاضلة» أو «المدينة المثالية». ومن ثم، نشره له إراسموس باللاتينية في مدينة لوفان البلجيكية، وأغلب الظن أن هذا الكتاب المهم لم يدخل إنجلترا إلا بعد موت مور. هذا جسّد أفكار مور المرتبطة بالانتماءات الثلاثة التي أثرت عليه، فهو مزيج لنقض السياسية الإنجليزية وفسادها ورؤيته للأسلوب الأمثل لإدارة الدولة، إلا أن الأهم هو البعد الروحي للإنسانية في إدارة السياسية سواء للعرش أو المواطن البسيط.
يرتكز كتاب «يوتوبيا» على سلسلة من الحوارات التي تجسّد فكر الإصلاح، إذ تأثر مور بـ«المدينة الفاضلة»، التي وردت في فكر الفيلسوف اليوناني أفلاطون والتي جسّدها خياله في إحدى الجزر التي استكشفها المستكشف أميركو فيسبوتشي (الذي حملت القارة الأميركية اسمه).
ولقد وضع مور رؤيته لما يجب أن تكون عليه الإدارة السياسية والاقتصادية لهذه الجزيرة التي يعيش سكانها في حالة سلام على أساس شيوعي بدائي (مشاعي) ممتد، ورأى أن نزع مفهوم المُلكية الفردية هو أساس السعادة، ذلك أنه لا توجد - في هذه الحالة - الحاجة إلى المال، لأن كل شخص يأخذ ما يريد ويعمل وفقاً لقدراته. واعتبر مور أن الجشع الإنساني أساس كل شيء سلبي، وهو ما يخلق الطبقية في المجتمعات. ومن ثم، لا بد من القضاء على الطبقية بنزع المصلحة الفردية، متغلباً بذلك على مشكلة سوء توزيع الدخل في الدولة.
أيضاً آمن توماس مور أن الإنسان بطبيعته خيّر غير أن ظروف الحياة والبيئة المحيطة به تُبرز أسوأ ما فيه، وتدفعه نحو الرذيلة أو الجشع. وإلى جانب أساسيات هذا المجتمع يضاف إليه عنصر الفضيلة التي يستقيها مور من المسيحية. وهو يرى أن الدين (المسيحي، في حالته) يمنح المواطن الفضيلة والسعادة في آن واحد من خلال حثه على فعل الخير دائماً.
ويبلوِر مور في الكتاب أيضاً نظرية شديدة الترابط بين الدين والفكر الإنساني، مؤداها أن السعادة الحقيقية للإنسان ليست في الاقتناء بل في العطاء، لكون متعة مساعدة الغير وسد حاجتهم أكبر بكثير من أي متعة أخرى. ويؤمن أن أساس الدين في هذه «المدينة الفاضلة» هو الإيمان بالله والاعتقاد باليوم الآخر، وهو ما يكفل نزع أي نوع من أنواع التطرف... بما أن هدف الدين توحيد الناس لا تقسيمهم على أسس مذهبية.
واقع الأمر أن هذا الكتاب، على الرغم من أنه في حقيقة الأمر فكرة غير مستحدثة، بل سبق أن تعرض أفلاطون لجوانب كثيرة منها، فإن القيمة المضافة لهذا العمل تمثلت في أنه كان أداة لربط مفهوم الإنسانية بالدين في العالم الغربي، بجانب ما مثله من رؤية نقدية شديدة لواقع السياسة الإنجليزية والأوروبية على حد سواء. كذلك فإنه مثّل أساساً لفكر مشابه تبناه بعض المفكرين فيما بعد لمحاولة الوصول إلى المعادلة السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية التي رأوها مناسبة.
في كل الأحوال، فإن مور سرعان ما اصطدم بالملك هنري الثامن، ولا سيما عندما أخذ يعارض تدريجياً سياسة فرض هنري ضرائب باهظة على المواطن ما دفعه للاستقالة من البرلمان.
ثم جاءت المشكلة التالية، وهي رغبة الملك في طلاق زوجته كاترين الأراغوانية لعجزها عن إنجاب ولي للعهد، وهو ما عارضه مور بشدة استناداً للمذهب الكاثوليكي الرافض كلياً للطلاق. بذا، بات مور في صدام مباشر مع هنري الثامن، إلا أن الصدام وصل ذروته عندما أعلن الملك تعديل شكل الكنيسة الإنجليزية وإخراجها من تحت العباءة الكاثوليكية وتنصيب نفسه رئيساً للكنيسة. هذا الأمر رفضه مور شكلاً وموضوعاً ورفض التوقيع على المراسيم الملكية المتصلة بهذا الغرض، وهو ما دفع الملك لاتهامه بالخيانة العظمى وإعدامه عام 1535، وبعد أربعة قرون، أعلن بابا الفاتيكان توماس مور «قديساً» تقديراً لدفاعه عن الكنيسة الكاثوليكية.
حقيقة الأمر أن توماس مور يعد من الشخصيات البارزة المؤثرة في الفكر الإنجليزي والإنساني رغم بدائية أفكاره التي أثبت التاريخ ضآلة حجمها. ولكن الخيال الإنساني يظل من الوسائل المهمة لتطوير الفكر السياسي والاجتماعي، ذلك أن كثرة من الأفكار التي طرحت على مرّ العصور لم تمثل قيمة في حد ذاتها ولكنها شكلت خطوة مؤثرة في تطوّر الفكر الإنساني. ولقد اشتهرت مقولة الفيلسوف والأديب الفرنسي فولتير في روايته الشهيرة «كانديد»، عندما كان البطل يتساءل مع محاوره فيقول له «إن هذا العالم هو أفضل المتاح» - وهي فكرة مأخوذة عن الفيلسوف الألماني ليبنز -، لكن يبدو أن فكر مور يمثل النقيض التام لهذه المقولة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.