أحلام كأنها تكتب سيرة الكاتب الذاتية

عبده وازن في كتابه الجديد «غيمة أربطها بخيط»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

أحلام كأنها تكتب سيرة الكاتب الذاتية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

قد تغدو الأحلام عالما جميلا يسعى له المرء هاربا من واقع يعيشه، حيث يمكن أن تُمارس الذات حريتها دون قيد أو شرط. وليست الأحلام وهمًا، إنما حياة موازية تروي أسرارًا كامنة داخل أنفسنا. أسرار لا يحدّها الزمن البشري، فتضرب جذورها في حياة أسلافٍ لا نعرفهم، وربما ترتفع لتصل إلى أشخاصٍ لم نتعرّف إليهم بعد. تلك هي الأحلام، تُمثل رغباتنا المكبوتة في لاوعينا بعد أن تنبثق منه.
«غيمة أربطها بخيط» (دار نوفل - هاشيت أنطوان) للشاعر والناقد اللبناني عبده وازن، عنوان اختاره الكاتب من حلم قصيدة تلاشت أسطرها، لينتهي هذا الحلم تاركًا سطرًا مضمونه «غيمة أربطها بخيط». الكتاب أيضا يُسطّر أحلامًا راودت صاحبها فرسخت في مخيلته وقادته إلى تدوينها لتصير الأحلام - داخل لغة مكتوبة - مختلفة عن طبيعتها الأصلية، فكأنك تبصرها وتعيشها حقيقة.
النصوص ليست قصصا ولا قصائد، وهنا تكمن فرادتها، إنّما أحلام منفصلة. كل حلم له خصوصيّته ووقائعه التخيلية. كتاب يصفه وازن بـ«المفتوح»، مضمونه «أحلام أبصرتُها في الليل، أو هي أحلام يقظة، تلك التي يعمد المرء عادة إلى تخيلها أو (صنعها) في حال من شبه اليقظة، أو اليقظة الخدرة. إنها نصوص أحلام عكفت على تدوينها طوال أعوام. ومن بينها أحلام أبصرتها منذ سنوات وظللت أتذكرها جراء أثرها في أو حبي لها أو خوفي منها».

الحلم صديق

يعدّ الحلم في حياة وازن أمرًا شخصيًّا متعلقًا به مثل الحب والحزن والفرح، وأحيانًا تستحيل أحلامه حضنًا حاضرًا لاستقباله في أي لحظة.
لا يخفي الكاتب شوقه إلى أحلامٍ تسود حياته تمامًا. فالحلم يصبح حضنًا فاتحًا أبوابه لاستقباله، ومن ثمّ أخذه إلى عالم تسوده عجائب وغرائب تصوغ أحداثها خيوط خيال لا أحد يتحكم بمجرياتها وبتسلسل أطيافها.
يسرد الكاتب أحلامه وكأنها مونولوغ متقطّع حافل بصور ووقائع شبه غرائبية أحيانا، ويبدو كأنما يحدّث من خلاله نفسه، وهذا ما وجدناه في أحلام متعددة اقترن مضمونها بهويّة كاتبها، ليتولّد لديه شعور بأنه يكتب جزءًا أو مقطعًا من سيرة حياته الذاتية، ولكن بطريقة لاواعية، طريقة قائمة على المصادفات والمفاجآت الطالعة من عمق المخيلة واللاوعي. هو لا يرى معنى للنوم دون الحلم. فالنوم بلا حلم هو زمن ضائع لا حياة فيه، كأن لدى وازن حياتين، حياة يعيش فيها وأخرى تعيش فيه. حياتان مختلفتان ومتداخلتان.

محاكاة الحالم

يسرد وازن حكايا أحلام تنوّعت مضامينها واتخذت أشكالا مختلفة أيضا. أحلام شكلت كوابيس جعلت حالمها يهرع خوفًا منها، وهذا ما لمسناه في حلمه «قايين» أو الأحلام المليئة بالقتل والدماء، وهي تجعل حالمها يصرخ خوفًا ورهبة من هول الواقعة. وأحلام أتت نتيجة واقع مرير عاشه الكاتب، عالما بهول ما جرى ويجري في زمن ومكان ما، وهذا ما وجدناه في حلمه «هيروشيما» و«داروين»، الحلم الذي عاد بالكاتب إلى الزمن القديم الذي كان شكل الإنسان فيه قريبًا إلى حدّ ما من شكل القرد. ولا يمكننا نسيان الأحلام الجميلة التي أطلق عليها عبده وازن «الأحلام الرطبة»، أحلام لا خوف فيها ولا موتى ولا رغبات، بل خيال يطير بالحالم إلى عالم يفرغ فيه شهواته ورغباته كلّها. عالم يعيش فيه أجمل لحظات يتمناها دون حواجز وموانع، وهذا ما نجده في أحلام «مخدة» و«رعشة» و«فتاة الوردتين» وغيرها.
أحلام قد تكون في الليل الذي ينفرد بطقوس وإيقاع متهادٍ حينًا ومتقطع حينًا آخر. مناخه ظليل ومعتم ورهبته تجعله عاجزًا عن الهرب منه والابتعاد عنه. فأحلام الليل هي التي تصنع نفسها وتصنعك وتمنحك لغزًا وغموضًا وإشراقًا، تمتزج كلّها لتؤلف روح الليل وجسده. وأحلام تأتي بالنهار لتكون أحلامًا عابرة كالطيف الذي يطلّ ويختفي بسرعة، لتتلاشى في الهواء تاركة أثرًا صغيرًا من ذكراها، أحلام أطلق عليها الكاتب اسم «أحيلامًا» أي الحلم المصغر. وأحلام اليقظة «فانتسمات» كما يسميها علم النفس، أحلام تركبها كما تشاء وتفعل فيها ما تشاء تقتل وتضاجع وتتخيل ما تريد.
لجأ الكاتب إلى تدوين أحلامه من منطلق تجارب عاشها صغيرًا، وسمع عن تجارب أناس عاينوا أحلامهم وقاربوها من واقعهم، وكثر الحديث حول تفاسيرها، ففسّرت تفاسير مختلفة على مبادئ التأويل القديم للحلم، ناهيك بالأحلام المرتبطة بشخصه كمثقف وكاتب وشاعر وقارئ. وهكذا مثلا تحضر «حشرة» كافكا التي وردت في «المسخ» داخل حلم رهيب كتبه وازن بلغة سردية حلمية.

فلسفة الأحلام و«اللاوعي»

احتوى القسم الثاني من الكتاب على دراسة ذات عناوين عدّة، وفيها وظّف الكاتب ثقافته الشاملة والعميقة في قضايا الحلم كما وردت لدى كبار الباحثين، وتناول آراءهم حول الحلم واللاوعي، فانجذب لهم حينًا، وتعارض مع أفكارهم حينًا آخر، ونذكر منهم فرويد ويونغ، فصور مثلا وجه التشابه والاختلاف بينهما من حيث رؤيتهما للحلم واللاوعي. لقد سار في ذلك على منهج كثيرين مثل ابن سيرين والنابلسي اللذين أصدرا كتابين مرجعيين في تفسير الأحلام. وهكذا يظهر الكاتب أنّ هذه الدراسة لم تتوقف عند فرويد ويونغ فحسب، وإنما حضر فيها فلاسفة ومتصوفة وشعراء. وتطرّق الكاتب إلى دراسة خاصّة للفيلسوف الإغريقي أرسطو الذي قام بمقاربة الأحلام، ووضع كتابًا موضوعيًا درس من خلاله الرؤيا الصادقة والأحلام التي تتحقق بعد رؤيتها في النوم.
ولم تغب الأحلام عن الفلسفة الأوروبية مثلما لم تغب عن الفلسفة الإسلامية والعربية (هيغل وهنري برغسون والقديس توما الأكويني وسواهم) الذين كتبوا عن الأحلام كل بحسب نظرته. وينهي دراسته شاهدًا على هذه الكتب التي أتت حافلة بالإمتاع والمؤانسة والخيال والمعرفة، والتي تشبه إلى حدٍّ ما أحلام اليقظة التي يرسمها الحالم ويشكلها من مبادئ عدّة يرغب فيها، ويريد إبصار أحلامه من خلالها.
يكشف الكتاب جزءًا من هوية كاتبه، بصفته شخصا يغلب على سلوكه حب «التأمل» في الوجود والموجودات، شخص أحب تدوين كل ما يجري من حوله في الحلم، من صغائر الأمور إلى عظائمها. تأملات تقوده إلى رؤى تمزج العبثي بالسوداوي، والجد بالهزل، والواقعي بالحلمي، ليتجسد ذلك كله في أحلام شملت الطفولة والطبيعة، الخير والشر، المرأة والرجل، فكانت ملمّة بمختلف جوانب الحياة.
ويختم كتابه الذي لا نهاية لصوره وأحلامه بتساؤلات يبغي من خلالها الإجابة عن استفسارات كثيرة تراود ذاكرته فيقول: هل يجب تفسير الأحلام؟ فيأتي بأجوبة تقنعه ويكتفي بها: لمَ نفسرها وهي أحلام تأتي من دون استئذان! تحمل معها سحرًا وأسرارًا، تأتي من دون سبب رئيسي لحضورها، ولا من أين أتت، وإلى أين تذهب، أحلام أتت لتقول لنا: هذا أنا احلموني. احلموني فقط.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.