تتعرض أطروحة الانفصال بين السياسة والدين في عالم اليوم لتحديات جمة، على المستويين العالمي والغربي خاصة. ذلك أن الصحوة الدينية المعولمة أصبحت المؤشر الأبرز على التحول العميق في عالمي الدين والسياسة المعاصرين. ورغم أن طرح التشابك المعقد فرض نفسه في حقل العلوم الاجتماعية، خاصة علمي الاجتماع والسياسة، فإن تأثر النخب العلمية العربية بخصوصية الحداثة الفرنسية جعلها من أقل النخب العلمية إدراكًا للمسارات المتنوعة التي اتخذها المعتقد باعتباره حقلاً من حقول الاجتماع السياسي، وفي الوقت نفسه حقلاً من حقول المعرفة العلمية التي اعترفت بها الحداثة وعلومها المعاصرة.
على المستوى العملي، جاء فوز الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب ليظهر من جديد الدور الفعال للمسيحيين الإنجيليين في إنتاج الخريطة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، وهو ما يفسر إقامة كل من ترمب ومنافسته المرشحة الديمقراطية الرئاسية هيلاري كلينتون مهرجانات وحفلات انتخابية داخل كنائس متعددة في ولايات مختلفة، وكذلك افتتاح بعض التجمعات الانتخابية بالأدعية الدينية.
ولقد خاطب ترمب، يوم 30 سبتمبر (أيلول) 2016، الجمهور الحاضر في إحدى فعالياته الانتخابية بالقول: «جئنا إلى (ولاية) آيوا، وتلقينا كل هذا الدعم الهائل من الإنجيليين، ومن الجميع. وتذكرون أنني أحضرت معي كتابي المقدس، تذكرون ذلك، وكان هناك من يقول: حسنًا، هل تعتقدون أن ترمب سيكون جيدًا مع الإنجيليين؟ لقد كنت جيدًا مع الإنجيليين، أليس كذلك؟!»
في عالم السياسة الأميركية، لم يعد الدين حبيس الكينونة الفردية التي نظرت لها الليبرالية والحداثة، بل أصبحت هذه الأخيرة نفسها ممسوسة بالنزوعات الدينية، مما خلق نوعًا من التماهي الديني مع منظومة الدولة الحديثة، القائمة على المأسسة وبناء النفوذ. وفي هذا الإطار، يمكن إدراج الصرح المؤسساتي للتيار الديني الأميركي الذي يتكون من آلاف المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والخدماتية والوعظية التبشيرية وغيرها.
* متدينو أميركا
وكما يشير إلى ذلك البروفسور مايكل ج. بيري، في كتابه «الدين في السياسة... جوانب دستورية وأخلاقية»، فإن الدين ليس قضية ثانوية بالنسبة للمواطنين الأميركيين، فهم «الأكثر تدينًا في ديمقراطيات العالم الصناعي المتقدم... 95 في المائة من الأميركيين البالغين يعلنون إيمانهم بالله، و70 في المائة هم أعضاء في كنيسة أو معبد يهودي». ورغم أن هذه الأرقام تتعلق بدراسات قديمة، فإنها في الواقع تدل على أن مسار الدين في حقل السياسة بأميركا اكتسب شرعية تاريخية، وتحول إلى ثابت «سلطوي»، أخلاقي وقانوني، تطور من داخل المجتمع ومؤسساته.
ومن هنا، ينبه البروفسور بيري، أستاذ القانون في جامعة نورثوسترن ثم جامعة إيموري، إلى أن «حرية الدين يحميها القانون الدستوري الأميركي، وتقوم على قاعدتين: الأولى، أنه لا يجوز للحكومة أن تؤسس للدين (قاعدة عدم التأسيس). والثانية، أنه لا يجوز للحكومة منع الممارسة الدينية». ويبدو أن سلسلة التشابك التاريخي بين الدين والسياسة في أميركا لا يمكن تفسيرها فقط بالتدين الشعبي، وقوة المتدينين على مستوى خريطة النخب، بل إن القانون والعرف الدستوري يجعل من التشابك أكثر تعقيدًا.
زد على ذلك أن استعمال الديني هو فعالية سياسية متجددة في زمن الحركات الأصولية. فحسب عالم الاجتماع الشهير أنتوني غندز، في كتابه «علم الاجتماع»، كان الدين وراء ظهور «أعداد لا حصر لها من الحركات الدينية الجديدة. وانتشرت هذه الحركات، بصورة خاصة، في الولايات المتحدة، مستعينة بالتلفزيون ووسائل الإعلام الإلكترونية، وشكلت ما يسمى (اليمين المسيحي الجديد) الذي يقترب في أحيان كثيرة من مواقع صنع القرار» (ص 595).
وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الحركات الدينية استطاعت بالفعل الوصول إلى مراكز القرار السياسي الاستراتيجي بأميركا، وهي تحتل اليوم صدارة الشخصيات العامة في بعض دوائر النفوذ بالبيت الأبيض والمحيط الضيق للرئيس الحالي، على المستويين المدني والعسكري. ويبدو أن نتائج هذا السياق تجعل من اختيار القاضي الإنجيلي نيل غورستش من طرف الرئيس دونالد ترمب لتولي المقعد الشاغر في المحكمة العليا، بتاريخ 2017 /2 /1 أمرًا عاديًا، رغم ما أثاره من نقاش آيديولوجي داخلي.
إن هذا التعيين هو واحد من المؤشرات الدالة على قوة الإنجيليين، وقدرتهم على الانتشار من داخل الجهاز البيروقراطي والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالمحكمة العليا أعلى هيئة قضائية تنظر في أهم القضايا، منها قرارات كانت موضوع البرنامج الانتخابي لترمب، من مثل قضية الهجرة التي أصبحت معركة مفتوحة سيلعب فيها القضاء دورًا حاسمًا، نظرًا لحجم الدعاوى المعروضة عليه. غير أن الرئيس ترمب، الذي كان يقول في مهرجاناته الانتخابية إنه متمسك بالكتاب المقدس، ينطلق من هذا البعد العقدي في اختياره لرجل متدين يقاسمه المعتقد نفسه ليرجح به كفة تيار المحافظين في هذه المؤسسة القضائية العليا.
ولا يبدو أن تداخل الحقل الديني والسياسي خصيصة أميركية حصرية، بل يمكن إثارة مزيد من الشكوك في مزاعم رواد علم السياسة والاجتماع المعاصر، خصوصًا تلك التي تنبأت بتقويض الأسس الاجتماعية للدين، مدعية أن الزمن الحديث سيتجاوز المقدس الطقوسي، والمعتقد المنظم، عن طريق انكماش الدين إلى بعده الفردي. غير أن منظومة العقائد اليوم نفسها تأثرت بالديناميات الاجتماعية، والالتزام الجماعي بالقيم. أكثر من ذلك، أصبحت منظومة الخدمات مهنة للحركات الدينية، وأضحت الممارسات والمشاركة الجماعية جزءًا من السياسة الفعلية للدين في الفضاء العام للمجتمعات الديمقراطية المعاصرة.
* ملكة بريطانيا والكنيسة
في النموذج الديمقراطي البريطاني، لا تزال الملكة هي صاحبة السيادة العليا، والحاكم الأعلى للكنيسة الإنجليكانية، وتتمتع بصلاحيات تعيين الأساقفة ورؤسائهم. ومن الناحية التشريعية القانونية، يمكن للمجمع الكنسي الإنجليكاني البريطاني أن يتقدم باقتراح قوانين تكون سارية المفعول، بعد اعتمادها من طرف البرلمان. كما يتمتع المجمع الكنسي بحق التشريع بأحكام الشريعة المسيحية الإنجليكانية، بعد موافقة الملك أو الملكة، ذلك أن القانون يعتبر أن «كنيسة إنجلترا» (الكنيسة الإنجليكانية) و«كنيسة اسكتلندا»، الكنيستين «الرسميتين»، المقررة لمراسم الدولة ذات الطابع الديني، ولا يحصل أعضاؤها مع ذلك على أية ميزة بكونهم أعضاءها.
في هذا الاتجاه نفسه، ينص دستور الدنمارك، في مادته الرابعة، على أن الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية) اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للدولة، وتشترط المادة السادسة أن يكون الملك منتميًا لهذه الكنيسة. أكثر من ذلك، يعتبر الدستور الدنماركي أن «الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الهيئة الدينية الوحيدة في البلاد التي لها حق الحصول على إعانات مالية، أو تمويل مباشر من خزينة الضرائب في الدولة». ويمكن اعتبار هذا المؤشر كافيًا لإعادة البحث في العلاقة بين الدين والسياسة، داخل الدولة الحديثة الغربية. ليس من داخل معمارها الدستوري القانوني فحسب، ولكن أيضًا من داخل رؤية الفضاء العام للعلمنة، ومفهومها، وطريقة قياسها وتفعيلها ديمقراطيًا.
* تشابك وتداخل
ويمكن الاسترشاد كذلك بالنموذج الفرنسي للتدليل على تشابك التداخل، وفي الوقت نفسه سلطوية السلطة السياسة على الدين، حيث يتدخل فيه رئيس الجمهورية للتعيين في مناصب دينية عمومية. ففي ستراسبورغ وميس، بإقليمي الألزاس واللورين، وبموجب القانون، يعتبر رجال الدين في الكنائس موظفين عموميين يتلقون أجورهم من خزينة الدولة، كما يتمتعون بحق تقديم دروس التعليم الديني في مدارس الجمهورية.
وإجمالاً، يمكن الحديث أوروبيًا عما يطلق عليه «ضريبة الكنيسة» التي يدفعها المنتمي للكنيسة عبر خزينة الدولة لكنيسته. وهذا النظام معمول به في كثير من الدول الأوروبية، منها: السويد والنرويج وألمانيا وإيطاليا والنمسا وفنلندا والدنمارك وآيسلندا. غير أنه لا بد من التأكيد على خاصية يتمتع بها النموذج الفرنسي، وهي كونه «سلطويًا» وحادًا، واستعماليًا للقانون للحد من حرية الدين. ولقد صيغ هذا النموذج الأوروبي بالتداخل بين العلمانية واللائكية. وهو بذلك يختلف عن النموذج الإنجيلي الأنجليساكسوني المتسامح، مقدمًا خيارًا معرفيًا وتصوريًا فلسفيًا جذريًا مغايرًا، حيث يقدم الفيلسوف الفرنسي روني كبيتان René Capitant، باعتباره واحدًا من المنظرين المعاصرين لهذا الخيار، تعريفًا للعلمانية «يعتبرها تصورًا سياسيًا يطبق الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني، فالدولة لا تمارس أية سلطة دينية، كما لا تمارس الكنائس أي سلطة سياسية».
ويمكن القول إن العَلمانية، من خلال التجربة الفرنسية، متوقفة بالضرورة على السيطرة على إنتاج الثقافة والتعليم. وهذه السيطرة هي نظام ونسق استبعادي وتحكمي في الدين، من خلال بناء وعي جماعي متحكم فيه، عبر آلية التعليم، فالمدرسة الفرنسية هي «آيديولوجية» لبناء عقيدة للدولة يطلق عليها العلمانية (بكسر العين) Laïque، سواء كتصورات تجريدية أو كسلطة ونظام سياسي.
ومن خلال هذه الازدواجية التي وسم بها كل من لفظي اللائكية والعلمانية، نستطيع التأكيد مع فيلسوف العلمانية الأبرز، جون بوبيرو، أن علمانية المدرسة (la laïcité scolaire) تعني نهاية بناء الأخلاق الدينية، وتعويضها بأخلاق من دون الله؛ وهذه الأخيرة هي الأخلاق اللائكية.
* 3 مراحل للعلمانية
وتماشيًا مع هذه الحقيقة التاريخية، نؤكد أن العلمانية مرت في مسيرتها التاريخية بمراحل ثلاث: الأولى صراعية، هدفت إلى تحقيق الفصل بين الكنسي والزمني. تبعتها المرحلة الثانية التي اتسمت بتحييد الكنسي وتشريعاته، لتكريس التشريع الوضعي (positiviste). أما العلمانية اليوم، فهي في مرحلتها الثالثة، وتتعرض لضغوط مجتمعية، وعالمية في قسم كبير منها. ذلك أن مبادئ حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميًا، جعلت من العلمانية، حسب جاكلين كوستا - لاسكو Jacqueline Costa - Lascoux، «قيمة حوارية». هذه الحوارية هي الممثلة للمرحلة الثالثة التي نقلت العَلمانية إلى نظام سياسي تعددي.
إن هذا التطور التاريخي قد تطور عبر مسارين خاصين: ففي أوروبا الغربية، كثير من البلدان المحافظة على حلقة الوصل مع هوية الدين، في حين أن بعض البلدان تخضع لنظام فردي شمولي، كما هو الحال في الشرق الأوروبي سابقًا. وعلى الجانب الآخر، تعمل الأنظمة الديمقراطية العريقة، في معظمها، على ضمان الحرية الدينية في دساتيرها. ومع ذلك، تحضر العلمانية والدين في كثير من الأحيان، بشكل ضمني، في الحاضر والممارسات الاجتماعية، وهو ما يفسر كون «عدد من الدول الأوروبية لا تزال تعاني من دين الدولة». كما أن الواقع السوسيولوجي يؤكد أن هناك «حالة دينية تقبع داخل العَلمانية، وتتكيف باستمرار مع الفضاء العام»، بتعبير الفيلسوف الفرنسي إيف لامبير. أكثر من ذلك، أصبحت الصحوة الدينية تسائل الأسس الجذرية والفلسفية للعلمانية، وتفرض عليها التخلي عن بعض أسسها المعرفية.
الدين والدولة في السياق الغربي
تفاعلات «الإنجيلية» في زمن الصحوة الدينية
الدين والدولة في السياق الغربي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة