أدونيس وأنسي الحاج في مواجهة مع يوسف الخال وإزميله (1 - 3): شوقي أبي شقرا يتذكر ويكشف خفايا نزاعات شعراء مجلة «شعر»

من اليمين: أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، يوسف الخال
من اليمين: أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، يوسف الخال
TT

أدونيس وأنسي الحاج في مواجهة مع يوسف الخال وإزميله (1 - 3): شوقي أبي شقرا يتذكر ويكشف خفايا نزاعات شعراء مجلة «شعر»

من اليمين: أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، يوسف الخال
من اليمين: أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، يوسف الخال

تنفرد جريدة «الشرق الأوسط»، وعلى مدى ثلاث حلقات، بنشر مقاطع من كتاب «شوقي أبي شقرا يتذكر» الذي يصدر يوم 21 من الشهر الحالي عن «دار نلسن»، ويوقعه الكاتب في «جامعة الحكمة» في بيروت. ومن المعروف، أن شوقي أبي شقرا من النواة الأولى لشعراء مجلة «شعر»، كما أنه يعتبر المؤسس لأول صفحة ثقافية يومية في لبنان، بقي على رأسها أكثر من 30 سنة حتى خروجه من جريدة «النهار». وخلال التجربتين الكبيرتين، كان على تقاطع وتفاعل مع غالبية رواد الأدب العربي الحديث منذ ستينات القرن الماضي وحتى الجيل الجديد من الشعراء. في هذه الحلقة الأولى، يكشف أبي شقرا عن كواليس مجلة «شعر»، وصراعات شعرائها الأقطاب، وتلك المحبة البكر التي وصلت بفعل المنافسة الشرسة، إلى حدود العداء والفرقة، وعن دوره في «تقليم ونحت قصائدهم». وفي الحلقتين المقبلتين مزيدا من خبايا شعراء الحداثة وأدبائها التي نادرًا ما يُكشف عنها، من أنسي الحاج إلى الماغوط والسياب، وهناك فيروز وأمين معلوف، واللائحة تطول.
العام هو 1958، عند يوسف الخال في نزلة مدرسة الفرير، رأس بيروت، محطة غراهام، ووضعت له مواد لمجلة «شعر» في تلك المطبعة لشقيقه رفيق. وهو القيّم على التحرير وعلى أن يتسلّم المواد من الشعراء، من الكتّا‌ب، من جميع أهل القلم الذين فيهم الملكة لأن يلبوا ما تبغيه المجلة المقدامة والطليعية، من نصوص هي في الاتجاه، وأن يلتقي الجميع وأن ينضم الجميع إلى الحركة التي يقوم بها يوسف الخال وبعض الشعراء، وهم من الذين يمارسون النشاط فيها ويضعون قصائد، ويصوغون أبياتًا من خارج التراث، خارج المتوارث، ويعمدون إلى أن يقدموا الأجمل، وهو ما تطمح المجلة إلى أن يكون وأن تكون «شعر» هي الشجرة، وأما هم فالذين يسقونها والذين يضيفون أغصانًا إلى ما عندها من الغنى والمحتويات، وألوانًا تصب في النهضة الجديدة، وأن تكون الجدة الحديثة جدة في ملء تفاسيرها، وملء حذافيرها.
‏والشعراء هم أدونيس، وأنسي الحاج، وفؤاد رفقة وأنا. وربما علينا أن نزيد سوانا من الذين أتوا إلى المجلة، إتيانًا متقطعًا، مثل محمد الماغوط ومثل نذير العظمة، وكذلك ولا أنسى، هناك عصام محفوظ، الذي، في إحدى الفترات، كان أمينًا في الوجود وفي المساهمة البناءة، إلى آخرين من العالم العربي، شعراء جاءوا ونزلوا بيننا، وكانت لهم علاقات مع المجلة في الأرقى وفي الأهم وفي الأحلى. وأذكر بدر شاكر السياب، وأذكر سلمى الخضراء الجيوسي، إلى شعراء من الجيل السابق ساهموا في صفحات المجلة مساهمات جليلة، وفي ملتقيات لها وفي نشاطات لها. إلى جماعات من المثقفين ومن المحبين ومن الفضوليين؛ لمعرفة ماذا عند أولئك الشعراء، من أفكار ومن علامات يطرحونها ويكشفونها لمن هم في جوع إلى مثلها، وفي سغب ملحاح للاطلاع على المقدرات وعلى التكاوين وعلى التصاوير، وما إلى ذلك، والإطار هو خميس المجلة. والإطار الحميم والأدنى إلى الذات هو الشعراء القلة الذين يمسكون الكتاب ويمسكون الصفحات إمساك الصقر بالطريدة.
* حلف أدونيس وأنسي
وأدونيس، بكلمة أخرى، كان الصديق الأقرب والعذب، لي ولبضعة غيري، في مطلع المغامرة الشعرية... ولست أندم على الاصطحاب الأنيس ورفقته، وعلى همومه التي لا يفارقها حديث الشعر، وأين الشعر، وما هو الشعر. ثم كان ذا شغف في العلاقة وفي المودّة، ولا أنسى أنه شديد البراعة في التواصل، وفي مرافقة الجميع، وفي أنني كنت مثل الشريك معه، بل أحرّ من ذلك، وطالما جلسنا والآخرون، من أي حدب أقبلوا، وأي صوب وجدوا، إلا، في تلك الفترة، جماعة الآخرين، أي من هم في مجلة «الآداب»، أو في مجلة «الثقافة الوطنية»، أو في جريدة «حزب البعث» آنذاك. وأدونيس غيّر المركب الذي نحن عليه وغادر البحر الخاص الذي كنا عليه، ليأتي الفئات المضادة من حيث المبدأ، لكنها المضادة له سابقًا، وكنت أنا مثل الوردة أفوح للجميع وأمضي حيث أسوار الجميع، وهو ما زاد لي قربًا منهم ونجاحًا عندهم قبل أدونيس وبعده.
ولا أنسى رينه حبشي وكيف احتضن أدونيس ثم تبدلت الحال، وراح الشاعر من ضفة لبنان إلى ضفة فرنسا، وغاص في الخضمّ، ناجحًا في عقد المودات أو العلاقات، وما هو يردّ عليه صاع النفع والوجود، ليكون متعددا.
ذلك نمط أو أسلوب، وما قعد مرتاحًا، وذلك مزاج ونوع من المهارة في الأخذ والردّ، وحين نوى الدخول إلى الجامعة اللبنانية ليكون أستاذا سئل أنه عليه أن يقوم بالدكتوراه. وأردف أن هذا على رأسه، وأنه عمد إلى هذه الدكتوراه وصاغها، ولم يخل الأمر من معركة حول كيانه الجامعي، وعند الآخرين اليقين ذاك، وعند الطلاب يقين مواز، وهو أنه أشرف على أطروحات كادت تبلغ العشرين، وكلها عن شعره ويا للعجب ويا سوأتاه.
وكنت أشرت إلى هذا العمل في لقاء معنا، يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وأنا، بدأ في منزلي في بيروت، الأشرفية ثم امتد إلى منزل أدونيس وخالدة جهة اليونيسكو في العاصمة اللبنانية. وكان الأمر هكذا حديثًا إلى يوسف الخال نفسه ومعه هاشم قاسم. والجميع سبقوني إلى منزلي في أمسية ذلك النهار القديم، وانطلق التسجيل قبل وصولي من جريدة «النهار» في الحمراء، منتهيًا من القراءة والكتابة ومن الصفحات لي. ولما نزلت بين الجميع، كان هاشم قاسم مقدمًا منحازًا إلى أدونيس وأنسي... وكان من هذه الزاوية يسمع أدونيس فيما يرى دون يوسف الذي هو المسؤول عن اللقاء لينشر في جريدة رياض الريس في لندن.
وحين صدر النص في تلك الجريدة التي توقفت منذ الأمد السابق، بكل وقاحة وبساطة حذفت هذه الإشارة في كلماتي، كما يفعل الضعيف دائمًا، وليس ذلك بسر أو بأنه يبقى في المجهول.
وهذا السلوك في طبعه، ولم أسكت دونه ولم أتغافل فنشرت المقطع المحذوف في جريدة «النهار» داخل الصفحات الثقافية، بل عمدت إلى تقديم اللقاء كاملاً على مرتين ووضعت النص، بل الأحرى وضعت الإشارة إلى ذلك، علامة أخرى أن من لا يكون صادقًا في موضع، لا يكون كذلك في موضع آخر.
وكتبت نصي المفروض عليّ، ونشر في السياق، ولجأت إلى فرنسوا عقل؛ ذلك أن ثقتي طارت في الريح، ولن أجلس حيث الآخرون ليسوا أهلاً للثقة، وتكرر الأمر تاليًا، في أمكنة أخرى، حيث أنا كأنني الخصم وأنني اللدود، وعلى أولئك أن يحاربوني وأن يقفوا ضدّي في كل الظروف وكلّ الأيام.
* أدونيس مدللاً «أدو» ومن الحب إلى الخصام
... ومن قبل كنت أتردد على المجلة على مطبعة رفيق الخال، شقيق يوسف، وكنت أصادف أدونيس، ويعروني ما يعروني من النخوة ومن كوني عنيت بهذا الأمر، بهذه المودّة الطالعة من الداخل، من غرفة القلب والعقل معا. وكان الصديق الألطف، وكنا على السواء، وعلى المثال الظريف من الصحبة، من الرفقة، وكان خميس مجلة «شعر» يلقى صداه في جريدة «الزمان»، حيث كنت الوصي على الثقافة وعلى أنواع المقالات، وعلى النصوص التي لها وجهها الطلق والأغرّ. وكان لي لقاء روحي ولقاء طمأنينة ولقاء زهرة طالعة من الخصب، وزهرة طالعة من أرض الجبل من العمق التراثي، ومن الجدود الذين كان شأنهم في الحجر الذي عمّروه وكله ضخامة في ضخامة. وكان لهم باع في الذكريات وفي حنايا الفقر الذي ليس كذلك، وفي ملاعب الغنى الذي ليس كما تحدده الكتب ويرسمه بعض الناس، بعض المراقبين. وهكذا ازدادت العلاقة المتناغمة. وكنت آنذاك ذلك الصبي، ذلك العصفور الذي يطرد الخيبة، وينط من صرح إلى صرح، ومن حبّة إلى حبّة.
وكان أنني صرت النديم وصرت القريب من الشاعر، وطالما هبّت ريح الموشحات النفسية، ونحن معًا، ونحن في سبيل الشعر كومة مشاعر وليس في أي مجال، أي آخر من الود، ومن الجلوس على الأنس وعلى أي مقعد من حجر أو من حرير. وهو الذي كان شاهدًا على ولادة قصيدتي «ها أنا وحدي كسنجاب ورجلاي احتضار». وهو وأنا كنّا في التواطؤ العاطفي الصريح، وفي أنني لأغطّي خميس مجلة «شعر»، في جريدة «الزمان»، كنت أدعوه «أدو» دلالاً له؛ ولأنه فيما فعل وفيما لديه من ترحاب ناعم ومن لطف في التعامل، في المصافحة، في الكتابة، كان الذي يبدو طريفًا ويبدو جديدًا، ويبدو صاحب قريحة وصاحب لغة عربية ناضجة، وما عليه سوى أن يؤلّف وأن يصبّ غزارته في قصائد لمّاحة وذات مساحة أناشيدية تضرب الجماد وتهزّ الجمود. وإذ تحركت الأيام تارة إلى الشمال وتارة إلى الجنوب، إلى الوسط وإلى الأطراف، وإلى الخارج كانت الحركة الشعرية في المجلّة، على طلاقتها وعلى سويتها. وكنت الذي يعكف على النضج التعبيري، الذي هو أنا «المرشد الجمالي» كما سمّاني محمد الماغوط، والذي في غياب الآخرين، كانت لي شهرة في القبض على القصيدة. وكما يؤخذ الصوف من الخروف، كنت آخذ وأقصّ وأشذّب ما طاب لي ذلك، وما طاب للقواعد الفنية أن أكون ذلك القيّم على النظافة الشعرية، وعلى أن تقف القطعة الأدبية أو الشعرية وقوف الصراحة والبيان المبين، ولا طوق فيها سوى اللمعة، وحين تبلغ القارئ يكون سكران بها، ونكون نجونا نحن الجميع، من الغلطة من الثوب العادي والقديم، ونكون في عيد دائم، عيد الكلمة المرتاحة في جلبابها وفي قميصها الخلاق.
وإذ تضاربت المنافسة، وإذ احتدّت السلطة والسلطان في المجلّة، حدث أن كان الغائب معظم الوقت، وحدث أنني، من جراء ذلك، سهرت طويلاً وجهدت كثيرًا؛ لأكمل الرسالة وأن أكون في موقع الحريص على الترويض، وعلى نقل النص أمامي، من الحشو ومن الظلمة العمياء، ومن ذلك الثقل إلى حيث يكون بعيدًا من الديجور، بعيدًا من الإغماء ومن الخطل. وأن تكون المسألة في الأساس هي الانقضاض على المعايب، وعلى رضوخ الكلمة للفراغ، ولأن يكون مصيرها مصير الكآبة ونصير الشعلة التي تخمد وتنقلب إلى رماد.
* أنا إزميل القصائد
وأعود إلى مجلة «شعر» وإلى كوني الإزميل الذي كان ينحت القصائد وأجواءها المثقلة بالزوائد والمصائب والثغر. وعند يوسف الخال، كما قلت سابقًا، كانت كلمتي هي الفصل وهي المقياس الذي يجب أن يؤخذ به؛ لأنني الحدس الكامل والثاقب، وكنت أنزل في القصائد والمقاطع الشعرية حتى المؤلفات التامة، نزول الصقر من الفضاء على طريدته، على الخطأ وعلى ما يعطّل أو يشوّه الجمالية، وعلى أن آتي إلى هذا الشأن، فأبصر فيه ما هو ضعيف وركيك وغير شعري. وأكون الذي يجرّد الشجرة من أوراقها الصفراء، حيث لا يعرف ذلك صاحبها أبدًا، وهي غريزتي وطبيعتي المدهوشة وصفتي النافذة إلى الماوراء، وما يختفي تحت التراب، تحت القشور، وأنفض كل ذلك في الهواء ولا يبقى في الساحة إلا الفارس، إلا القصيدة وهي التي استحمّت وفاح عطرها على الآخرين، وعلى أصحابها أولاً.
وأدركني الحلم واللون والثقة والمهارة التقنية والبداهة الحدسية، وهكذا نقلت تجربتي النحتية من مجلة «شعر» إلى جريدة «الزمان» فإلى جريدة «النهار». واختلقت القصيدة التي أمسكت بها يداي وقلمي، من وسخة إلى نضرة، ومن منكفئة وحيية إلى الصراحة وإلى الهوية التي تجعلها طيعة وقابلة لأن تكون في مرتبة الندّ، صالحة أنيقة ومهذبة، ومنطلقة إلى المكان البعيد، إلى الأفق السعيد.
* الشاطر مثلي ينقذ النصوص
والتفت هنا إلى الأب سليم عبو حين وضع كتابه «الثنائية اللغوية في لبنان» بالفرنسية، وقصدت إليه في مكتبه وفي عمارته بجامعة القديس يوسف، في تلك الأثناء من السنين الأولى، وكانت إطلالتي الشعرية بكرًا وبتولية إلا بعض اللمحات الغامقة الطابع والمتدثرة بالحلاوة الرقيقة، في مطلع التذوق. واقتطف مني، آنذاك، بعض الأفكار فيما نحن، في مجلة «شعر»، فاعلون وماذا على بالنا أن نكون، وأن نصل إلى الدوحة الطريفة وليس إلى السراب. وطبعًا كنت على فوضى، وما زالت الأشجار تفوتني، ولكنني أوصلت إليه بعض الأضواء، وبعض شرابي الذي صنعته في قصائدي تلك في الفاتح من تجربتي.
وكان أنني سمعت من أدونيس، في بيروت، في مدينتنا الأعزّ، بعد ذلك أنه التقى الأب سليم، وهو العلاّمة والمثقّف الواسع الصحن والرواق، في باريس، وأنه كما قال لي أضاف بعض الموضوع الذي كنت أبلغته إلى الأب عبو في بيروت.
وكنت أرتضي ذلك نفسه لولا أنه كان في تلك الفينة من العيش، يعتبر نفسه في موقع القائد، وفي رتبة أعلى منا، وهكذا كان يوسف الخال بهذه العلامة والصفة، في مبتدأ الأمر ومطلع التجربة.
ثم لمّا اشتد ساعدي ونخرت القيد وخرجت من الثقب هذا، تغيرت الآية وأنشدت آيتي وتجربتي، وحصلت على قصب المعركة، وما على الشاطر سوى أن يفعل مثلي، وسوى أن يكون محبًّا وممطرًا على رفاقه، وعلى أن ينقذ لهم ما هزل من النصوص وما كان فيه العيب إلى أشده. كما قلت من قبل.
* فؤاد رفقة مالك الحزين ومتواطئ
... ويوسف الخال الآتي مثل فؤاد رفقة مع عائلته من الجغرافية السورية، كان الذي له سيطرته وسطوته على المالك، على الحزين. لأن رفقة، وهو من أوائل الرفاق في مجلة «شعر» في بيروت، كان متواصل اللفتة نحو يوسف، نحو طبعه الآمر ونحو شخصه الآمر، الذي يحنق والذي يحب. وكلاهما منذ البدء وفيما بعد، تبادلا التواطؤ، تواطؤ المحبّة وتواطؤ اللجوء، من فؤاد غالبًا إلى يوسف. وإذ كانت لفؤاد بعض السيرة المعقدة والمضطربة، كان عندئذ ينظر إلى يوسف قدوة له، ويلوذ به في خيمته الأخلاقية، وفي سرب آرائه وأقواله. وكان يوسف شديد القاعدة نحو فؤاد، وكان المالك حزينًا في أي وقت. بل إنه، وهو الأستاذ المربي في الجامعة اللبنانية الأميركية، لم يقو على قبض الفرح الكامل والسعادة الكاملة. وأظنّه في عائلته التي من حوله وهو الحميم تجاهها، كان يلقط الشرارة، يلقط المتعة والسلام، وكذلك، حتى هنا، كان عميق الإدراك، وظاهر الأسى. وكأن به شوقًا إلى المحال، إلى تلك الرعشة البعيدة الغور وإبريق الصفاء. وكان إذ يأسف إنما يختبئ في الأسف، في ألوان من العذاب الفكري، ومن التحولات الكيانية. ونحن الذين قربه، وعلى مسافة قصيرة من شخصه، شاهدناه في استمرار غلوائه، في ملعب غنائيته المصطفاة، حيث هو كأنه يفنى في الفناء، وكأنه يصطدم بالصخرة الخيالية والصدمة العاطفية.
* يوسف الخال تهشّم على صخور المقربين
... وهكذا، بالموضوعية التي لا أظنّها تكرّرت على الرحب الذي كان لي، دعوت أدونيس ونحن رفيقان في مجلة «شعر» وفي حركتها، من مطلع الشروق، ومن بكورية النشوء، فأقبل عليّ في مكتبي في الحمراء، وكنت في حومة الوغى، حومة الحرب المتقلبة، من تلك الثمانينات وأنا أغرق مهنيًا في أعمال ومقالات وموضوعات وصفحات، وأنفث الروح، وتلك قاعدتي، حتى في الاقتصاد الذي تشقلب معي من جامد وجدي جدًا إلى متحرك ومنفعل، وكنت أفاجئ «غسان» تويني نفسه، ومعه التحرير والعلاقات القائمة مع الوسط الاقتصادي، وكان بعض التسليم بأنني أحرّك العنوان وأنني لا يهمني من يرضى ومن لا يرضى، وهذا كان شأني في أن يكون الطرب أولاً وأخيرًا في نفس القارئ. وهكذا أقبل أدونيس وجلس أمامي وغليونه في فمه، ولا ينبس ولا يتكلم هو، بل يضغط طرف الغليون، ويتطلع ويصغي إلى كلامي، أنني أريده أن يأخذ الصفحة الثقافية (في «النهار») عني وعرضت عليه تفاصيل ومكونات فيِمَ سيفعل، وماذا عليه أن يفعل، وأن يكون المسؤول، وهو لا ينطق أبدا، بل يهزّ رأسه موافقًا ومتربّصًا أن تتم العملية أفضل التمام.
وكنا كلانا غارقين في هذه العملية المفاجئة له، وليست لي، وكانت على وشك اليقين والاكتمال لولا بعض اليقظة، ولولا بعض الشك الذي يرافقني في أن أدونيس ليس صحافيًا، بل يجهل أن يكون صحافيًا. وهو شأنه المقالات والأفكار، وكيف كان لي أن أكون سكرتير التحرير في مجلة «شعر» في عزّها التحريري والإنشائي؛ إذ كان يمكنه، وهي فصلية، أن يملأ هذا الدور مع يوسف الخال وكان صحافيًا، ولم يستطع أن يملأه ولا أن ينصرف إليه. وهو ما كان يحدث في غياب يوسف مسافرا، وكنت أرتب له العبارة خبريًا، وأصوغ ما يليق بالنص، وأستغرب كيف أن عهد إليه ذات مرّة الإشراف على جريدة «البناء» اليومية، وكنت آتي أدونيس ونحن في صحبة دافئة، وفي اصطحاب متعاقب الحركة، وأنشر عنده مقالة، أو ما يطرأ من نوعها قبل أن أصير إلى مهنتي الصحافية صيرورة نهائية.
ولا يفوتني أن نزيه خاطر كان على بيّنة وعلى علم بذلك الاجتماع بيني وبين أدونيس، وإذا بالتلفون يرنّ، وإذا هو يخاطبني بهمسات تنبيه وتحذير من أن أترك الأمر لغيري، وإذا بي أنتهي ببساطة أنني لست مقتنعًا بهذا التوكيل، وبأنني على حق في أن أمارس المهمة الثقافية وحدي، وأن أظل القيّم على الصفحة، وذلك كان واستمر؛ إذ الصحافة مهنة وشوق إلى العطاء، وهناك من لا يملك المفتاح، ولا من يملك «افتح يا سمسم» ولو كان شاعرًا، ولو كان وراءه قوم ووراءه قرّاء ومتابعون.
وكيف وأنا متسائل، يتسلم مسؤولية صحافية وهو نفسه بعدما لاحظني أصوّب له عبارته قال لأنسي إذ زرناه على الأثر البسيط ذاك، إن شوقي يصحّح لي، بشيء من البساطة الصادقة، وهي تعني أنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك، وهذا لا عيب فيه وما لا يحرجه أو يحرج أحدًا سواه. أما المقالات، فكان لها وكان يكتب النظري، وكان دوره هنا، على ما أوضح وطالما تكرر ذلك لدى يوسف الخال، وطالما صرح به أمامي وأمام من حضر مجلسًا لنا أو مجالسنا، أن أدونيس يفكر وأن الشعر الحديث ليس في الحقيقة صنفًا من المقالة أو مقالة فكرية في البادئ وفي البدء، وفي الأول من المطاف، وفي آخر القافلة. وفي آخر المطاف. ومعه حق، كل الصواب، وكل صلب التجربة.
وأزيد وأردد في جوقة الصادقين والمختارين، وفي قداس الصدق والصداقة والخل والزمن الوفي في بعض الطريق، وفي الزغردة خيرات وغلال، وفي الترداد صوفية وتصوف، وعلاقة بالحكمة التي تصرخ بالحق.
إذن، أفعل وأرى أن يوسف الخال صحيح أنه خسر من يقف قربه فيما بعد الذهاب وبعد الانتقال إلى الدار تلك، حيث القصائد تترى وتتوارد، وحيث نهر الشعر لا يخفت له رنين أو اندحار. وأنا صريح الفم والقول وكذلك لا يؤسفني أن أعتبر يوسف أنه يظل الذي جمع وحضن ودعا الآخرين من الخلّص والمهيأين لأن يكونوا في الطليعة، والذين هم المشاة إلى الأدغال الجميلة التي تحتوي على غرائب أوسع مما اشتهى ابن الرومي، ومما تصوّر أنها موجودة في الطريق إلى خارج النقطة، خارج المكان، حيث يقيم هو.
وصحيح أن يوسف كأنه تهشّم على صخور الذين حوله، على صخور المقربين والأقربين والذين شبّه أنهم حراسه، وأنهم سيكونون له المدافعين عن حقه في البقاء على منصة الكلمة الشهمة، والكلمة التي ارتوت من الندى ومن حداثة الأشياء، ومن طراوة الأيام ومن عمق التجربة، ومن هيبة العمل في الشأن الشعري. وقلما أحد غيره عمل لهذا الشأن باندفاع كما عنده، وبالنسكية الحلوة، والإخلاص الطويل مثلما كان ذلك عنده.
وعلى محلة أخرى وعلى منقلب ليس بعيدًا، كان يوسف يسبر الأشخاص ويعجم كينونتهم، ويدرك بالنقدية التي يمتلكها ماذا هو ذلك الآخر. وأظنه فهم غيره، وكان ذلك يضعه في حرج؛ إذ هو، من جهة رفيق له في البداية، رفقة ملازمة ولصيقة، ومن جهة ثانية كان على شيء من النقزة، وكان ذا شخصية أقوى، ينفعل جدًا ويعلو إلى فوق بأنفاسه وغضبه، وأما غيره فلا ينفعل، وإنما يكظم ما به ويغلف الأمر بالبسمة، وبزنبق الصمت ونسمة من اللامبالاة والحدب اللطيف. ويوسف أيضًا كان على شعور بما لدى غيره من إمكان، من شعرية، وأظن هذا الغير كان خائفًا من هذه اللمحة لدى يوسف، وكان يتوقاه ويتجنب أن يصل النقد بينهما والمكاشفة إلى حدّ المكاشفة. ويوسف ذو رأي أنه لا يجوز أن تكون القصيدة فكرة، وهو ما يعيبه ولا يطيقه في نصه، وكانت الأيام تقدمت بنا في مجلة «شعر»، وكذلك تبلورت نظراتنا ولم تبق في وجهة واحدة وعنيدة، وإنما نحن كالأحصنة، نحن أحرار فلا أطر ولا أقنعة، ويجب أن نكون أحرارًا بمعنى الحرية المطلقة والمزدانة بهذا المطلق والكمال.
ولئن كان عيب غيره هو هذا؛ فإن يوسف عيبه هو هذا أيضًا؛ إذ لا نكتب القصيدة أنها مقالة أو هي كذلك، كما يقول يوسف وإنما يوسف أيضًا شاء أن يضع الفكرة متدرجة من سطر إلى سطر، من فعل إلى فعل، ومن حبة رمل إلى حبة رمل تالية. وهو ما عمدت إليه أنا وضربته في «قصائد في الأربعين» (ليوسف الخال)، وحذفت و«فركشت» إلى أن استوى الأمر كما حلا ليوسف أن يكون، وكما حلا لي أن يكون. وحين صدر الديوان وفيه المقدمة، وكأنما يوسف ليست له راضية ومرضية، فلم يسألني البتّة، ولا كانت منه لمحة إلى مقالتي النقدية عن الديوان حين أغفلت، ولم أذكر الفعل والفاعل. وهنا الصاع صاعان؛ إذ هو لا يطيق أحدًا على الرغم أنه يلتفت إلى بعض الأسماء، وهو دائمًا يتصرف على ذوقه ويخرب الحقيقة تقريبًا خرابًا يشبه ما يكون الطلل حين يغادره الأهلون، ويظهر الرماد فقط ولا وضوح أبدا فيما يجب أن يكون وضوحًا ويستأثر بالحقيقة دائمًا، وحين لا توافقه يقوم هو بالحذف أو يدفع أحدهم إلى الحذف، كما حاله في شتى الظروف وأنواع المناسبات.
وحين تنضح الحقيقة في وجهه يتأفف ويتركك حيث أنت، ولا يرغب أن ينبت نبات آخر غير ما هو، وغير ما يطلع من بستانه، ولا هناك تقدير لمن يصعد من الضباب إلى النور إلى الوضح ويكاد يزاحمه، فيركض إلى ساحة جديدة ليمارس ما مارسته في ساحة سابقة من الترويج والعمل لنفسه وتزيين شعره وقصيدته أنهما هما الشعر والقصيدة، حين أن الرأي ينكشف رويدًا ومسارعًا أنهما يتضاءلان، وأن اللفظية باهظة الغلبة والثقل، وأن الحراسة عليهما من قبله بالنقد والعلاقات وتلبية الدعوات، كلها ما عادت تنفع ذلك؛ فالبيان بيان الساعة الأخيرة والضحكة الأخيرة.
وما كان أحد ليرشقه بوردة لو أنه حفظ للمنافسة وجهها الناصع وللخصومة رقيها الناصع، ولم يفعل، واللوم على الآخرين الذين، جامعيين مثله أو أكاديميين مثله، يجب أن يذهبوا إلى محكمة دانتي، إلى رحلة هذا الشاعر إلى المدار الأليم.



بول أوستر... رحيل صاحب «ثلاثية نيويورك»

بول أوستر
بول أوستر
TT

بول أوستر... رحيل صاحب «ثلاثية نيويورك»

بول أوستر
بول أوستر

توفي مساء أول من أمس (الثلاثاء) الروائي الأميركي بول أوستر عن 77 عاماً في نيويورك، التي ارتبط كثير من أعماله باسمها ومن بينها سلسلته الشهيرة «ذي نيويورك تريلوجي» (ثلاثية نيويورك).

وربما يكون أوستر هو الروائي الأكثر حضوراً في المشهد الثقافي الأميركي والأوروبي في السنوات العشرين الأخيرة. وقد عُرف عالمياً أيضاً على نطاق واسع، فقد تُرجمت رواياته إلى 40 لغة، ومن بينها العربية التي تُرجمت إليها غالبية أعماله، ومنها: «حماقات بروكلين»، و«في بلد الأشياء الأخيرة»، و«قصر القمر»، و«اختراع العزلة» و «ثلاثية نيويورك»، من ضمن أعمال أخرى.

وتتوزع كتاباته الروائية وغير الروائية بين موضوعين مركزيين: الوحدة والعنف.

وهذان الموضوعان انغرسا فيه منذ انطلاقته الأولى، شاعراً، ثم كاتب سيناريو، ومترجماً، وأخيراً روائياً، حيث وجد نفسه أكثر. وكانت الكتابة بالنسبة إليه متعته الكبرى، وربما وسيلة هربه الوحيدة من تهميش المجتمع الأميركي، وشعوره الدائم بالوحدة، فقد نشأ مفتقداً وجود الأب، وكتب عن ذلك في مذكراته «اختراع الوحدة»، الصادرة عام 1982. وانعكس هذا الشعور في معظم أعماله اللاحقة.

وحظي بول أوستر بتقدير خاص في فرنسا التي كان يعدّها «بلده الثاني»، وحصل فيها على جائزة ميديسيس للرواية الأجنبية عن كتابه عن «ليفياثان» عام 1993.


رحيل بول أوستر... الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي

بول أوستر
بول أوستر
TT

رحيل بول أوستر... الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي

بول أوستر
بول أوستر

تتوزع كتابات بول أوستر، الذي رحل أول من أمس عن 77 عاماً بعد صراع طويل مع مرض السرطان، بين ثيمتين كبريين في أعماله الروائية وغير الروائية؛ هما الوحدة والعنف، اللذان يترابطان معاً، ويقود أحدهما للآخر، ويتبادلان أدوارهما ونتائجهما.

هذان الموضوعان انغرسا فيه منذ انطلاقته الأولى، شاعراً، ثم كاتب سيناريو، ومترجماً، وأخيراً روائياً؛ حيث وجد نفسه أكثر: «لم يكن أمامي أي خيار آخر، سوى أن أكتب، وأن أكرّس كل حياتي للكتابة»، كما قال مرة في إحدى المقابلات معه. كانت الكتابة متعته الكبرى، وربما وسيلة هربه الوحيدة من تهميش المجتمع الأميركي، ومن شعوره الدائم بالوحدة. لكن الكتابة هي أيضاً لعنته، كما يقول في الحوار نفسه.

من هنا اكتسب أوستر شعوراً مأساوياً بالحياة، ومن هنا أيضاً يمكن أن نطلق عليه «الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي»، كما عبّر عن ذلك في أعماله، التي تجاوزت الثلاثين عملاً.

كاتب حياة

يصنف بعض النقاد أوستر ضمن روائيي «ما بعد الحداثة»، وآخرون يدرجونه تحت تيار التفكيكية، ويتحدثون عن أثر جاك دريدا علية فكرياً بعدما عاش أوستر بعض السنوات في فرنسا واطلع من كثب على كتابات دريدا. ويذهب البعض الآخر إلى تصنيف رواياته على أنها «روايات بوليسية». لكن أوستر ليس معنياً بذلك، بل على العكس يتحدث عن تأثير لويس بورخيس وديكنز وأميلي برونتي وتولستوي عليه، إضافة إلى الحكايات الأميركية الشعبية.

لا تنظير «ولا صفحات ذهنية أو فكرية» نعثر عليها في كتاباته، وإذا وردت هنا وهناك فهي تأتي ضمن نسيجه الروائي المحكم. صحيح أن هناك عناصر في بعض رواياته يمكن نسبتها إلى «الرواية البوليسية»، لكنها ليست العنصر الرئيسي، بل هي شكل روائي يقود إلى أبعد منه. أوستر كاتب حياة أولاً وأخيراً، كأي روائي كبير آخر..

غلاف رواية «بومغارتنر» لأوستر

في مذكراته «اختراع العزلة»، الصادرة عام 1982، وهي أول كتبه في هذا المجال، يتحدث أوستر عن بداية حياته بوصفه ابناً لأب غائب دائماً. والكتاب مليء بذلك الشعور الذي سينعكس في كل أعماله الروائية وغير الروائية: الحزن، والشعور بالفقدان، والوحدة، والضمير الشقي.

غصة الثلاثية

ولعل ثلاثيته، المكونة من «مدينة الزجاج» و«الأشباح» و«الغرفة الموصدة»، التي ارتبط اسمه بها، أكثر من أي عمل آخر، هي أكثر أعماله التي تعكس الثيمتين اللتين شغلتاه طوال حياته، وهما كما أشرنا: الوحدة والعنف.

عمل أوستر على الجزء الأول من الثلاثية عام 1981 ثم أعاد كتابة مسرحية له أنجزها قبل سنوات، ليحولها إلى جزء ثانٍ، ليلحقهما بجزء ثالث. ويبرر ذلك بقوله إن موضوع المسرحية الأولى والقسمين اللاحقين، هو موضوع واحد: الغموض، وكيفية تعلم العيش مع الغموض وعدم اليقين، وهذا هو جوهر «الثلاثية» كلها.

لماذا اعتبرت هذه الثلاثية أهم أعماله واشتهرت أكثر من غيرها، حتى إن خبر رحيله في أغلب الصحف العالمية ورد مقروناً بها؟

يشعر أوستر، كما يشعر كثيرون حين تقترن أسماؤهم بعمل واحد، بالغصة، وهو لا يعرف كيف يفسر ذلك، ويلقي اللوم على الصحافيين الذين يسارعون إلى وصف العمل الذي عرف اهتماماً ما من القراء بأنه أهم عمل للكاتب.

غلاف رواية «4321» لأوستر

في عمله الثاني «قصر القمر»، الصادر عام 1989، يعود أوستر إلى ما طرحه في كتابه «اختراع العزلة»: شخصية منعزلة يبحث عن أب غائب، وكل محاولاته مصيرها الفشل؛ إذ يهاجر ستانلي فوغ من نيويورك ليتعقب ماضي عائلة في رحلة ذات مواقف كوميدية لا تفضي إلى شيء.

تتكرر ثيمة الوحدة والعزلة والبحث عن المجهول في رواية «كتاب الأوهام»، الصادرة عام 2002، بل إن شخصية ديفيد زيمر، التي كانت قد ظهرت في رواية «قصر القمر» وإن بشكل سريع، تعاود الظهور في الرواية الجديدة بوصفها شخصية رئيسية. إنه يعاني الوحدة، ونوعاً من التدمير الذاتي بعدما فقد عائلته في تحطم طائرة. ثم يصبح ممسوساً بشخصية هكتور مان، وهو ممثل اختفى قبل عقود، واعتبر ميتاً. ولكن بعدما كتب عنه، تسلم زيمر رسالة تفيد بأن بطله لا يزال حياً يرزق، وهكذا يتهاوى عالمه كله.

أما رواية «حمقى بروكلين»، الصادرة عام 2005، فتأتي كأنها نبوءة لمصير أوستر نفسه: رجل مصاب بالسرطان، يبحث عن مكان هادئ ليموت فيه، حتى يلتقي شخصاً يسبب له أزمة وجودية شديدة.

«4321»... رواية التتويج

وفي عام 2017، أصدر أوستر رواية «4321»، التي يمكن عدّها تتويجاً لمعظم أعماله. وهي رواية مركبة، خلط فيها أوستر أشكالاً سردية عدة بحرفية عالية، ولغة ظل طوال حياته يصقلها ويصفيها، فقد كانت اللغة عنصراً جوهرياً في أي عمل أدبي، وأحد مشاغله الأساسية، وينبغي أن تكون محل اهتمام أي روائي يريد أن يقدم أعمالاً جديرة بالبقاء.

وكان كتاب أوستر الأخير عملاً غير روائي، حول العنف في أميركا وقد صدر عام 2021 بعنوان «الشعب الدموي». وكان الزميل الدكتور سعد البازعي قد استعرض هذا الكتاب في هذه الصفحة حين صدوره، وترجم الكتاب لاحقاً أيضاً، وهو «توثيق للعنف وتأملات تحليلية حول جذوره وأسبابه ومآلاته»، وحلّل «أبعاد النزاع الدموي الذي ظلل التاريخ الأميركي منذ بداية الاستيطان حتى أيامنا هذه».

والحقيقة، أن أوستر قد دخل ذلك النفق الرهيب قبل سنتين من رحيله، وحينها كتبت زوجته:

«أعتقد أنه سيكون أمراً فظيعاً أن تكون وحيداً في (أرض السرطان)، العيش مع شخص مصاب بالسرطان يتعاطى العلاج الكيميائي والمناعي، هو مغامرة في القرب والابتعاد. يجب أن يكون الشخص قريباً بما فيه الكفاية ليشعر بالعلاجات التي تنهك جسد المريض كما لو أنه هو المعني بتعاطيها، وفي الوقت نفسه يكون بعيداً بما فيه الكفاية ليتمكن من تقديم المساعدة الحقيقية. فالشفقة الزائدة قد تشعر المريض بأنه عديم الفائدة! ليس من السهل دائماً القيام بهذه المهمة الحساسة».


سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك
TT

سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك

يكتب سلافوي جيجك في كلّ شيء، وعن كلّ شيء، يتحمّل كلَّ التُهم التي تجعله منعوتاً بالخروج عن السياق، وفيلسوفاً أنزل الفلسفة إلى درك اليومي، وجرّدها من أسلحتها المتعالية، وعرّض الأفكار إلى سوء الظن دائماً.

اشتغل في السياسة بوازعٍ من شهوة المزاج الشخصي، والشغف بالمغامرة، مثلما اشتغل بالآيديولوجيا من منطلق أوهام الشيوعي المتمرد الذي لا يثق كثيراً ببداهات الصراع الطبقي، وكراهية الرأسمالية، حتى بدا وكأنه يصدّق حكايات الساحر الأغريقي الذي يؤمن بالنهايات الميتافيزقية للعالم، كما اشتغل في علم النفس بوصفه ممارسات في التطهير والاعتراف، وفي تخفيف حدّة التوتر الليبدوي، فعمد إلى استعارة كل الأدوات العيادية من جاك لاكان لكي يعرف أن هذا العلم المخادع يربط بين أزمة الجنس وأزمات الكينونة والجسد والثورة، ويسوّغ الحديث عن المخفي من أخطاء الحروب والديكتاتوريات والعنف، وتحت يافطة أن العيادي هو أنموذج الكائن الغربي، الذي يعاني من أمراض طبقية وسياسية وجنسية ووجودية، وأن علاقته بالعيادة تتحوّل إلى مجال للاعتراف، وللتنفيس عن طاقات مكبوتة، رغم معرفته بأن الكائن الواعي هو الوحيد الذي يمكنه ممارسة الكبت، والعيش مع التباسات اللاوعي الجمعي، وربما يخضع له، بوصفه توهماً بحيازة سلطة الإخفاء، وهي سلطة غير مرئية...

حميد دباشي

لكن الأخطر في اشتغالات جيجك هو شعبويته، وربما استعراضيته، فكثيراً ما يدعونا إلى ممارسات سقراطية، يجعل من الشارع منصته، ومن الحكمة خطاباً يومياً، ومن السياسة مجالاً للسخرية، ومن النكتة والكاريكاتير عتبات رمزية لفضح «المسكوت عنه» في الحروب القبيحة، وفي السياسات الأكثر قبحاً، ولإدانة ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» وتعرية انتهازيته، وسكوته عن الأخطاء الكبرى التي تقود العالم إلى الكارثة، حيث يواصل سؤاله النقدي مع رعب العالم إزاء الخراب الآيكولوجي، فتبدو كتابته عن هذا الملف أشبه بالبحث عن شفرات للتطهير، بالمعنى الأخلاقي، أو المعنى الثقافي أو المؤسساتي، أو حتى المعنى «الشوارعي».

فهو يؤمن بأن تحديات «التلوث» و«النفايات» يمكنها أن تُدمّر العالم أكثر من الدمار النووي، وبهذا يسعى إلى تكريس شعبويته عبر اصطناع المزيد من المنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، لكي يكون فيها سقراطياً، خطيباً آيكولوجياً، واعظاً بضرورة حماية المناخ والبيئة ومواجهة الاحتباس الحراري، ومنع صناعة الأسلحة النووية، والدعوة إلى الطاقة الخضراء، بوصفها طاقةً أكثر إنسانيةً، وصالحة لجعل الإنسان يثق بالطبيعة. فالحرب البيولوجية قد تكون هي الحرب المقبلة، إن كانت على شكل جائحة «كوفيد - 19»، أو عبر مظاهر المناخ المُهدد بالتلوث وتغوّل درجات الحرارة، أو عبر مظاهر استشراء العنف الداخلي للجماعات الهامشية، أو عبر احتجاجات شعبيّة ومنازعات اجتماعيّة وآيديولوجية في جميع أنحاء العالم، قد تترافق معها بوادر «حرب باردة جديدة».

إدوارد سعيد

هذا العنف، أو صورة الحرب المُهدِدة ليست بعيدةً عن الصراع السياسي الدولي، ولا عن طبيعة إعادة إنتاج «الثقافات المتعالية». فجيجك يتحدث عن علاقة العنف والكراهية بالآيديولوجيا، ومن منطلق الفكرة التي تؤكد على هوية ما تُنتجه «المركزية الأوروبية» في مختبراتها الآيديولوجية، وتمثلاتها في صيانة أنموذجها المتداول، عبر توصيفه كمواطن عالمي، وتوصيف قوته المسؤولة عن صناعة الحضارة والمستقبل. وعلى الآخرين أن يصدّقوا هذه الحكاية التي لم تكن بعيدةً عن تاريخ الفلسفة الأوروبية، فكانط كان عنصرياً في عديد أفكاره حول «اللون والمكان» وهيغل كان يؤمن بـ«المواطن الأوروبي» ونيتشه كان يضع إنسانه المتعالي نظيراً لهذا المواطن، وحتى هيدغر الفينومينولوجي أعطى للأوربة توصيفاً يربطها بالحضارة، وأن الغرب الذي يملك القوة، يمكنه أن يجعل المعرفة جزءاً من مفهوم الحضارة، ومن القوة المندفعة نحو السيطرة على العالم.

وأحسب أن مواقف جيجك من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وحتى موقفه إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليست بعيدة عن سرائر تلك النزعة المركزية، وعن حساسيتها، وربما عن قلقه إزاء طبيعة المتغيرات التي يمكن أن تتضخم مع تلك الصراعات، والتحوّل إلى مهددات، وإلى أشكال معقدة لسرديات حروب لم يتحمّلها الأوروبي، صانع المتعاليات الاستشراقية.

أزمة الأوروبي مع المركزية ليست بعيدةً عن علاقته بذاكرة الخطيئة، وأن دفاعه المستميت عنها يقوده دائماً إلى ذاكرة التطهير، وإلى ما أسسته من أوهام ميتافيزقية، وأحسب أن هذا هو ما دفع الكاتب الأميركي حميد دباشي إلى السخرية من هذه المركزية بالقول: «يعاني الأوربيون من النزعة الأوروبية قطعاً، كما أن الملا نصر الدين ظنّ بأن الموقع الذي ثبّت فيه لجام بغلته هو مركز الكون» (حميد دباشي/ هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟).

حديث المركزية الأوروبية، أو الغربية بمعنى أدق فتح أفقاً لحديث يتعلق بنقد الاستشراق، ولطبيعة ما يُثيره من أسئلة جديدة، تتجاوز نظرات إدوارد سعيد وفرانز فانون وغاياتري سبيفاك وغيرهم، ليس لأن «الاستشراق» خطاب زمني وتاريخي، بل لأن ما جرى ويجري جعل من الاستشراق قاصراً عن توصيف الصراع، والدفع باتجاه مراجعة أكثر شمولاً لمفاهيم معقدة مثل العولمة والأمركة والهيمنة، وهي ممارسات سياسية واقتصادية وآيديولوجية، تنطلق من فكرة المركزية، وتؤسس لها أجهزة صيانية تقوم على العنف والاغتيال، وعلى العقوبات، وعلى استنزاف الثروات، مثلما تقوم على المركزية المعلوماتية والإعلامية، وعلى تخليق «صور ذهنية» عن تلك المفاهيم، بوصفها جزءاً من الصور الذهنية عن سيطرة المتعالي.

أكد حميد دباشي هذا الأمر، عبر نقد تلك الأطروحات بالقول «إن ما يوحّد كلاً من جيجك وليفيناس وكانط هي فلسفة التعميم الذاتية، فهي تستند عندهم دائماً على نفي قدرة الآخرين على التفكير النقدي أو الإبداعي من خلال تمكين وتفويض وتخويل أنفسهم للتفكير بالنيابة عن العالم» (الفيلسوف سلافوي جيجك والقضية الفلسطينية - جعفر هادي حسن).

آراء حميد دباشي أثارت عصفاً فكرياً حول «المركزية الأوروبية» دعت سلافوي جيجك إلى الرد العنيف، بقوله «إن دباشي يريد فتح موضوع قديم، جديد، وهو إشكالية مركزية العقل الأوروبي» (علي سعيد: دباشي وجيجك والسؤال المستفز: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟) وكأنه بهذا الرد يرفض القبول بوجهات نظرات «الشرق» الساخط على مركزية الغرب، وعلى أنموذجه الأوروبي.

تظل مراجعة فكرة المركزية الأوروبية موضوعاً إشكالياً، لأن مجادلتها ليست خاضعة بالضرورة إلى قياس قهري محكوم بعقدة المتعالي التاريخي، بل يتطلب الأمر وضعها في سياق ظروفها التاريخية، ومقاربتها من منطلق تمثيل الثنائية الملتبسة لـ«الأنا والآخر» بوصف الآخر جزءاً من تلك المركزية، ويملك تاريخاً ضاغطاً علينا، بدءاً من حروبه الصليبية، إلى حروبه التبشيرية، إلى حربه الآركيولوجية من خلال حملات الآثار في عدد من البلدان الشرقية، وصولاً إلى حقبة الاستعمار والاحتلال وما رافقها من عنف وتطهير إثني وهوياتي، وليس انتهاءً بفرضية الهيمنة الثقافية عبر الجغرافيا السياسية والاقتصادات التابعة والاستشراق بأقنعته المتعددة.

كما أن «الأنا» ليست بريئةً، وليست هي الضحية دائماً، فبقدر رثاثتها التاريخية وضعف أدواتها، وتشظي هويها، فإنها بدت أكثر التباساً في إطار أنساق حاكمة، صنعها الآخر أيضاً، وفرضها في سياق التداول كموجهات لتوصيف هامشية «الأنا» وعزلتها، عبر تأطيرها في اختراعات جيوسياسية مثل «العالم الثالث، الشرق الأوسط، الشرق الإسلامي، الدول النامية».

العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضاً يحتاج فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد

العالم ليس بريئاً

صحيح أن العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضا بحاجة إلى فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد، ليس لحساب تقعيد التفكير الثوري، بل لجعل «اللابراءة» مُحرضاً على التمرد، وعلى مواجهة تضخم الأقوياء من الذين يُفكّرون بصناعة «المراكز» المُستَبدة.

الجدل هو البراءة يتحمل مراجعات مفتوحة، منها ما يتعلّق بمناقشة المركزيات، والموقف من القضايا الإشكالية، مثل الموقف من «السامية» التي جعلها «العقل الصهيوني» أشبه بـ«الخطيئة الكبرى» لتسويق مفاهيم عن العنف والكراهية، وعن التعالق المريب بين التاريخ والأسطورة، فعبر «معاداة السامية» يتحول العالم إلى عدو، كما يدّعي الصهاينة، مثلما يتحول الموقف من العدالة إلى موقف آيديولوجي، يرتهن إلى حساسيات جعلها الغرب جزءاً من سياساته المركزية، في العلاقة مع الآخر، بوصف كيان إسرائيل أنموذجاً كنائياً لـ«النموذج الغربي» بقطع النظر عن عنصريته، وعن تقاطعه مع تاريخية فكرة «المواطن العالمي» التي تحدث عنه كانط.

أنموذج «الدولة اليهودية» هو تأكد على فقدان البراءة، وتجريد العالم من تنوعه، فدعوة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لليهود في فرنسا إلى المجىء لكيانه هو تكريس لمفهوم الدولة الدينية التي ستجعل من حروب المستقبل حروباً دينية ولا علاقة لها بالاقتصاد والجغرافيا والسياسة، وعبر استعارة تاريخية تنطلق من فكرة الانحياز إلى الضحية المثيولوجية، رغم شكوك جيجك حول الاعتماد على «صورة اليهود كضحايا في سبيل إضفاء الشرعية على سياسة القوّة الخاصة بها، فضلاً عن إدانة مُنتقديها باعتبارهم مُناصرين خفيين للهولوكوست، وأن اليهود أخذوا الأرض من الفلسطينيين، وليس من أولئك الذين كانوا السبب في معاناتهم؛ أولئك المدينين لهم بالتعويضات». (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).

أطروحات جيجك حول «لا براءة العالم» تجد في قضية الكراهية والعنصرية موضوعاً مهماً لمواجهة تضخم الآيديولوجيا العنصرية، إذ يربط بين هذا التضخم والعنف، ليدين من خلالها شكل «الدولة الدينية» ذي المواصفات الإسرائيلية بالقول «إن إنشاء دولة يهودية، يعني وضع نهاية لليهودية كدين، لذلك كان النازيون يؤيدون هذه الفكرة. وأن إنشاء هذه الدولة، في رأيه، يناقض التسامح، بل يعني كرهاً للآخرين، ويعني أيضاً التمسك بعنصرية خالصة» (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).


دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
TT

دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين

يضم مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى المتعددة الأنواع والأحجام، منها مجسمات صُنعت من الطين المحروق وصلت بشكل مجتزأ للأسف. تتبع هذه القطع بشكل عام تقليداً جامعاً تظهر شواهده في نواحٍ عدة من ساحل الخليج العربي، غير أنها تتميز بطابع خاص يظهر في بعض عناصرها المكوّنة.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ، منها موقع مليحة الذي يقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب مدينة الذيد، وعلى بعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة الشارقة. من هذا الموقع خرجت سلسلة من القطع الفنية تشهد لتعددية مدهشة في الأساليب الفنية، تشابه تنوعها ما نراه في مواقع عدة من البحرين، كما في جزيرة فيلكا الكويتية، وموقعَي قرية الفاو وثاج في المملكة العربية السعودية.

على مقربة من قبر دائري ضخم يعود تاريخه إلى العصر البرونزي ويُعرف بضريح أم النار، افتتح في عام 2016 مركز مليحة للآثار، وشكّل هذا المركز خير دليل للتعريف بتاريخ هذه الناحية من الخليج، من خلال ما يعرضه من مقتنيات، وما يقيمه من عروض وجولات إلى المناطق الأثرية المحيطة به. يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من المجسمات الآدمية المصنوعة من الطين المحروق، تشهد لحضور هذا التقليد الفني في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تتمثل هذه المجموعة بعدد محدود من القطع التي تُعرف عادة بالدمى، لم يصل أي منها بشكل كامل للأسف.

في هذا الميدان، تبرز قطعة فقدت كما يبدو الجزء الأسفل من تكوينها، وباتت أشبه بمجسّم يحضر على شكل تمثال نصفي يبلغ طوله 13 سنتمتراً، وعرضه 13.5 سنتمتر.

يمثّل هذا المجسّم رجلاً في وضعية ثابتة، يعتمر ما يشبه قلنسوة تلتف حول رأسه على شكل عمامة مسطّحة تخلو من أي ثنية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريض، وتتحدّد ملامح وجهه الناتئة في كتلة بيضاوية ملساء. العينان حدقتان دائريتان واسعتان، تتميزان بحجمهما الضخم قياساً للأنف الذي يستقر بينهما على شكل مساحة مستطيلة مجردة، غاب عنها أي أثر للغضاريف وللمنخارين. تبدو الأذنان صغيرتين ومنمنمتين قياساً إلى العينين الضخمتين، وتتشكّل كل منهما من مساحة نصف دائرية تخلو من أي تجويف. الفم ممحو، وينحصر في شق أفقي بسيط يستقل في أسفل مساحة الأنف العمودية. الصدر مستطيل وطويل. الكتفان منحنيتان ومقوستان، والذراعان منسدلتان ومتصلتان بالصدر، وهما مبتورتان بسبب ضياع الجزء الأسفل من تكوينهما. تصل الذراع اليمنى حتى حدود المِرْفق، وتكشف عن حركة طفيفة في اتجاه الذراع اليسرى التي فقدت معصمها ويدها.

تتكرّر صورة هذا الرجل المعمم في قطعة أخرى تتميّز بوضعيّة غير مألوفة. تحضر القامة ممدّدة أفقيّاً، وهي تحني ذراعها اليمنى في اتجاه حوض الصدر، كاشفة عن مساحة فارعة تفصل بينها وبين الخاصرة. الذراع اليسرى مفقودة للأسف، وتوحي حركة البدن بأن صاحبها كان مستلقياً عليها. البدن خالٍ من أي ملامح تشريحية، وساقاه ممددتان أفقياً، مع شق غائر يفصل بينهما. القدمان مفقودتان، وتوحي حركة الركبتين الملتصقتين بأنهما كانتا ملتفتين. وصل الرأس بشكل مستقل كما يبدو، وأعيد جمعه بجسده، كما يكشف الشق الظاهر الذي يفصل العنق عن وسط الكتفين. العينان حلقتان واسعتان ناتئتان تحتلان الجزء الأكبر من مساحة الوجه الدائري، وتتميّز كلّ منهما بتجويف دائري يشير إلى بؤبؤ الحدقة. الثغر بسيط، وينحصر كذلك في شق أفقي قصير. الأذنان موازيتان للعينين، وتتكوّن كل منهما من نصف أسطوانة يتصل أعلاها بالعمامة المسطّحة التي تكلّل هامة الرأس.

يحضر هذا الوجه مستقلّاً في قطعة أخرى غابت عنها هذه القلنسوة. تحضر العينان الشاسعتان مرة أخرى، وهما هنا مسطّحتان ومحدّدتان بخط بسيط غائر. يذوب الأنف في كتلة الطين حتى الغياب، ويظهر الثغر على شكل شق هلالي أفقي يرسم ابتسامة بسيطة تضفي على الوجه طابع البراءة واللطف. شق العنق واضح، ويوحي بأن هذا الوجه يعود إلى جسد ضاع، لم يظهر منه أثر آخر إلى اليوم.

تعود هذه القطع الثلاث، بحسب أهل الاختصاص، إلى القرن الميلادي الأول، وتُشابه في تكوينها مجسّمات عُثر عليها في نواحٍ أخرى من ساحل الخليج العربي، وهي من نتاج مرحلة طويلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني الميلادي. من هذه المواقع على سبيل المثال، يحضر موقع الدفي الأثري الذي يقع في شمال مدينة الجبيل، شرق المملكة العربية السعودية. من هذا الموقع السعودي، خرجت دمية آدمية ذات رقبة عريضة وطويلة، يعلوها رأس بيضاوي حافظ على ملامحه بشكل جلي.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ

العينان قرصان دائريان كبيران يتميزان بضخامتهما، وهما ناتئان، ويحوي كل منهما قرصاً يمثّل البؤبؤ، تبعاً لطراز يماثل كما يبدو الطراز الذي اتبع في تجسيم دمية مليحة المستلقية. يعلو هاتين العينين الشاخصتين شريطان أفقيان يشكلان معاً حاجبين متصلين. عند نقطة التقاء هذين الحاجبين، ينسدل أنف عريض يفصل بين قرصي العينين، وتظهر عند أسفل هذا الأنف سمات المنخارين المحددة بشكل طفيف. الفم ناتئ، وهو مكون من شفتين واسعتين يفصل بينهما شق أفقي بسيط. الوجنتان ممتلئتان، والجبين غائب على ما يبدو، وكذلك الذقن التي تختفي عند حدود ما دون الفم، في أسفل هذا الوجه.

من جهة أخرى، تشابه دمى مليحة في تكوينها دمية أنثوية محفوظة في متحف البحرين الوطني، مصدرها موقع قلعة البحرين. فقد هذا المجسم يديه عند أعلى المرفقين، كما فقد النصف الأسفل مما يلي الحوض، وحافظ على رأسه. يحضر وجه هذا الرأس بقوة، وتتجلى هذه القوة في عينين ضخمتين جاحظتين، حُدّدت أجفان كل منهما بقوسين معاكسين غائرين. وسط كل من هاتين العينين، يظهر ثقب يختزل البؤبؤ، كما في دمية الدفي ذات الرقبة الطويلة، ودمية مليحة المستلقية.


عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح
TT

عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح

يعد الشاعر عيد صالح من أبرز شعراء السبعينات في مصر، جمع بين الطب والشعر عن حب، لكنه لم يستطع أن يتفرغ لأحدهما وظل موزعاً بينهما، فعامله الشعراء بوصفه «طبيباً دخيلاً» عليهم، أما الأطباء فيعاملونه بوصفه «زميلاً متمرداً». أصدر عدداً من الدواوين الشعرية منها «قلبي وأشواق الحصار»، و«شتاء الأسئلة»، و«أنشودة الزان»، و«خريف المرايا»، و«سرطان أليف»، و«ماذا فعلتَ بنا يا مارك؟»... هنا حوار معه حول مكابدات العيش تحت مظلة هذه الثنائية، وهموم الشعر والكتابة.

> لنعد إلى البدايات الأولى... كيف أثرتك نشأتك الريفية في رسم ملامح تجربتك إنسانياً وإبداعياً؟

- تلك البدايات خطّتها قريتي، الشبول، بمحافظة الدقهلية، القابعة على حافة «بحيرة المنزلة»، هي مَن أرضعتني حليب الكتابة مباشرة من ضرعها ونحن نحلب الأبقار ونطارد العصافير والثعابين على الجسر، ونصطاد الأسماك من مياه الفيضان بأحواض الأرز، الفيضان الذي كان يلوّن آنذاك النهرَ باللون الأحمر، ويترك الطمي يلقح الأرض بالخصوبة والجمال. إنها «بحيرة المنزلة» حين تتدفق إليها مياه الفيضان فتحمر رؤوس الأسماك وتغرينا بصيد ثمين، كانت انطلاقاتنا عبر الحقول والطبيعة البكر وبداية ثورة يوليو (تموز) 1952، وهتافي مع الأطفال والصبية ونحن نجوب حواري القرية بحياة أول رئيس لجمهورية لمصر التي في خاطري وفي فمي، حيث نشيد الصباح في مدرستي الابتدائية ومدرسيها العظام وأستاذي «القبطي» كامل عيد حنا الطحان، الذي دفعني لحفظ القرآن شرطاً لدخولي المعهد الديني الذي أصرّ والدي على دخوله بعد أن منعني من التعليم العام، أستاذي هذا الذي أهديته ديواني «رحيق الهباء» عرفاناً بالجميل.

> إلى أي مدى كان لدراستك الأزهرية تأثير في هذا السياق؟

- تلقفتنا يد «الأزهر» الهائلة، تعلمنا الحب والشعر وطلاوة الحديث وسحر الكلمات، نسوح في شوارع مدينة دمياط، حيث مقر المعهد الأزهري، وعلى ضفتَي النهر نتمدد بسيقاننا النحيلة في مياه الفيضان، نتقاذف الحكايات والأشعار من امرؤ القيس والمتنبي إلى أبو تمام. في تلك الفترة الخصبة، اعتدنا أن نذرف الدموع مع مصطفى لطفي المنفلوطي في رائعته الرومانسية «تحت ظلال الزيزفون»، وننشد أشعار البطل في مسرحية «سيرانو دي برجراك» للشاعر الفرنسي إدموند روستان. وضمن مقررات المعهد الأزهري حفظنا «ألفية ابن مالك»، وتهنا في «شذور الذهب»، و«تنقيح الأزهرية»، و«أوضح المسالك». الصدر تملأه الثورات والحكايات... الأساتذة والأصدقاء.

كانت تسكن جسدي النحيل روحٌ متمردةٌ تريد أن تجرّب كل شيء، من الخطابة والشعر إلى التمثيل في فريق المعهد، مروراً بالقصة والمقالات، وانتهاءً بمكتبة المعهد التي كانت تعد أكبر مكتبة في مصر بعد «دار الكتب»، حيث كنا ننهل من أمهات الكتب على يد أساتذة ومعلمين تنويريين عظام حقاً.

> في خضم هذه الرحلة كيف تتعامل مع ثنائية الطب والشعر... أيهما تعطيه الأولية؟ أيهما يؤثر في الآخر من واقع تجربتك؟

- لا أتعامل مع مهنة الطب بوصفها مهنةً ولا حتى بوصفها رسالةً، ولكن بوصفها حياةً كاملةً تستوعب الإنسان وتطحنه وتبتلعه في جوفها الهائل داخل حجرة العمليات، حيث يطل شبح الموت ويختلط العرق بالابتسامات بالآهات بالآلات. سيمفونية إنسانية رائعة تعزف للإنسان، وتجسد تراجيديا الحياة في قمة ضعفها وانتصارها، الحياة عندما يكون لها معنى وقيمة، وأنت تنتزعها من براثن الموت المترقب المتوثب كأسد جائع. لا شيء يعدل غوصك في الجرح وانتزاعك الداء والألم الممض، لا شيء أصدق من لحظات الألم حيث يبدو الإنسان على حقيقته ضعيفاً هشاً، ونظرات الألم والأمل وابتسامة واهنة، ورجاء واعد بعودة نظيفة للحياة.

لكن على الجانب الآخر، هناك وجه سيئ لمهنة الطب، حيث سلبتني عشرات القصائد الجميلة في قسوة، وألقت بها داخل عنابر المرضى وأروقة المستشفيات والأسرَّة البيضاء، حيث تاهت إلى الأبد، ولم أجد الوقت كي أكتبها أو أستردها من أنياب المهنة القاسية الجميلة المرعبة الحانية الباترة العظيمة!

توزعي بين الطب والشعر، تنازعاني واقتتلاني ليتركاني للأسف طبيباً نصف الوقت، وشاعراً نصف الوقت، وبينهما تعيش ازدواجية أن ينعتك الأطباء شاعراً ولا يرى فيك الشعراء إلا طبيباً. ويظل طموحي أن أكتب الطبيب وأعيش الشاعر، الشاعر في بساطته ورقته، في هشاشته وقوته واندفاعه وصولاته وجولاته، في عبثه وإهماله ورثاثته، في طيرانه المستحيل واختراقه الفذ كأنه شعاع كوني تتبع بوصلته هدفاً خرافياً، حيث تتوالد الأبيات وتتفجر القصائد.

> في ديوانك «ماذا فعلت بنا يا مارك» تصب جام غضبك الشعري على مارك زوكربيرغ مؤسس موقع «فيسبوك» وأنت تقول «هذا اللعين مارك / نزع الفرادة والخصوصية / حتى الجينات تمازجت / لتنتج مسخاً»... لماذا هذه الرؤية التي تعادي مواقع التواصل الاجتماعي، ألا ترى بارقة أمل في تكنولوجيا الاتصال الجديدة؟

- ربما كانت صدمتي بهول ما يحدث في الفضاء الإلكتروني، وكم الأكاذيب والنصب والاحتيال، وكم المشكلات الاجتماعية، تلك الصفحات المزورة والأسماء الوهمية. أعرف رجالاً أنشأوا صفحات بأسماء فتيات ليسخروا ويبتزوا كثيراً من الرجال، وأعرف نساء أوقعن بأزواجهن بصفحات وهمية... إلخ. شاهدت مساخر ومهازل يندى لها الجبين مع أننا نستطيع أن نستفيد بسرعة التواصل وتوظيف عنصر الوقت كالأخبار وسرعة النشر والانتشار، ولولا الفضاء الإلكتروني ما اشتهر عشرات المبدعين. التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فكما أنها تصنع السلاح الذي يتم به التطهير العرقي وحروب الإبادة منذ هيروشيما ونغازاكي وحتى غزة الآن، إلا أنها جعلت الروبوت يجري عمليات جراحية دقيقة كما جعلت العالم في حجم قبضة اليد.

> لماذا تبدو قصائدك أحياناً وكأنها رثاء للذات في مواجهة العالم وتصوير مرير لهشاشة الروح تحت وطأة واقع قاسٍ لا يعرف الرحمة كما في قولك «أنا الميت الحي/ أجتر ماضي الذي كان / كخرقة بجوار حائط متهالك/ كقطة تكاثر الذباب حولها / كآثار حذاء مثقوب / في وحل حارة معتمة؟»

- مع أنني كما يبدو للكثيرين ذلك الهادئ الطيب الرومانسي الطوباوي الحالم، فإني في الحقيقة أعيش داخلي الذي تراكمت فيه كل أحزان العالم ومآسيه، أعيش انسحاق الفقراء والشعوب المستضعفة والواقعة بين فكي الفقر والجهل والفوارق الطبقية. أعيش أسئلة الوجود الصعب في صقيع الوحدة والاغتراب، أعيش أزمة الإنسان المعاصر بكل تعقيدات الحياة وصراعاتها وما يخبئه الغد الملغوم. ولأنك في الغالب تكتب نفسك حتى لو حاولت بالمجاز والخيال والتجريب والمغايرة فالذات والأغوار السحيقة للنفس والروح القلقة الضائعة المتشظية لا تلبث أن تطل من ثنايا النصوص.

> كثيراً ما يبدو الحب في قصائدك وكأنه مأزق وجودي أو حالة تبعث على الحيرة كما في قولك «لا أجد ما يليق بك / كل الكلام معاد / والمجاز أصبح مطية التجريب والمغامرة / لا شيء حقيقي / والأكاذيب تركب المرسيدس والليموزين»... إذاً ماذا يفعل عشاق هذا الزمان؟

- سأبدأ من آخر جملة في سؤالك الكاشف، فهذا هو سؤالي المضمر الحائر بلا إجابة داخل تجربة الحب اليائس وكأنه حقاً مأزق وجودي على حد قولك وهو كذلك. إنه حب العالم الذي تمحور في حب فتاة أصبحت هي كل الكون والوجود والحياة، هي النهر والبحر والشاطئ واليابسة، هي المد والجزر والعاصفة، هي الوردة والعصفور، هي الضحكة والدمعة واللهفة. لقد أصبح الحب في هذا الزمن أعمق وأعقد، حب الوحدة والصقيع والاغتراب. ورغم كل ذلك، فإن الحب هو الحياة وهو صمام الأمان والتوازن النفسي.

> أنت أحد الأصوات البارزة على خريطة جيل السبعينات الشعري في مصر... كيف ترى تجربة هذا الجيل إجمالاً؟

- لا أحب أن أبدي رأياً في جيل أنتمي إليه لأن رأيي سيكون مجروحاً، كما أن بعض رموز هذا الجيل قد غادرت الحياة مثل حلمي سالم ورفعت سلام ومحمد عيد إبراهيم، وبشكل عام لا أحب أحكام القيمة، وأرى أن القارئ هو الحكم والفيصل في كل تجربة أدبية، كما أن كثيراً من المدارس الشعرية لعبت على الشكل واللغة والغموض في نرجسية منحرفة ولم تحفر عميقاً فيما هو وجودي وإنساني.

>هل تشعر بأن إقامتك بعيداً عن القاهرة حيث العاصمة وأضواؤها لم تجعلك تنال ما تستحق من تقدير، وهل تنظر وراءك في غضب؟

- أذكر أن مجلة «إبداع» الثقافية الشهرية المتخصصة، خصصت عام 1994 عدداً للإبداع خارج العاصمة، وكان المسؤول عن العدد الشاعر حسن طلب الذي نشر مقالاً بعنوان «نحن ضحايا أنفسنا» ألقى فيه باللوم على تقاعسنا عن خوض غمار الزحام باقتحام العاصمة وبقائنا في الأقاليم البعيدة نعبئ الشمس في زجاجات في انتظار «غودو» النشر والمجد والشهرة. نعم أنظر ورائي في غضب لأنني لم أستمع لنصيحة د. يوسف إدريس، الذي قال لي على هامش حوار أجريته معه لمجلة الكلية عام 1968، وقد كنت طالباً بالسنة الثالثة بطب الأزهر: «عليك أن تختار بشجاعة إما الطب وإما الأدب». وللأسف بوصفي فلاحاً فقيراً لم أكن أمتلك رفاهية ترك الطب وأيضاً لم أترك الأدب، وعشت ازدواجية أضاعت عليّ كثيراً في الجانبين كما سبق أن أوضحت.

> أخيراً، كيف ترى هجرة كثير من الشعراء إلى الرواية حتى إن منهم مَن ودّع القصيدة إلى الأبد؟

- هذا السؤال تحديداً يؤلب عليّ المواجع، ويعيدني لبداياتي، التي كانت سردية تجريبية، فقد كنت أكتب قصصاً موزونة وحكايات موقعة، كما كنت أول مَن كتب «القصة القصيرة جداً» في الستينات، وللأسف لم أوثقها بالنشر؛ لأننا كنا نربأ بأنفسنا أن نتسول النشر ونكتفي بقراءة ما نكتب في الندوات الأدبية.

هؤلاء الشعراء محقون بالخروج لرحابة السرد وفضاء الحكي وما وراء القص والفانتازيا والخيال العلمي إلى آخر كل ما تقع عليه عيناك ويصل إليه خيالك ويكون مادة خصبة للسرد، ومن ثم الجوائز والمجد والشهرة. بعضهم حصل على جوائز عربية مثل إبراهيم نصر الله، وجلال برجس الذي بدأ شاعراً، ونشأت المصري الذي طلّق الشعر وكتب 12 رواية، لكن سيظل للشعر سحره الخاص.


لمن يقرأ الشعراء قصائدهم؟

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري
TT

لمن يقرأ الشعراء قصائدهم؟

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري

كلنا يسمع سرديات الأدباء والشعراء وكيف كانوا يقرأون قصائدهم في أماكن عامة يحضرها المئات، بل الآلاف من المعجبين، أو الجمهور المتذوق للشعر، ويُروى أن أحد الشعراء العراقيين وهو محمد صالح بحر العلوم كانت الناس تحجز مقاعدها في القاعة التي يقرأ فيها شعراً قبل موعد الجلسة بساعات، وكان الجمهور يتتبع حركة الشعراء ومواعيد أمسياتهم ليرتّبوا جدولهم في الحضور في ذلك اليوم، وقد أدركت بعضاً من تلك الظاهرة أواسط التسعينات، حيث يُقام مهرجان المربد، وكنت شاباً صغيراً أحضر دون أن أُدعى، وكان المئات حاضرين ممن ليس لهم غاية سوى سماع الشعر والاستمتاع به، جمهور لا ينتمي إلى أي اتحاد أو رابطة أو وزارة، إنما جمهور من الطبقة الوسطى يتذوق الشعر ويتفاعل معه، وهذا الجمهور هو نفسه الذي يقرأ الصحف والمجلات، وهو نفسه الذي يستوقفك في مكان ما ليناقشك حول بيت قلته في قصيدة ما قبل سنوات، أو رأي طرحته في حوار لك في مجلة ما، قبل مدة من الزمن، هذا الجمهور الذي يحضر الأمسية الشعرية في شتى الظروف والأحوال، بل وصل الحال أن يمتلئ ملعب من الملاعب في إحدى أمسيات محمود درويش في عمَّان، فضلاً عن الفعاليات التي تنتمي إلى حقل الجامعة وحضور الطلاب فيها بكثافة عالية، أما الآن فالموضوع اختلف تماماً؛ ذلك أن الحضور هم أنفسهم الشعراء، فمنذ أكثر من عشرة أعوام ومن خلال تجربتي الخاصة، وهي تجربة أبناء جيلي في العراق وبقية الدول العربية، حيث اشتركنا بعشرات الأماسي والمهرجانات الشعرية في معظم العواصم العربية وفي بغداد والبصرة، والبعض منها تكررت أكثر من مرة، كان المشترك الوحيد بين تلك المهرجانات هو الجمهور، حيث يتكرر الجمهور نفسه في كل أُمسية وفي كل مهرجان، لا يندهش ولا يتأثر، حتى تحول الجمهور روبوتاً يحضر بشكل روتيني لهذا المكان سداً لفراغ ما، أو تلبية لحاجة قد لا تكون شعرية، إنما اجتماعية في المقام الأول، كلقاء الأصدقاء والأحبة، والأمر الآخر أن هذا الجمهور الذي نبحث عنه قد اختفى، حيث لم يعد لدينا جمهور شعري يسأل ويتابع ويحضر الندوات والأماسي والمهرجانات، إنما الجمهور في المهرجانات الشعرية في الأغلب هم أنفسهم الشعراء، يسمعون لبعضهم، ويتندرون على بعضهم، ويشتمون بعضهم ويصفقون لبعضهم، وهذا الأمر لا يرتبط بالعراق ولا بدولة دون أخرى مع بعض الفروقات والتمايزات، حيث وجدت معظم الجمهور الشعري في عواصم عربية متعددة هو نفسه الجمهور المتواجد في الفندق وهو نفسه الضيوف المدعوون إلا ما ندر.

نزار قباني

إن هذه الظاهرة، ظاهرة اختفاء الجمهور الشعري واستبداله بالشعراء أنفسهم، هي محل تساؤل، وهو أمر يكشف عن مرحلة من مراحل الثقافة العربية التي لا تكترث للأدب ولا للشعر على وجه التحديد، إنما سحبت أقدامها طرق أخرى غير الشعر، فهل للسوشال ميديا سبب في هذه الظاهرة؟ حيث انشغل الفرد منا بعالم الموبايل ووصل التوحد أقصاه في هذه الظاهرة؟ ربما...

أم أن ظاهرة الشعراء الكبار اختفت من المشهد؟ فلم يعودوا موجودين بيننا، فلا الجواهري ولا عبد الرزاق ولا البياتي ولا نزار ولا درويش ولا سميح ولا الفيتوري ولا مظفر ولا ولا، أولئك الشعراء الذين كان كل واحد منهم يشكل ظاهرة وحالة شعرية وحده، أولئك الشعراء الذين تغري أسماؤهم الناس ليملأوا أي قاعة مهما كبر حجمها، أم أن شعراء الحداثة أسهموا ببناء ذلك الجدار الكبير بين الشعر وبين الجمهور، حيث وصلوا مراحل من التجريب والانغلاق حد التعمية في الكثير من الحالات وبدأوا يصرحون أن الشاعر كلما كثر جمهوره انخفضت شاعريته، وهذا ما صرح به أدونيس في مرات عدّة، فهل هذا التصريح هو لدرء التهمة عن ضياع الجمهور الشعري وتشتته؟ أم هو إيمان مطلق بالفكرة التي تقول لا أهمية للجمهور؟ وإن كان الجمهور غير مهم لشعراء الحداثة، فعلام يصر رموزه أن يقرأوا في المهرجانات الشعرية والأماسي؟ ويمسرحون نصوصهم على المسرح حد الذوبان؟

محمد مهدي الجواهري

أم أن الجمهور تحولت طريقته في التلقي، فبدلاً من الحضور في القاعة وسماع الشاعر واللقاء به دماً ولحماً، سيذهب المتلقي إلى جهازه النقال ويتابع الأمسية على البث المباشر، ولا فرق ممداً في بيته أو في السيارة أو المقهى، وتحول التصفيق «لايك»، والهياج الذي يمارسه الجمهور تعليقاً، والإعجاب الشديد مشاركة المنشور، أم أن الشعر وتلقيه ارتبطا بمرحلة من مراحل صعود الآيدولوجيات في العالم العربي، فجميع الأسماء الشعرية التي ذكرتها أعلاه والتي لكل واحد منهم جمهور عريض، فإن كل شاعر من هؤلاء الشعراء يسحب جمهوره المؤدلج إلى حد ما إلى مساحته التي يدور في فلكها، حيث نجد جمهوراً يسارياً، وآخر قومياً، وآخر مناهضاً للاحتلال، وآخر لشتم الحكومات، وأظن بزوال شمس الآيدولوجيات الساخنة واستبدالها بالعالم الليبرالي واختفاء الجيل المؤسس وما بعده، فإن فكرة الشاعر المؤدلج الآن لن تنفع كثيراً ولن يكون لها جمهور كما كانت في الستينات والسبعينات، والآن لو رجع الجواهري بنفسه وشتم الحكومات فهل سيجد جمهوره الذي كان يلقي عليه في الحيدرخانة لينطلق به في مظاهرة في ساحة الميدان؟

محمود درويش

إن هذه الظاهرة تستدعي منا أن نقف لمراجعتها، لماذا اختفى جمهور الشعر؟ وإن وُجد فهو نفسه منذ عشرة أعوام أو أكثر، لا يقلون ولا يكثرون.

وما دعاني لرصد هذه الظاهرة تطوافي في مدن عربية عدّة شاركتُ في مهرجاناتها وأماسيها الشعرية، لم أجد تغييراً واضحاً في وجوه الجمهور الذي رأيتهم قبل عشرة أعوام، فهم نفسهم ثابتون ومقيمون ما أقام عسيب،

وما دعاني أيضاً إلى مناقشة هذا الموضوع، مجموعة صور نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد المهرجانات الشعرية قبل أيام، والتي كُتب عليها «مهرجان عالمي للشعر» في إحدى دول المغرب العربي، حيث تتبعت الصور التي التقطها الشعراء، ومن ثم صورة القاعة التي يقرأون فيها الشعر، فإذا هم انفسهم الجمهور، وهم لا يتجاوزون العشرين شاعراً، ومعظمهم أسماء معروفة وكبيرة، ولكن القاعة خالية إلا من الضيوف فقط، وهذا ما حدث معي أيضاً ففي إحدى الأمسيات كنت أنا وصديق لي شاعر سعودي مدعوَين لأمسية شعرية في إحدى الدول العربية، وقد نشرنا إعلاناً عن مكان وموعد الأمسية، وحين حضرنا لم نجد إلا سبعة أشخاص في القاعة، بحيث تذكرنا لحظتها مجلس العزاء الذي أقامه الفنان حسن حسني في الفيلم الشهير (كركر) بطولة محمد سعد (اللمبي) وحسن حسني، وهذا الموقف أعادني لعام 1997، حيث كنت رئيساً لرابطة الرصافة للشعراء الشباب، وقد أقمنا مهرجاناً شعرياً للشباب، حضر الشعراء وغاب الجمهور تماماً، ما الذي نصنع؟ جاءتني فكرة ساحرة، فقد ذهبت مباشرة إلى إعدادية للبنات قريبة من مقر الرابطة، ودخلت على المديرة وقلت لها بضرورة حضور شعبتين من الطالبات لهذا المهرجان، لم تمانع تلك السيدة ووجهت الشعبتين من ثمانين طالبة مع أستاذتين ترافقان الطالبات، وبالفعل، بعد دقائق توجهنا إلى القاعة وقطعنا الطريق، حيث نقود الطالبات حتى وصلنا القاعة، فامتلأت القاعة وغصت بالحضور، ونفش الشعراء ريشاتهم، لأنهم لم يروا جمهوراً أجمل من هذا الجمهور، فما إن تحرك يدك حتى تسمع التصفيقات الحارة بعد لحظة. ولو تركنا الجمهور الذي يحضر بدمه ولحمه إلى القاعة وانتقلنا إلى الجمهور الآخر، الجمهور غير الشفاهي القارئ، فهل سنجد جمهوراً قارئاً يبحث عن الشعراء ودواوينهم الجديدة ويتتبع تحولاتهم، طبعاً لن نعدم مثل هذه الظاهرة بالتأكيد، ولكن لن تكون ظاهرة واسعة ومؤثرة، بدليل سوق الكتاب الشعري ومنسوب انخفاض مشترياتها، وهروب معظم دور النشر من طباعة الدواوين الشعرية، وحتى وإن طبعت فإن سوقها لن تكون مزدهرة مقارنة بسوق الكتاب الديني أو الفكري أو حتى الرواية.فأين ذهبتم يا أبناء اللغة العربية؟ تلك الأمة الشاعرة التي يجري الشعر بدمهم ويتنفسونه مع كل شهقة، هل تركتم الشعراء يصيحون وحدهم في هذا العالم الموحش؟ والذين منذ اكثر من ألف وستمائة عام كان يصيح ملكهم الضليل:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

ليدرأ الوحشة عنه

فعلام تركتم الشعراء وحدهم كالأطفال

يلعبون باللغة دون أن يسمعهم أحد، ويبكون وحدهم بصمت، حتى جرحتهم العزلة وأصيبوا بالتوحد.


اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»
TT

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

صدر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامّة للكتاب» - «سلسلة الإبداع العربي» - ديوان «عصافير» للشاعر اللبناني سلمان زين الدين، وهو السّابع له، بعد «زاد للطريق»، و«أقواس قزح»، و«ضمائر منفصلة»، و«دروب»، و«أحوال الماء»، و«تفاح».

في الديوان يجتاز الشاعر عتبة الماضي، ويبحر بالزمن عائداً إلى أمس بعيد، لا يزال عالقاً بذاته الشاعرة، أو لا تزال هي عالقة فيه، لكنه لا يحتكر الحنين، إنّما يهيّئ القارئ لمشاركته الشعور نفسه، ويستنفر لديه طاقات التأمّل، ليتفكّر في رحلة أزلية تعبر المحطّات نفسها، تنطلق من سعادة البدء، وتنصاع إلى صيرورة المرور، ثم تنتهي بالذبول.

يمارس زين الدين في الديوان حنيناً لطفولته، لظلّ الأمومة، لمباهج تساقطت على أرصفة الزمن، وفي زوايا الطريق، وبين أقدام العابرين. وبينما يفيء للأمس، يتمرّد على الحاضر، وعلى قطيعٍ اعتاد الخضوع، مهابة مجهول يحمل في جنباته الربيع. يقتفي أثر «جلجامش» ابتغاء الخلود، فيسكن القصيدة. ويكتشف مخبأ السعادة التي تحتمي بالداخل، بعيداً من الخارج، من جحيم الآخرين، ويهدي رحلته المسكونة بالحنين إلى «عصافير غزة/ (الذين) لم يتّسع العالم لأجنحتهم/ فراحوا يحلّقون في العالم الآخر». ومن جوّ «عصافير»:

«العصافير التي تستوطن الحيّ/ كجيران الرضى/ آلَتْ على نفسها/ أن توقظ الحيَّ على أصواتها/ مُعْفِيَةً من فرضه اليومي/ طاووس الصّياحْ/ فغدا يغفو على الحلم بها ليلاً/ إذا نامت قناديل المساءْ/ وغدا يصحو على تغريدها العذبِ/ إذا ما استيقظت من نومها/ شمس السَّماءْ/ واستجابت لنداءات الصَّباحْ».

وسلمان زين الدين أديب وشاعر وناقد ومفتّش تربوي لبناني، له سبع مجموعات شعرية، وأحد عشر كتاباً في النقد الروائي، وكتابان اثنان في الأدب الريفي، وقد سبق له أن نال جائزة سعيد عقل للشعر من جامعة سيدة اللويزة عام 2015، وجائزة سعيد فياض للإبداع الشعري عام 2016.


انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل
TT

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

تنطلق فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من معرض الدوحة الدولي للكتاب، في مركز الدوحة للمعارض والمؤتمرات، خلال الفترة من 9-18 مايو المقبل، تحت شعار «بالمعرفة تُبنى الحضارات».

وأوضحت وزارة الثقافة القطرية، في بيان لها، أن المعرض سيشهد في دورته الثالثة والثلاثين أكبر مشاركة دولية في تاريخه؛ إذ يستقطب أكثر من 515 دار نشر من 42 دولة، إضافة إلى مشاركة ثقافية كبيرة لسفارات الدول الشقيقة والصديقة.

وأضافت أن سلطنة عمان ستكون ضيف شرف الدورة الثالثة والثلاثين من المعرض؛ حيث تشارك بجناح خاص وبرنامج ثقافي منوع، يبرز التراث العماني الأصيل والإنتاج الفكري والأدبي، ويقدم مجموعة من العروض الشعبية والفنية.

وقال الدكتور غانم بن مبارك العلي، وكيل الوزارة المساعد للشؤون الثقافية بالوزارة، في تصريح له، إن الإقبال الكبير من قبل دور النشر المحلية والعربية والأجنبية على المشاركة في معرض الدوحة الدولي للكتاب، يؤكد مكانته الثقافية والفكرية المرموقة على الساحتين الإقليمية والدولية، ويعزز دوره الرائد في دعم مسيرة الفكر والإبداع، وتعظيم الإنتاج الأدبي والمعرفي.

وأكد أن المعرض أصبح مناسبة جامعة لأنماط ثقافية متنوعة، ومنصة تفاعلية حية لتبادل المعارف والخبرات والأفكار المستنيرة، إضافة إلى تعزيز ثقافة القراءة، ودعم حركة النشر والتأليف، منوهاً في الوقت نفسه بأن اختيار شعار الدورة الحالية «بالمعرفة تُبنى الحضارات»، يعكس حرص وزارة الثقافة على تعزيز جهود نشر العلم والمعرفة والإبداع، بوصفها ركائز أساسية في بناء الحضارات.

ونوَّه العلي بالمشاركة المميزة لسلطنة عمان «ضيف الشرف»، من خلال تنظيم عروض ثقافية تراثية وشعبية عمانية، إضافة إلى الاحتفاء بالتراث الخليجي والعربي الأصيل، عبر عدد من العروض لأبرز الفرق المسرحية والفنية العربية، من سلطنة عمان ولبنان وغيرهما.

وأكد أن نسخة هذا العام من معرض الدوحة الدولي للكتاب تجني ثمار التطور الكبير الذي تشهده دور النشر القطرية، ضمن جهود دعم صناعة الكتاب والنشر والإبداع في الدولة.

كما يحظى المعرض بمشاركة خليجية وعربية ودولية مميزة، تتمثل في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، ووزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان، وهيئة الشارقة للكتاب، ومركز أبوظبي للغة العربية، ومعهد الإدارة العامة بالمملكة العربية السعودية، وجامعة طيبة السعودية، بالإضافة إلى وزارات الثقافة في كل من المغرب والجزائر واليمن والهيئة العامة للكتاب في مصر، فضلاً عن مشاركة الصين وأذربيجان وعدد من اتحادات الناشرين في موريتانيا والأردن وتركيا، ودور نشر أميركية وبريطانية.

وتشارك في فعاليات المعرض كذلك 8 مكتبات من سور الأزبكية التاريخي لبيع الكتب القديمة في مصر، وذلك في إطار اهتمام المعرض بإبراز التنوع الثقافي، واستقطاب أسواق الكتب التاريخية مثلما استضافت الدورة السابقة شارع المتنبي من العراق.

الفعاليات الثقافية

ويحتضن المسرح الرئيسي المقام ضمن فعاليات المعرض، باقة منوعة من الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية، إضافة إلى عروض مسرحية «كركلا» من لبنان، ومسرحية يومية ينظمها مركز شؤون المسرح.

ويولي المعرض اهتماماً خاصاً بفعاليات الأطفال، من خلال «واحة الطفل» التي تفسح للأطفال أفق التعلم والتفكير والإبداع، بطريقة ترفيهية جذابة من خلال أنشطة تفاعلية عدة، كما سيتم من خلال الصالون الثقافي تنظيم جلسات أدبية وفكرية تفتح نوافذ الحوار المعرفي بين المؤلف والقارئ، فضلاً عن احتضان حفلات تدشين الكتب.

ويتضمن برنامج الفعاليات المصاحبة لمعرض الدوحة الدولي للكتاب، مجموعة من ورشات العمل في مجالات متنوعة ثقافية واجتماعية ومهنية، إضافة إلى معرض للصور الفوتوغرافية، تحت عنوان «اقرأ» في جناح مركز قطر للتصوير.

ومن المقرر أن يستعرض مجموعة من الفنانين التشكيليين القطريين أبرز أعمالهم الفنية في جناح الفن التشكيلي والرسم الحر، بينما يقدم جناح الخط العربي أعمالاً منوعة تبرز جماليات الخط العربي.


تحولات المشهد الفني الأوروبي

تحولات المشهد الفني الأوروبي
TT

تحولات المشهد الفني الأوروبي

تحولات المشهد الفني الأوروبي

تسعى المفكرة الفرنسية كارول تالون هيغون Carole Talon-Hugon، في كتابها: «الفنان في رداء الباحث» (المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس، 2022)، إلى أن تجيب عن سؤال طالما أثار جدلاً في التحليلات النظرية بصدد الفن المعاصر، مفاده: هل يكفي الانتقال من بداهة «الموهبة» إلى العمل البحثي المتصل بالتاريخ والأنثروبولوجيا، وأحياناً بالفيزياء والبرمجة الرقمية، لتفسير سيرورة الفن المعاصر، واستيعاب مسعاه إلى محو الحدود بين الحسي والخيالي والحقيقي والزائف، والمعرفي والآيديولوجي؟ سؤال يُطوّر خلاصات عمل نقدي سابق لها، وهي المختصة في الجماليات والفلسفة المعاصرة، والأستاذة بجامعة السوربون، عنونته بـ«الفن تحت السيطرة» (2020)، حيث انتهت إلى اعتبار ما يُعرض اليوم في أروقة الفن المعاصر، من نيويورك إلى سيدني، ومن باريس إلى جنيف...، مقترحات بصرية تستدعي فعل «القراءة» أكثر من «المشاهدة»، اعتباراً لحجم مرفقاته من النصوص والمطبوعات، وبالنظر إلى تمركزه حول موضوعات فكرية وثقافية تضمر مواقف سياسية.

تختار الباحثة أن تسترسل في مواكبة تحولات المشهد الفني الأوروبي، في كتابها الراهن عن «الفنان في رداء الباحث»، وأن تبرهن بقدر غير يسير من الوضوح والسلاسة، عن فكرة الانسلاخ التدريجي لشخصية الفنان الغربي من هيئته الأصلية، المتسمة في غالبيتها بالاعتماد على ملكة الفعل الفني «الموهوب»، لأجل صياغة تحفة للعرض، عبر مسار دراسي يستهدف صقل موهبته وتطوير مهاراته؛ لينتقل إلى ممارسة تحاكي عمل الباحث في المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء في اعتماده على تكوينات متعددة الاختصاصات، والاشتغال على موضوعات بمنهجية دقيقة، ثم التدرج في تطوير الأبحاث، لأجل الوصول إلى تمثُّل أفكار ومعتقدات ووقائع في أفق إعادة تركيبها ونقدها.

ولأجل تحصيل هذا المأرب الاستدلالي، تنطلق الباحثة الفرنسية من مسار نموذجي، على الأقل في السياق الأوربي، متمثل في عمل الطباخ والفنان والباحث الإسباني فران آندريا Ferran Adrià، صاحب سلسلة المطاعم العالمية الشهيرة: «إلبوللي (elbulli)»، الذي استطاع أن ينشئ مساحة جدل وتقاطع أخاذة ومثيرة للتأمل بين التجريب الطباخي والبحث في الأشكال والأساليب، وممارسة الرسم والتصميم. وقد اتسمت أعماله التي احتضنتها مراكز عالمية للفن المعاصر، بغير قليل من الدعائية المقترنة بصلب عقيدة تلك المؤسسات الفنية. إنما المتن الإشكالي للكتاب سينصب على صلب ممارسة عملية البحث في حقل الفنون المعاصرة وتحديداً الوثائقية قبل الانتهاء إلى مراجعة المفهوم المخاتل لـ«البحث» و«الباحث» في هذا النطاق، الذي كان مستبعداً من حدود العلم والمعارف العلمية، قبل أن ينتهي به المطاف إلى الارتباط بمرجعياتها وقواعدها ومراميها؛ لا سيما في العقدين الأخيرين من هذا القرن، الذي شهد تحولاً مطرداً لكليات الفنون وكلياتها ومدارسها، من تدريس قواعد الإبداع الأكاديمية في الرسم والصباغة والنحت، إلى مؤسسات تنشغل بالأبحاث في مضامين الفنون وأساليبها ووظائفها الاجتماعية والسياسية وارتباطها بالتداول العملي.

تقسم الباحثة كتابها إلى 4 فصول. تحدد في الأول الوضع الراهن لطبيعة الممارسة الإبداعية في حقول الفن المعاصر التي تتسم بالتعقيد في علاقتها بالرهانات البحثية ذات الطبيعة العلمية. وترسم في الفصل الثاني المسار التاريخي لهذا التحول الجوهري، بينما تبسط في الفصل الثالث ملامح الامتحان النقدي لمفهوم الباحث في حقل الفن، وإمكانية نهوض الفن بأدوار العلم، اعتماداً على ما تقدمه الفنون الوثائقية من مواد قابلة للتحليل. وتختم في الفصل الرابع استعراضها لمقومات هذا المسعى بالتوقف عند ما بات يكتسح المؤسسات الفنية من انشغال باستلهام النموذج الجامعي، سواء باعتماد كليات ومعاهد الفنون الجميلة نظام شهادات مشابهاً، يمنح الإجازة والماستر والدكتوراه، أو استحداث متاحف عريقة لبنيات بحث، أسمتها «مختبرات» على غرار ما نجد في الجامعات.

ولعل الفرضية الأساسية التي ينهض عليها مجمل مباحث كتاب كارول تالون هيغون الأخير تتمثل في كون الفنان أصبح باحثاً موثِّقاً، بقدر ما صار الفن المعاصر وثائقياً، يمكن تلمس ذلك في التدفق الهادر للأعمال المصورة للحروب والأوبئة والزلازل... وما ترتب عليها من موجات لجوء وهجرات جماعية بين جغرافيات الكون، من فلسطين إلى تركيا، ومن لبنان إلى كوسوفو... أي أن الأعمال الفنية باتت تسعى إلى الكشف عن حقائق، ومعرفة أصولها ودقتها، دون أن تفارق غايات ثلاث، تتمثل أولاها في الطموح العلمي بالنظر إلى صلة العمل الفني بخطابه، وما يستتبعه الأمر من إعادة تنظيم الصلة بين العلم والفن. وتبرز الثانية منافسة الغايات العلمية للغايات الفنية، بينما تجلي الثالثة المأرب السياسي، لهذا النحو من العمل البحثي في حضيرة الفن، عبر تقديم مقترحات بصرية تمثل شهادات على جرائم إبادة جماعية أوحروب أو كوارث طبيعية.

هكذا تشكّل أسئلة الحدود ما بين أرضية البحث الوثائقي وقواعده، وتشكيل مدونة بصرية مستوفاة لكل مقومات العمل الفني الانشغال المركزي للكتاب، سواء في الممارسة الإبداعية أو النظر النقدي، إذ بتعبير الباحثة «يتقدم اليوم، تيار بارز من الفن المعاصر، وعلى نقيض الشائع، بما هو مؤسسة معرفية...، إنه التيار الذي يصل بين الأعمال المؤثرة في العلوم الاجتماعية، والمواد وأنماط العمليات والمحصلات النهائية» (ص 71). حيث يمكن العثور على المواد الأرشيفية والمستندات والشهادات، في صلب منجزات الفيديو والتركيبات السمعية البصرية، والتنصيبات ولوحات الكولاج، بشكل متصاعد، حيث يسلط الكتاب الضوء على أعمال ماري كوسناي Marie Cosnay ، وإريك بودلير Eric Baudelaire ، وجوليان سيروسي Julien Seroussi ، وآخرين، ممّن تتحول لديهم الوثائق الشخصية لملتحقين بالحركات الجهادية في سوريا، وأرشيف محكمة العدل الدولية في لاهاي، وشهادات الناجين من حروب الإبادة (في رواندا والسودان) إلى منطلق للاشتغال البحثي، قبل أن تحتل مركز التأليف الفني.

ومما لا شك فيه أن النصوص الموازية لهذا النوع من الاشتغال البصري، بقدر ما تنصرف لكي تمثل جزءاً من طبيعة العرض الفني المعاصر، فإنها تمثل بوصفها، هامشاً على مسار البحث الذي عبره الفنان وحوله بالإضافة إلى مؤلف بصري، بخلفية جمالية وأدبية، إلى صاحب وجهة نظر تاريخية وأنثروبولوجية، وأحياناً سياسية واجتماعية. من هنا سنجد - حسب الكتاب - أن «المسافة التي بدت واسعة في الوهلة الأولى بين البحث في العلوم الاجتماعية والإنجاز الفني سرعان ما ستتقلص، لا سيما داخل الأجناس البصرية المسماة وثائقية» (ص 69)، من قبيل الفوتوغرافيا الوثائقية، الممارسة أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، والفيلم الوثائقي، والتحقيقات الصحفية وغيرها.

صحيح أن هذا الرهان على جعل الوثيقة الجاهزة، بما هي مادة مرجعية فقدت صلاحيتها في الاستعمال الوظيفي، تجلى بوصفه هدفاً رئيسياً من جملة أهداف الفنانين المعاصرين لتوسيع مساحة السؤال عن «معايير التمييز بين ما يمكن اعتباره بداهة (فناً)، وما ينبغي استثناؤه منه» (ص 120)، إلا أن العمل على ابتداع وضع مستجد للوثائق خارج سياق إنتاجها، ومحاولة إنتاج دلالات متعدية في نطاق العمل الفني المعاصر لها، جعلا السؤال الفكري والجمالي أكبر من الحسم في الحدود، ومعايير التقدير الفني، إلى الهدف من العمل الفني نفسه، الذي ينبغي بمعنى ما أن ينخرط في إعادة فهم الأسئلة الكبرى وتحليلها: أسئلة الهوية والذاكرة والهجرة والعنصرية...، على نحو مغاير لما درج عليه الباحث في العلوم الإنسانية، إنما بمعارف ومرجعيات لا تقل قيمة وكثافة منه.

ثمة في المحصلة قناعة غالبة، بأن الأشكال الفنية المعاصرة المتصلة بـ«الوثائقيات»، تجد تعريفاتها وفهمها على نحو مزدوج ولا يشكل أي عقبة في التصنيف، إذ تعكس قاعدة من قواعد اشتغال الفنان المعاصر، أي الوجود في مساحة الجدل و«البين - بين» الذي يؤسس رمزياً لاحتمالات أكثر خصوبة للمنجزات الفنية المعروضة في الأروقة الممتدة عبر عواصم العالم الغربي، أي أنه يشيّد قواعد مغايرة لما بعد العمل الفني، الذي يمكن بسهولة النظر إليه بوصفه، على حد تعبير صاحبة الكتاب: «فنياً إلى أبعد الحدود، وعلمياً أيضاً بالمقدار نفسه» (ص 56).


السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر
TT

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

ليس من الإنصاف في شيء، أن يُبالغ في مدح رواية، تعاطفاً مع صاحبها حين تكون له تجربة أليمة، كما أنه ليس من العدل، أن يغمط أديب موهوب حقه، كي لا يقال إنه وضعه الاستثنائي كان وراء الاحتفاء به.

الرواية هي «قناع بلون السماء» وصاحبها الفلسطيني باسم خندقجي، الذي أعلن أمس (الأحد)، فوزه بالدورة الـ17 للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).

فأنت لا يمكنك أن تقرأ رواية «قناع بلون السماء» الصادرة عن «دار الآداب» لباسم خندقجي، المعتقل في السجون الإسرائيلية منذ عشرين عاماً، إلا وتعجب بهذا الشاب الذي يكتب بعد كل هذا العمر في الأسر، رواية يتنقل فيها بين المدن وفي الأزقة، ويحيك الخطط ويعيش قصص الحب، ويحاول أن يفهم ما يفكر به عدوه، ويتفاعل معه دون حقد، دون عدوانية، وكأنه يتخفف من نفسه، حدّ التبرؤ من الذاتية. كيف لأسير لا أمل له في الحرية، محكوم بثلاثة مؤبدات، ألا يجعل ظروف الاعتقال ومأساة الحرمان من نور الحياة، جزءاً من روايته. خندقجي يكاد لا يتطرق في روايته إلى الموضوع إلا لماماً، وكأنه يعيش حريته الكاملة التي لا تنتقص ولا تمسّ، لا بل هو وجد اللعبة الروائية المناسبة، ليتفلت من فلسطينيته ويعيش في جلد إسرائيلي لبعض الوقت.

«قناع بلون السماء» تروي قصة نور الشهدي الشاب الفلسطيني الذي تخرّج في المعهد العالي للآثار الإسلامية بجامعة القدس. تبدأ الرواية وهو يسجل رسالة صوتية لصديقه مراد القابع في السجن، يخبره فيها عن رغبته في الكتابة عن مريم المجدلية. هذه هي الإحالة الوحيدة إلى الأسر والسجون، والمناسبة التي تفسح له مجال الكتابة عن بعض ما يدور في نفس السجين أو محبيه. واهتمام نور بطل الرواية كما رغبته الجارفة في الكتابة عن مريم المجدلية، تحتل بالفعل جزءاً مهماً من رواية «قناع بلون السماء»، مما يجعلنا أمام تقنية كتابة رواية داخل الرواية، خاصة أن صديقه مراد الذي يحضّر لكتابه رسالة بحثية في السجن، يطلب منه أن يجلب له بعض المراجع، تماماً كما كان يفعل باسم خندقجي نفسه، حين يطلب من شقيقه أثناء زيارته أن يوفر له مراجع لكتابة روايته التي بين أيدينا.

لكن الموضوع الأساسي، يبدأ عند عثور نور بطل الرواية على هوية إسرائيلية داخل معطف قديم اشتراه، تحمل اسم أور شابيرا. وتأتيه فكرة أن يتقمص شخصية هذا اليهودي، مستغلاً أن ملامحه بيضاء تشبه الأشكناز، مما يجعله قادراً على العبور بسهولة إلى أماكن محظورة على الفلسطينيين. هكذا يتمكن نور من الحصول على بعض حقوقه المهدورة بسبب الاحتلال والتمييز. أما العبرية التي يتقنها فتصبح بالنسبة له «غنيمة حرب»، وهو يستخدمها ليدرأ كل شبهة يمكن أن تحوم حوله. يجد نفسه، والحالة هذه قادراً على التنقل بحرية والتجول في شوارع القدس وتل أبيب كما رام الله، وحيث يشاء، دون أن يستوقفه أحد. يقول لمراد: «عثرت على قناع واسم لأتسلل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولونيالي... أليس هذا ما يقوله صديقك فرانز فانون حول الجلود السوداء والأقنعة البيضاء؟»، لا بل هو يشعر وقد انتقل إلى شخصية أو أنه أصبح أشبه بـ«جيمس بوند».

بعد إقامة قصيرة في منزل الشيخ مرسي في القدس، وسيرة ذاتية مزورة المضمون باسم أور شابيرا، يتمكن نور من تحقيق بعض من حلمه بالالتحاق ببعثة تنقيب يترأسها البروفسور بريان، تضم أشخاصاً من عدة جنسيات، بينهم الإسرائيلية الشرقية أيالان من يهود المزراحيم، أصولها حلبية، تعجب به وإن اتهمته باستمرار بالتشاوف بسبب أصوله الأشكنازية. وضمن فريق التنقيب هذا سما إسماعيل من الداخل الفلسطيني، من حيفا تحديداً، وهي التي ستفتنه أول ما يسمع صوتها، وتوقظ فيه بفضل حسّ الهوية العالي لديها، إحساسه الكبير بالانتماء.

في مستوطنة مشمار هعيمق التي أقيمت على أنقاض قرية أبو شوشة الفلسطينية وزرعت فيها غابة لإخفاء كل أثر سابق، يدور جزء من الأحداث. هناك يقع نور في حب سما، ثم يكشف القناع عن وجهه الحقيقي، لكنها لا تصدقه، وتستغرب كيف له أن يتبنى الهوية التي أنفت منها وكافحت ضدها. لكن حين تتصاعد الأحداث في القدس، ويبدو نور على سجيته أمام سما، ويشعر الاثنان أنهما يقتربان من بعضهما بما لا يسمح بالافتراق.

التفاصيل في العمل كثيرة وباسم خندقجي مولع بهذا. لكنه ربما يتعمق ويكثر في سرد حكاية المجدلية وقضايا إيمانية مسيحية، حتى تستغرقه أكثر مما يحتمل قارئ رواية. نور في النهاية شغوف بكشف ما خفي من قصة المجدلية، يبحث دون كلل يريد أن يردّ على دان براون، وما جاء في روايته «شيفرة دافنشي» من أخطاء لا بد من تصحيحها، بينما يبحث أصحاب البعثة التي انضم إليها عن أشياء أخرى مختلفة تماماً.

البحث هو أحد أعمدة الحكاية. نور يبحث عن نفسه، عن هويته، عن المزاعم التي تنطوي عليها السردية الإسرائيلية، عما يدور في خلد أور، وكيف أنه مختلف عن نور، رغم أنهما يحملان الاسم نفسه بلغتين مختلفتين. هو في حالة بحث عن وقائع تاريخية، عن الآثار التي تخصص من أجلها، وصديقه مراد يبحث في العلوم السياسية، وكل يبحث عما يجعل حياته أكثر وضوحاً.

تذهب الرواية إلى الماضي، إلى التاريخ، لكنها تعود بنا إلى الزمن الحاضر، إلى أجواء سادت أثناء وباء «كوفيد»، والأحداث الأليمة التي رافقت محاولة تهويد حي الشيخ جرّاح، إلى «حماس» التي تهدد وتتوعد، بسبب ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات في القدس.

لعل التفاصيل جميعها، تصبح في نظر القارئ هامشية أمام المقاطع القوية التي تدخلنا إلى خوالج نور وهو يلبس جلد أور، يتحاور معه، ويتصادم، يعيش صراعاً عميقاً وعنيفاً. حقاً هي المقاطع الأمتع والأكثر تشويقاً، بحيث نلحظ أنه قادر على أن يتقمص شخصية أور، من دون أحمال مسبقة. الكثير من السماحة والكبر، والقدرة على لبس قناع الآخر، حتى ولو كان عدواً يضع الأصفاد في يديك، يقيدك ويضعك خلف الجدران نصف عمرك.

أسلوب سردي منساب، لكن الحيل الروائية، تخرجه من بساطته وتأخذه إلى حبكات متوالية، وكأن نور بقناعه يجتاز اختبارات واحدها تلو الآخر، ليترك لنا نهاية مفتوحة. وهي الخاتمة التي تبقى مشرعة، لتفسح لخندقجي الفرصة ليكمل رباعيته التي وعد بها. هكذا تصبح «قناع بلون السماء» مجرد جزء أول من سلسلة ستتوالى أحداثها. وهو ما يفسر، الحرص على بناء أحداث مركبة تساعد في فتح أبواب كثيرة قادمة. فكل تفصيل يمكن أن يكون ممراً إلى مكان جديد، يأخذنا إليه الكاتب بحنكته الروائية.

باسم خندقجي الذي لا يزال يقبع في سجون الاحتلال، تتم محاربته بسبب كتابه هذا بوسائل عدة، ويهاجم في الصحف العبرية، فقط لأنه افلح في نشر روايته ولاقت نجاحاً. وتعمل سلطات الاحتلال على مراكمة المخالفات عليه، كي تجبره على دفع ما فاز به ولا تترك له أي مكافأة مالية يحصل عليها، بعد أن فاز على اللائحة الطويلة ومن ثم القصيرة، لجائزة الرواية العربية. وهذه ليست روايته الأولى، كما أن خندقجي الذي اعتقل في 2 نوفمبر عام 2004 وكان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره، اصدر ديوانين، ونشر اكثر من مئتي مقالة، وهو يتغلب على سجنه بالحلم والبحث والتعلم، والترفع عن الألم، والكتابة وكأنه يعيش حياة الأحرار. وربما نفهم اكثر حين نقرأ ما كتبه في روايته، مخاطباً صديقه مراد الموجود في الأسر: «كم أحسدك يا مراد على سجنك الأصغر، لأن واقعك الحديدي هذا واضح الملامح مكون من معادلة بسيطة، لكنها قاسية: سجن، سجين، سجان... ولكن هنا في السجن الأكبر الأمور لم تعد واضحة».

الرواية تقع في 240 صفحة، جهد كبير صرفه الكاتب على جعلها غنية بالحيل الروائية، والمعلومات التاريخية، كما الاستشهادات الأدبية، ومحملة برموز ذات دلالات تزيد النص دسامة.

حين تقرأ كتابات باسم خندقجي، وأسامة العيسة، وعدنية شبلي وغيرهم من الكتاب، لا بد أن تعرف الأدب الفلسطيني الجديد، من ميزته وسط غابات الروايات العربية، إنه يتسم بالجدية، والحفر في المعاني، والحرص المستميت على جعله يليق بالواقع الفلسطيني.