مساحة لكتابة متغايرة

الشاعر الفلسطيني إيهاب بسيسو في «كن ضدك مرتين»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

مساحة لكتابة متغايرة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يتحرر بها الشاعر د. إيهاب بسيسو من ثقل الكلمات التي لبست كتفيه، وأنهكت تحمله، فيخبر قارئه ما عجز عن قوله الصَّمت بحروف ساكنة، لها ضجيج السُّكون الهادر، الذي ربَّما بحضرته انقسم ديوانه «كن ضدك مرتين» إلى أربعة مضامين: عند أول الذَّاكرة، أمكنة حادة، هر وسمكة وحكاية نمل، احتمالات ممكنة. الديوان صدر عن دار الشُّروق للنشر والتوزيع - رام الله 2015، وقد صمم غلافه الفنان محمد سباعنه.
يقفز الشاعر بقارئه عند أول الكتاب مناديًا: «المدينة التي تستمع إلى أنات صمتك وطن... المدينة التي تسرق صدى صوتك في الضجيج منفى» ثم تنحى صامتًا. بعد ذلك يستهل أولى قصائده مناجيًا وحدته «اكتب لك». في هذه القصيدة يحث الشاعر الإنسان على التعبير، سواء عن مشاعره أم أفكاره، ومخاطبة بل محاورة ما يدور في كنهه الخاص والضَّيق، بالإنصات إليه والتفاعل معه، دون اكتراث لقارئ لا يفهمه، أو يسيء الفهم، إنَّما يقول له: اكتب إليك؛ كي تكتمل ربما، هكذا كانت رسالته للقارئ، مبررًا ضرورة الكتابة كي لا يضل الإنسان فيه، فيجد الطريق بآخر النفق.
وهنا يصوَّر الشاعر الكتابة بقنديل يسهل الحياة المظلمة في ذات تمضي وتتخطى العثرات به. يقول: «اكتب لك / كي لا تفقد البوصلة / كلما عبرت بيتًا / ومدينة / وعشت في الحقائب شهرًا / أو قصيدة / وكن ضد موتك / حين تفاجئك العزلة بوجه عسكري غاضب / يحاول العبث بأحلامك / وقطن الوسادة».
يتابع قصيدته: «الآخر، ممسكًا بصوت - الأنا - في القارئ، الذي وجد الكتابة ملاذًا، وفيه يحاور القلب والعقل اللذين يتشاجران في جسد واحد به كثير من الأجهزة التي تعمل دونما توقف حتى الآن - دام قادرًا على الكتابة، فيتنحى عن دور المتفرج ويضع معطف الصَّمت جانبًا، ليتيح للقوة منه أن تشرق، يقول بجرأة، «كي أسألني: من أنا؟ / إن لم أكن سواي».
في قصائد: «خيارات»، «بحر»، «بحر مرة أخرى»، يحدث القارئ عن عالم آخر يخاف مجهوله من لم يتعلم الكتابة، يطلب منه الإبحار في أعماقه واصطياد ما استطاع من كنوز تسكنه، لا يراها ولا يعرفها، يحثه مرَّة أخرى ليكون ضدَّ ذاك الصَّمت فيحكي ويكتب ويقول للوقت العابر عن عمره تمهل! فأنا هنا واقف على باب الضَّياع أنتظرك، كحاجز أعددته للنَّجاة بما تبقى من حب وفكر وأمل، سأكتبه لمن مثلي يحتاجون إليه.
عند أول الذَّاكرة أكمل بسيسو مشوار قارئه مصطحبًا إياه «كحزمة ضوء في غرفة معتمة» محاولاً صياغة تعريفه للوطن الذي يراه ويريده كي يطمئن في منفاه وضياعه بين دوامة الأحداث: «لك وطن / يتكرر في التَّفاصيل اليوميَّة.. لك وطن / هو البلاد / وأنت / وحلم يملأ مسامك بالهواء / المشبع بالأمنيات / فتكتب لتحيا / وتكتب لتتذكر.. ويختم: «لك وطن / هو المعرفة / كلما بحثت عن اسم إضافي للورد / أو كناية أخرى للموج / والبحر / ومهد الولادة / والصَّوت». أمَّا قصيدة «خريف» يحكي بها عن الوحدة والحاجة للحب في عتمة مدينة كسرت أجنحة تفاصيلها الحروب.
* أمكنة حادة
يتطرق الشاعر إلى جغرافيا المكان في ذاكرة الكلمة وعلى رفوف الورق رتَّب ألوان أحباره، محاولاً جمع ظلال الصور وما تبقى من القتلى بعد زلزلة حطام النسيان على شفا نهاية سبقت طوفان الأسئلة، يمسح بالكتابة عن خد المدن نزف حروبها، وعودة للبلاد وأخبارها، مؤكدًا على ضرورة الكتابة. تحاصره نشرة الأخبار المصبوغة بالأحمر تعصف الأصوات برائحة بيوت مهدومة وأحلام تنهار أمامك متعجبًا، أهي حقيقة أم خيال، أنت حي أم ميت! تهرب لهاتفك فلا تجد سوى الموت، وأسماء تتساقط بغزارة، هكذا ببساطة هي الحروب تأكل الطفل وتمضغ الشيخ فتعدم الشباب ببرودة باهتة، قاسية تلك الأماكن الفكرية التي وصفها بسيسو متأملاً ومتألمًا بمعانيها.
ويرجع الشاعر لمشاعر الوحدة التي ظهرت بوضوح خلال معظم قصائد ديوانه، مثل قصيدة «هر»، حيث بين الواقع والغياب ظل من الحنين يتفتت على صمت الأسئلة التائهة عن إجابات كانت لها وربما بقيت لها أيضًا.
أما قصيدة «سمكة» فقد صور الوقت على أنه سمكة، والسمكة في التأويل كسب، ودلالة ذلك أن الوقت ثمين، والوقت عنده الكتابة أيضًا، أما اليد فكانت قلق صياد يتساءل عما لم يكتبه حتَّى الآن: «أي نهر ألقى بها في مصب عزلتي؟».
احتمالات ممكنة؛ قصيدة - كغريبين يلتقيان في الصدى - «هو» من جديد يلئم جراحه بكتابة أصداء وحدته، حيث تنهار الريح، ويجلس وحده متحررًا منه، ليلفظه كغريق يخرج من البحر إلى شاطئ مهجور، يؤكد وحدته بعد النجاة شبه الحقيقية، كاحتمال ممكن جاءت قصيدة «أنت» فكانت ذات بعد فلسفي توحد به الشاعر مع نفسه، والقلم ملجأه الأخير، في وحدته التي ما اختارها، كأن يجتمع في قصيدة ما، فيلملم أجزاءه المتفتتة على سطح زمن بلوري مشحونًا بالصمت والغياب. شرفة، بيت، جناح، فضاء، تمثال من برونز - الوحدة من جديد متكررة في قصائده، بل مسيطرة على كل المشاهد، والرغبة باحتضان ابنة، ربما بالمنفى، مدن وحكايات، حب يولد من رحم الحصار، أمل يجمعهما، يركضان صوب الشمس، تخرج الروح من تمثالها البرونزي، وتسأل: ما الذاكرة؟ ما الحاضر؟ تجيب أنت: بكاء، تمد يدك واهمًا بحياة الوردة، فتمنحك سر البلاد ويسقط المطر، فتكتب: «وحدك في الحديقة / تتأمل العابرين / دون حراك / كتمثال من برونز / يجلس في وضع القرفصاء / يحمل في يده وردة / كأنه على وشك أن يقدمها لطفلته الغائبة».
* مشاعر مختلطة
الصباح عند بسيسو كان مختلفًا: «الصباح / بلاد على أوراق الصُّحف / تتحرر من حبر ملون وصور / ومن صدى رصاص بعيد / وأسماء / يظل المشهد البعيد من الذاكرة / وأراني / كأنني أستعيدني من كهولة وقت بطيء / يسافر مرتبكًا بين وجهين». تجول بسيسو بين تفاصيل المدينة كرواية إضافية عن مدينة ومشهد لعازف كمان، فتاة، سائحة، أم مبشِّر، رجل وامرأة وشرطي، حيرة سيطرت على النَّص، وقلم أطل من مسافات بعيدة، كأنه يستعيد بلادًا من الوقت، أبعد من هذا الطريق الواصل بين غيمتين، هكذا واصل الشاعر نظم ديوانه، بين واقع ذكر لنا تفاصيله الدقيقة، وحلم متخيل يشي برغبة في وطن واستقرار للحب، أسقط بديوانه فلسفة خاصة، برزت عنده أحاديث - الأنا، الوقت، الوحدة، المنفى لم يبتعد كثيرًا في رسائله عن مدن ومدن، فرق حجارتها الحصار، وما زال صوت الرعد وصدى المنفى يغزو ذاكرة شاعرنا منهمرًا بالأسئلة كلما انحصر في مقهى فضمته الأبخرة، وأمام زجاج شفيف رأى من خلاله الفراشة، وتبقى القصيدة له شفاء.
يختتم الديوان بمشاعر مختلطة: قلق جعل منه كهلاً قبل أوانه، مدينة مجروحة قدمها للحبيبة، وقت يسابقه فيمنعه عن ممارسة حياة طبيعية يريدها، وكلمات يغطي معانيها بالأمل، مانحًا إيانا مساحة لكتابة متغايرة.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.