باومان... نصير الإنسان العادي في مواجهة العولمة

المفكر البولندي الأصل رحل عن 91 عامًا بعد أن قبض «على تلابيب القرن العشرين»

باومان.. عمر في فك طلاسم التاريخ
باومان.. عمر في فك طلاسم التاريخ
TT

باومان... نصير الإنسان العادي في مواجهة العولمة

باومان.. عمر في فك طلاسم التاريخ
باومان.. عمر في فك طلاسم التاريخ

لم تشهد البشرية في عمرها المديد قرنًا مكثفًا من التحولات كما القرن العشرين بكل مآسيه وحروبه وأحلامه المجهضة. وإذا كان هنالك ثمة فيلسوف معاصر واحد يمكن أن يقبض على تلابيب هذا القرن العشرين فيصفه ويفسره ويكشف عن سوءاته المتلونة بشعارات التقدم والحداثة والحياة الأفضل، فلن يكون دون شك سوى زيغمونت باومان (1925 - 2017)، الفيلسوف البولندي الذي رحل في ليدز البريطانية يوم الاثنين الماضي عن 91 عامًا، والذي يستحق أن يكون «شامان» قبيلة البشر في فك طلاسم التاريخ.
عرف باومان - نصير الإنسان العادي في مواجهة العولمة وفجاجة المؤسسات وتحولات الأزمنة - بقدرته على طرح فلسفته الشديدة التعقيد بلغة واضحة بسيطة يمكن أن يفهمها معظم المتعلمين، رابطًا في تفسيره للتاريخ والأحداث والمشاعر الإنسانيّة بين معطيات عدة معارف - تاريخ واقتصاد وفلسفة واجتماع وسياسة وعلوم - دون الوقوع في فخ الاختصاص المقيت.
وضع بومان تفكيره الفلسفي، وهو الآتي أساسًا من قلب علم الاجتماع، في نحو ستين كتابًا وعشرات المقالات التي لقيت انتشارًا واسعًا في العالم الغربي سواء بين المعنيين بالثقافة المعاصرة أو حتى في الأوساط الشعبيّة المهتمة بفهم مختلف لواقعها الكئيب، وقد ترجمت أعماله إلى معظم اللغات الحيّة وظهر بعضها بالعربيّة حديثًا.
تمثّل أعمال بومان في مجموعها منظومة نظرية فلسفية نقدية متكاملة لفهم تجربة الوجود الإنساني في القرن العشرين قد توازي في أهميتها المشروع الهيغلي المهم في بناء تصورنا للعالم كما كان في القرن التاسع عشر، وهو وإن لم يقدّم برنامجًا لتغيير العالم كما كان يعيب كارل ماركس دائمًا على الفلاسفة، فإنه دون شك تجرأ على وضع الواقع المعاصر أمام قفص الاتهام ناقدًا كل مراحل التجربة من الحداثة وزمان «اليوتوبيات» الكبرى، إلى فترة خلو العرش - على حد تعبيره - وهي «فترة تعطلت فيها الممارسات القديمة، فلم تعد تصلح فيها أنماط العيش ولا نظم المعرفة لعالم الحداثة في التعامل مع الوضع الإنساني المستجد، لكنها أيضًا فترة لم تشهد ميلاد ممارسات جديدة قادرة على التعامل مع الظروف الناشئة».
اتسم نقد بومان للحياة المعاصرة بتجنبه الوقوع في شعور المرارة الذي يسم كتابات نقاد الحداثة المعاصرين الآخرين، وهو في ذلك تولى تقديم رؤية متوازنة اجتهدت في فك الالتباسات بين المتعين والواقعي مع المتعالي والمتخيّل (ربما دون طرح بدائل محددة)، لكن دائمًا دون إسقاطنا في لجة خيبات الأمل، متأثرًا في تكوينه الفكري بمنهجيّة التفكير الماركسي، موظِفًا الجدليات كصيغة لفهم الحاضر. وقرأ لاحقًا ميشال فوكو وأعمال أنطونيو غرامشي فاكتسب منهما النهج النقدي في التعامل مع الدولة الحديثة بشكلها البرجوازي أو الشيوعي. كان كتابه عن التجربة العماليّة في بريطانيا (1960) مفتاحًا لدخوله ثقافة الغرب بقوة من خلال ترجمته الإنجليزيّة، ثم توالت أعماله عن الحداثة والعقلانية والبيروقراطية والهولوكوست، لكن مشروعه الفكري الأهم قد تشكل في التسعينات بعد تقاعده من العمل الأكاديمي، الذي تمحور حول نظريّة ما سماه بالحداثة السائلة (اصطلاحه لوصف ما سماه آخرون بمرحلة ما بعد الحداثة) معتبرًا أن ميوعة الهويات والزمان والمكان والمجتمعات المعاصرة نقيض لصلابة الحداثة التي كادت أن تكون نهاية للتاريخ، لكنها (أي الحداثة السائلة) تعجز عن أن تقدم تصورًا عن حياة أفضل.
وقد انشغل في أيامه الأخيرة بمشكلة تراجع الاهتمام بالشأن العام أمام تغوُّل الخاص والشخصي والفرداني في ظل سيطرة المنظومة الرأسماليّة على المجتمعات. وهو في مقالته الأخيرة انتقد النيوليبرالية الحديثة بوصفها أنتجت الشعبوية الطاغية في الغرب هذه الأيام.
من ناحية أخرى، قدّم باومان (وهو المنحدر من أبوين يهوديين) تفسيرا نقديا لموضوع «الهولوكوست» في إطار معرفي محض وبغض النظر عن الوقائع التاريخية التفصيلية المختلَف عليها، رافضًا حصر أسباب أكبر مذبحة معاصرة ارتكبتها أوروبا ضد أوروبيين داخل أوروبا ذاتها بالمسألة اليهوديّة تحديدًا، بل جعل المأساة نتاج «الدولة الحديثة» التي من خلال احتكارها للعنف ووسائل القوة والإلزام والقدرة على منح العيش أو فرض الموت، والتفويض المقونن للتحكم بأجساد «المواطنين»، وسعت مفهوم الكائن (المستباح)، حيث ثمة غرباء غير مرغوب بهم في كل مجتمع، لكنهم في دولة المؤسسات البرجوازيّة صاروا خاضعين لسلطان أناس عاديين غير فاسدين ربما وغير متحاملين، لكنهم قادرون على الاشتراك بكل إخلاص وإتقان في إبادة آخرين (مختلفين)، كجزء من أداء واجبهم ووظيفتهم، ودون أن يتعارض ذلك مع أي أخلاقيات أو مبادئ.
وُلِد بومان في بولندا لعائلة فقيرة عانت شظف العيش وموجة العداء لليهود معًا فدفعه البؤس إلى الشيوعية. هاجرت عائلته إلى روسيا إثر الاجتياح النازي لبولندا عام 1939، وهناك التحق بالتشكيلات العسكرية البولندية التي شكلها السوفيات، وحصل على نوط الشجاعة وهكذا رُقِّي بسرعة ليصبح في أوائل الخمسينات أصغر ضابط يحمل رتبة لواء في الجيش البولندي قبل أن يُطرَد من الخدمة بسبب شكوك عن استعلام والده عن الهجرة من السفارة الإسرائيلية في وارسو، ولم تشفع له عضويته في حزب العمال البولندي الشيوعي في ذلك.
ربما كان ذلك القرار بطرد بومان أفضل ما قدمه الجيش البولندي للعالم المعاصر، إذ انتقل بومان من الحياة العسكرية عديمة الأفق إلى الحياة الأكاديمية فدرس علم الاجتماع والفلسفة في جامعة وارسو، وتتلمذ على يد جوليان هوتشفيلد (أحد أهم منظِّري الاجتماع الماركسي)، ثم درّس فيها قبل أن يطرد منها في موجة تطهير شنها النظام البولندي في 1968.
اختارت العائلة الهجرة إلى إسرائيل فدرس في جامعاتها لفترة قصيرة، لكنه لم يحتمل العيش فيها، وانتقد بصوت عالٍ معاملتها للفلسطينيين واصفًا الضفة الغربية بأنها أشبه ما تكون بـ«غيتو وارسو سيّئ الذكر»، فانتهى إلى هجرة أخرى نحو ليدز في بريطانيا التي احتضنته جامعتها حتى تقاعده عام 1990 وأقامت معهدًا فلسفيًا متخصصًا باسمه، إلى أن مات هناك بمنزله محاطًا ببناته وأحفاده وزوجته الثانية التي نَعَتْه بقولها: «لقد غادرنا زيغمونت إلى الأبديّة السائلة».
غاب زيغمونت بومان حقًا عن عالمنا، لكن مشروعه الفكري سيبقى دون شك دليلاً عمليًا لكل من يتصدى لمهمة تفكيك وفهم تحولات الأزمنة وتقلبات التاريخ خلال العقود المقبلة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!