عندما كان طرد تنظيم داعش من مدينة تدمر القديمة وشيكًا في شهر مارس (آذار)، تلقى إيف أوبلمان مكالمة هاتفية من المدير العام للآثار السورية يطلب منه سرعة الحضور. كان أوبلمان، وهو مهندس معماري بالتدريب يبلغ من العمر 36 عامًا، قد عمل في سوريا قبل اندلاع الحرب في البلاد، لكن باتت هناك حاجة ملّحة للعمل الذي قام به من قبل فريقه من المعماريين، وعلماء الرياضيات، والمصممين الشباب من مكاتبهم الصغيرة في باريس، وهو إنتاج نسخ رقمية من المواقع التاريخية المهددة بالدمار والخراب.
لا تزال تعجّ مدينة تدمر، التي قوّض الإسلاميون بالفعل أجزاء منها من منطلق أن هذه الآثار أوثان، بالمتفجرات. لذا قضى هو، وزميله السوري همام سعد، أربعة أيام في تشغيل طائرة تعمل من دون طيار مزودة بكاميرا آلية لتحلق أعلى الأقواس والمعابد المتداعية المهدمة.
وقال أوبلمان، مؤسس شركة «إيكونيم»: «تستطيع الطائرات التي تعمل من دون طيار المزودة بمحركات، يتراوح عددها بين أربع وست، التحليق على مسافة قريبة جدًا، وتسجيل التفاصيل الخاصة بالبناء، وكذلك كل صدع وفجوة، ويمكننا بذلك معرفة القياسات بدقة كبيرة. هذه هي الأمور التي يحتاج إليها المهندسون المعماريون، وعلماء الآثار». إنهم بحاجة إليها لتحقيق تطور جديد باتجاه الحفاظ الافتراضي على الآثار وهو ما يقوم به هؤلاء العلماء والأثريون وغيرهم، مثل أوبلمان على نطاق واسع. يمكن استخدام هذه المعلومات المسجلة في عمل نماذج بالكومبيوتر توضح كيف يمكن ترميم، أو إصلاح، أو إعادة بناء الآثار، والمواقع التاريخية المهددة بالدمار، يومًا ما.
تحظى المواقع القديمة في سوريا والعراق، وهما بلدان عانا من ويلات الحرب، والنهب، وتنظيم داعش، باهتمام خاص اليوم. وقال أوبلمان: «لقد كانت مدينة تدمر صعبة للغاية». وأضاف قائلا: «كان الإرهابيون ينشرون مقاطع مصورة يظهرون فيها وهم يفجرون الآثار، ويحطمون التماثيل، من أجل التلاعب بالرأي العام وتضليله... لقد كنا نشعر أن أفضل رد على هذا الأمر هو تكبير صور هذه الأماكن، وإظهار مواطن جمالها، وأهميتها بالنسبة للثقافة... لقد تحول الأمر إلى حرب صور».
وكانت آخر الجبهات في تلك الحرب هي قاعات العرض داخل القصر الكبير في باريس، حيث تم عرض نحو 40 ألف صورة التقطها هو وفريق عمله في مدينة تدمر. وكان المعرض، الذي حمل اسم «مواقع أبدية: من باميان إلى تدمر»، الذي يستمر حتى يوم 9 يناير (كانون الثاني)، يهدف إلى جذب الانتباه إلى الأخطار المتنامية التي تهدد التراث العالمي. ولتأكيد الأهمية السياسية للمعرض، قام الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بافتتاحه منذ بضعة أسابيع واصفًا إياه بـ«فعل مقاومة» للإرهاب، والتعصب، والرجعية. وقال إن جمال تراث منطقة «الشرق الأوسط» «هو أفضل طريقة للرد على حملة الكراهية، والدمار، والموت التي يشنّها الإسلاميون». قال جان لوك مارتينيز، مدير متحف اللوفر، وكبير أمناء المعرض، إنه تم اختيار تلك المواقع «لأنها تتعرض جميعها لتهديد بالنهب، أو الإهمال، أو الدمار، وغير مفتوحة للجمهور». وأشار إلى أن هدف المعرض هو حشد الرأي العام «في مواجهة الدمار الذي يتعرض له هذا التراث الفريد».
إلى جانب الصور، التي تم التقاطها في مدينة تدمر، يظهر في العرض متعدد الوسائط صور فوتوغرافية ضخمة ثلاثية الأبعاد، ومقاطع مصورة، تصطحب معها الزائرين إلى حقب زمنية مختلفة، ومن بينها صورة لمدينة خورساباد العراقية القديمة عام 700 ق.م تقريبًا، وصورة لمساجد في دمشق خلال القرن الثامن الميلادي، وصورة لقلعة مسيحية تعود إلى حقبة العصور الوسطى.
وقال أوبلمان ردًا على الانتقادات الموجهة لهم بالتعاون مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد: «لقد كنا نعمل من أجل الصالح العام، لا لصالح أي حكومة، بل لمساعدة علماء الآثار». وأوضح أنهم قد أطلعوا علماء الآثار السوريين على عملهم، وأضاف قائلا: «نحن أيضًا ندرب زملاءنا بحيث يتمكنوا لاحقا من القيام بالعمل بأنفسهم».
الأمر الأهم هو الذاكرة، واحتمالية الترميم. وقام فريقه خلال العام الماضي بتشغيل طائرات من دون طيار لتحلق فوق أكثر من 20 موقعا تاريخيا في سوريا؛ وانتقل الفريق مؤخرًا إلى المناطق التي تخضع لسيطرة الأكراد في العراق، بالقرب من الخطوط الأمامية في القتال ضد تنظيم داعش. ويعكف الفريق حاليًا على تحليل تأثير الحرب على آثار المدن التي كانت يومًا ما زاهرة ومزدهرة، والتي يعود تاريخها إلى نحو 3 آلاف عام، ومن بينها نينوى، وخورساباد، ومعبد، وقصر النمرود، اللذان تعرضا لضربات وهجمات، واللذان نجحت الحكومة في طرد الجهاديين منهما خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
الجدير بالذكر أن الإسلاميين قد نشروا خلال عام 2015 مقاطع مصورة يظهر فيها مسلحون وهم يستخدمون مطارق ضخمة في تكسير وهدم تماثيل على شكل بشر، وثيران مجنحة أسطورية، في إطار حملتهم ضد الأوثان. وقالت ليلى عبد الكريم، معمارية سورية، وهي تحلل الصور الفوتوغرافية التي التقطت جوًا: «لقد كانت مدينة نمرود أروع المدن السورية».
لا يعد استخدام الطائرات، التي تعمل من دون طيار، في مجال الآثار بالأمر الجديد تمامًا، على حد قول متخصصين، لكن قال باحثون من أوروبا والشرق الأوسط خلال اجتماع عقد مؤخرًا في باريس إنه بات عليهم الآن ممارسة «العمل الأثري في أوقات الحرب» وهو جمع بيانات ومعلومات من مناطق صعب الوصول إليها. وتبين أن الصور، التي تم التقاطها بواسطة الطائرات من دون طيار في مناطق الحرب، ذات قيمة كبيرة جدًا. مع ذلك لا يعد هذا سوى غيض من فيض، فقبل الحرب، كان عدد المشروعات الأثرية في سوريا فقط يقترب من 150 على حد قول باحثين. ويحاول خبراء من دول كثيرة تقييم حجم الدمار، الذي لحق بالمدن السورية القديمة، وكذا بالمنطقة التي كانت يسيطر عليها تنظيم داعش، والتي كان جزء منها في سوريا، والآخر في العراق، والتي يُنظر إليها باعتبارها جزءا أساسيا من تاريخ البشرية، وكثيرًا ما يطلق عليها مهد علم الاقتصاد الحديث، والكتابة. وقالت باسكال بوترلين، أستاذة علم الآثار في جامعة السوربون بباريس: «يتبادل الناس الصور والبيانات الملتقطة عبر القمر الاصطناعي على المدونات وغيرها من المنصات، والمنابر البحثية، لكن ليس لدينا تقييم حقيقي بعد بسبب عدم إمكانية الوصول إلى كثير من المواقع القديمة». ويقول بوترلين إن الزمن يتمتع بأهمية جوهرية حتى في حالة الآثار التي يعود تاريخها إلى 5 آلاف عام. وقد رأس بوترلين بعثات إلى مملكة ماري، بالقرب من الحدود السورية العراقية، لمدة تزيد على 20 عاما، وقال إنه قبل هروبه، ذكر الحرس في منطقة ماري أن هناك سارقي وناهبي آثار قادمين من العراق، وأوضح قائلا: «نحن بحاجة إلى أن نعرف ما الأماكن التي تحتاج إلى استقرار، وكيف قام ناهبو الآثار بتغيير شكل المواقع... يمكن أن تختفي الأدلة المهمة، مثل الحفر السرية، سريعًا بفعل العواصف الرملية والتآكل».
على الجانب الآخر، أكد شيخموس علي، عالم آثار سوري مقيم في فرنسا، أسس جمعية حماية الآثار السورية، وهي جمعية دولية، استمرار ورود التقارير التي تشير إلى حدوث عمليات نهب منظمة. ويوضح أن الموجة الأولى من النهب قد بدأت عام 2012. وتسارعت وتيرة عمليات السرقة منذ عام 2014 مع وصول تنظيم داعش إلى المنطقة. وفي الوقت الذي كان الجهاديون متحمسين فيه لتدمير الأعمال الأثرية الفنية، كانوا يسمحون لناهبي الآثار بالعمل مقابل المال. وقال علي إنه قام بعمل إحصاء يتغير باستمرار للمتاحف التي تم قصفها، والآثار التي تم نقلها، والخزائن التي تمت سرقتها.
ويتزامن المعرض، الذي أقيم في باريس، والذي يجذب جمهورًا عريضًا، مع معرض آخر يحمل اسم «التاريخ يبدأ في بلاد الرافدين» يقام في فرع متحف اللوفر في مدينة لانس. ويسلط كلا المعرضين الضوء على اهتمام الحكومة الفرنسية بما يحدث من دمار ثقافي في سوريا، التي كانت تخضع لسيطرة فرنسا خلال النصف الأول من القرن العشرين. وقد أبدى الرئيس هولاند اهتمامًا كبيرًا، وأدان التدمير الذي تُلحقه كل الأطراف المشاركة في الصراع عمدًا بالآثار والتراث، واصفًا إياه بـ«جرائم حرب». وعرضت فرنسا خلال الشهر الماضي المساهمة بمبلغ 30 مليون دولار في تمويل قيمته مائة مليون دولار مخصص لحماية المواقع الأثرية بعدما تخف حدة القتال، وكذلك عرضت توفير مخازن للأعمال الفنية والأثرية، وكذلك عرضت القيام بعملية ترميم للآثار.
كذلك أكد الرئيس هولاند، خلال افتتاح معرض «مواقع أبدية» في القصر الكبير، أن فرنسا سوف تستقبل مزيدا من اللاجئين السوريين، مشيرًا إلى أن محاولة حماية الآثار، ذات الأهمية التاريخية والثقافية العظيمة، لا تعني تجاهل معاناة سكان البلد وأهلها. وتساءل قائلا: «هل ينبغي أن نقلق بشأن التراث؟ ما الأهم، إنقاذ حياة البشر أم الحفاظ على الأحجار؟ في الواقع لا يمكن الفصل بين الأمرين».
*خدمة: {نيويورك تايمز}ـ