تتفاخر إيران أنها تقدم دعمًا لا محدودًا وغير مشروط لكل فصائل المقاومة الفلسطينية على طريق تحرير «القدس»، وتدعي أن بوصلة المقاومة هي التي تحدد علاقتها بالآخرين، بما في ذلك تقديم الدعم السياسي والمالي؛ وهذا ما يفسر لسنوات طويلة سابقة لماذا كانت علاقة الإيرانيين باردة مع السلطة الفلسطينية وجيدة مع حركة حماس، قبل أن تجرب حماس بنفسها ما جربته حركة فتح طيلة السنوات التي كانت فيها حركة مقاومة وليست سلطة على الأرض، وينكشف أن الواقع مختلف عن الشعار.
لقد حمل عام 2016 كثيرا من التطورات التي كشفت إلى حد كبير كيف أن دعم الفصائل الفلسطينية كان في حقيقة الأمر مرهونا بمواقف سياسية، وليس بغبار المعارك.
الدعم المشروط
بالعودة إلى الوراء، يذكر الفلسطينيون كيف أدارت إيران الظهر للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على الرغم من أنه كان أول من حطّ في طهران بعد الثورة الإيرانية، والسبب أنه لم يتبن لاحقًا موقفًا معاديا للعراق إبان الحرب بين البلدين. وهم يذكرون أيضًا كيف لم تحرك إيران ساكنًا لنجدة عرفات عندما حاصرته إسرائيل في بيروت عام 1982، بل ذهبت بعد ذلك ميليشيات شيعية بايعت الخميني لارتكاب مجازر في المخيمات الفلسطينية.
هذا العداء لعرفات استمر حتى بعدما حوصر في رام الله وقضى في باريس عام 2004، ولم تغفر كل هذه السنين وكل هذه الحروب مع إسرائيل، للزعيم الفلسطيني الذي استغلت إيران توقيعه ببداية التسعينات اتفاق سلام مع إسرائيل، بل صار في نظر طهران «خائنا».
ومع أن العلاقات بين إيران من جهة، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي من جهة ثانية، ظلت متقدمة وجيدة لسنين طويلة بخلاف العلاقات مع حركة فتح، إلى الحد الذي نجحت معه إيران في ضم الحركتين إلى ما تسميه «محور المقاومة والممانعة»، أيضًا يضم سوريا وما يسمى «حزب الله» اللبناني، فإنها عند أول اختلاف في الرأي حول الأزمة السورية، ومن ثم اليمنية، انقلبت على «حلفائها» كما فعلت من قبل مع عرفات.
محاولة توظيف الدعم
لقد اعترف خالد مشعل، زعيم حركة حماس قبل فترة، أن إيران لم تعد الداعم الرئيسي لحماس بسبب الأزمة بين حماس ورئيس النظام السوري بشار الأسد، لكنها عادت خلال عام 2016 بعد بضع سنوات من القطيعة والمدّ والجزر للعمل على استقطاب حماس «السنّية» وضمها من جديد للنظام السوري وما يسمى «حزب الله» اللبناني في مواجهة المملكة العربية السعودية. ولقد كشفت «الشرق الأوسط» عن اجتماع عقد في الرابع من يناير (كانون الثاني) 2016 بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وممثل حماس في طهران خالد القدومي؛ للبحث في علاقات الجانبين، وعن عرض ظريف على القدومي أن تعلن حماس موقفًا سياسيا رسميًا ضد الرياض مقابل أن تقوم طهران بتلبية مطالب حماس كافة، ومنها الدعم المالي الثابت والدائم، إلا أن حماس رفضت، وأوضح أحد مسؤولي الحركة في الضفة الغربية لـ«الشرق الأوسط» أن «المعادلة معقدة، فنحن بصفتنا حركة تحرر نتطلع إلى دعم الجميع، لكننا أبدا لن نكون في أي تحالف ضد الشعوب أو ضد العالم السنّي».
ثم جرّبت طهران المسعى ذاته مع «الجهاد الإسلامي»، إذ طلبت مع بدء «عاصفة الحزم» من «الجهاد» إصدار موقف مشابه لموقف ما يسمى «حزب الله» اللبناني، غير أن حركة الجهاد رفضت أيضًا. وأكدت إحجامها عن التدخل في شؤون أي بلد عربي، فردّت إيران بقطع الدعم المالي عن «الجهاد» التي لم تتمكن لشهور من دفع رواتب عناصرها قبل أن تُستأنف العلاقة نظرًا لأن طهران تشعر بحاجتها دائمًا إلى موطئ قدم.
زرع جسم شيعي
من جهة أخرى، أخذت إيران تفكر بطريقة مختلفة، إذ بدلاً من أن تعمل على استقطاب فصائل سنّيّة في فلسطين، فإنها حاولت مؤخرًا تشكيل حركة متشيّعة داخل قطاع غزة، هي «حركة الصابرين» التي أضحت ممثلا شبه رسمي لطهران.
التدهور المستمر للعلاقة
وفي نهاية يناير، تسرّب تسجيل لمكالمة حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه ونشرته للدكتور موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يهاجم فيها طهران بشدة، وينفي تصريحات إيرانية بأنها تقدم الدعم للمقاومة الفلسطينية، وبخاصة منذ عام 2009. وخلال المكالمة اتهم أبو مرزوق الإيرانيين بـ«الباطنية والكذب والدهاء» وقال إنهم «هلكوت العباد». وكانت هذه المكالمة مثل قطع شعرة معاوية التي ناضل الطرفان من أجل وصلها من جديد قبل أن تنقطع من جديد بسبب الأحداث في مدينة حلب السورية.
وعودة إلى ظهور حركة «الصابرين» المتشيعة المدعومة والموجّهة إيرانيًا داخل غزة منذ نحو 3 سنوات، فلقد ظهر دعم طهران واضحًا عليها من خلال قدرتها على دفع رواتب موظفيها. إلا أن حماس، أمام خلفية تراجع العلاقة مع طهران ووسط غضب سنّي كبير، اضطرت لشن هجوم واسع على «الصابرين»، كذلك أحبطت السلطة الفلسطينية لاحقًا محاولة إيرانية لنقل التجربة إلى الضفة. فقبل نهاية العام بقليل شنّت الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس حملة استهدفت اعتقال قادة حركة «الصابرين». وصرحت مصادر لـ«الشرق الأوسط» بأن ملاحقة حماس لقادة «الصابرين» بعد سنوات من المدّ والجزر والتردد في اتخاذ موقف حاسم، يهدف إلى ممارسة مزيد من الضغط على الحركة الشيعية وصولاً إلى إنهاء وجودها. وفي المقابل، قال هشام سالم، مسؤول «الصابرين»، صراحة، إنه يتعرّض للملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية في القطاع على خلفية مواقفه من الأحداث الجارية في حلب. ومعروف، أن حماس تقف في صف معارضي الأسد. ويعكس استهداف «الصابرين» الشيعية في غزة من قبل حماس، الخلاف بين الحركة ومعسكر إيران فيما يخصّ الحرب السورية.
ويُذكر أن الخلاف الكبير حول حلب ظهر بوضوح عندما هاجم حشمت الله فلاحت، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حركة حماس قائلا إن «هناك دورًا لعبه اللوبي (الصهيوني) باتخاذ حماس موقفها من سوريا، بالإضافة إلى أن علاقة الحركة بالدول العربية التي تقدم لها الدعم المالي جعلت قرارات قادة الحركة متذبذبة»، مهدّدا بـ«علاقات أخرى مع مجاميع فلسطينية أخرى».
هذه النهاية السيئة في 2016 للعلاقات بين طهران وحماس هي النهاية نفسها لعلاقاتها مع السلطة الفلسطينية؛ إذ لم يعر الرئيس الفلسطيني محمود عباس اهتمامًا للموقف الإيراني الرسمي عندما التقى زعيمة المعارضة الإيرانية مريم رجوي في باريس خلال أغسطس (آب) الماضي، وهو اللقاء الذي شن على إثره مسؤولون إيرانيون هجومًا غير مسبوق على عباس، واصفيه بشتى الأوصاف، وردت فتح متهمة القيادة الإيرانية بـ«الخيانة والباطنية المنظمة لأدوار تخريب وتدمير وشق الصف الفلسطيني».
وأنهى عباس العام بإعلانه تأييد المملكة السعودية في كل ما تقوم به، في رسالة أخرى توسّع الخلافات مع طهران.