الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

روسيا بوتين تحاول إثبات ذاتها بتحدي سياسات القوى الغربية

صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
TT

الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)

يمكن القول إن العلاقات الروسية - الأميركية وصلت إلى أدنى درجاتها منذ نهاية الحرب الباردة. فقد ترك تصرف روسيا الصادم بتجاهل سيادة أوكرانيا وغزو إقليم القرم واضعي السياسات حول العالم في حالة من الارتباك, إذ تشهد صور القوات الروسية المحيطة بالمنشآت العسكرية والمطارات على انتهاء محاولة «إعادة ضبط» العلاقات الروسية الأميركية، التي بدأت منذ خمس سنوات في قمة الدول العشرين التي أقيمت في لندن. ومنذ ذلك الحين، وبعيدا عن اتفاقية خفض السلاح النووي الجديدة وجولات التعاون الدبلوماسي بين حين وآخر، لا تشهد العلاقات بين الدولتين سوى التدهور.

ليس من الغريب أن تحدث هذه الانتكاسة في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين لروسيا. يأتي الغزو الروسي للقرم في فصل آخر جديد من ملحمة ما بعد الاتحاد السوفياتي المعروفة، التي يلجأ فيها الكرملين إلى التدخلات العسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق التي أصبحت مستقلة، كوسيلة لإضعاف حكومات هذه الدول المجاورة وتحدي سياسات الولايات المتحدة والقوى الغربية عامة. ترمز عدم رغبة موسكو في المساعدة على حل الصراعات المستمرة في مناطق مثل ترانسنستريا، وغزوها العدواني لجورجيا في عام 2008، واعتداؤها الأخير على سيادة أوكرانيا باحتلال إقليم القرم، إلى مخططات روسيا لإعادة إثبات هيمنتها على نطاق إقليمي.
علاوة على ذلك، لا تقف هذه المحاولات لإثبات القوة عند الحدود القريبة من الاتحاد الروسي. في منطقة الشرق الأوسط، تستمر روسيا في دعم حليفتها القديمة سوريا: وتقدم غطاء سياسيا فعَّالا لإيران ومساعدة تقنية لبرنامجها النووي؛ وتسعى بانتهازية إلى تعميق علاقاتها مع مصر والأردن في المجالات التي تركتها الولايات المتحدة فارغة. إن ما تملكه المنطقة من مصادر الطاقة وأسواق الصناعة والسلاح المحتملة وتصدير الفكر الإسلامي المتطرف يجعل من الضروري للغاية عدم ترك المنطقة دون اهتمام.
وفي حين كان يجري الإعداد لاستراتيجية بوتين في استعراض القوة منذ عدة أعوام، فإنها أصبحت ذات تأثير في الوقت الحالي. تنبع جرأة صناع القرار في السياسة الخارجية الروسية من اعتقادهم بأن الإدارة الأميركية الحالية عاجزة عن القيادة والعزم الضروري لكبح أطماعهم؛ ولكن هذا مجرد حدس. في الوقت الحالي يضع واضعو السياسات الخارجية الأميركيون استراتيجيات بشأن كيفية تحقيق التوازن بين تطلعات روسيا الجيوسياسية التي تمثل تهديدا، وفي الوقت ذاته تقديم حوافز لروسيا للتعاون على نحو بنّاء مع المجتمع الدولي.

* التخندق في الخارج القريب
يجد واضعو السياسات والخبراء الأميركيون في شؤون الخارج القريب من روسيا أن التعامل مع طموحات بوتين بإعادة روسيا إلى مجد يشبه عهد الاتحاد السوفياتي هو التحدي الأول في السياسة الخارجية منذ أعوام وحتى الآن. أشار بوتين في عدة مواقف إلى أنه يعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر مأساة حلت في القرن العشرين. تعيش دول الاتحاد السوفياتي المنهار بالإضافة إلى الدول التابعة له في ظل نفوذ روسيا منذ أعوام استقلالها الأولى. وعلى الرغم من تضاؤل النفوذ الروسي كثيرا في 11 دولة بعد عهد الشيوعية والتي أصبحت اليوم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإنها ما زالت ذات أهمية بين الدول الأعضاء في الاتحاد السوفياتي سابقا. ما زالت بعض من هذه الدول بالفعل داخل نطاق النفوذ الروسي، لا سيما تلك الواقعة في آسيا الوسطى. وفي المقابل، يجاهد بوتين من أجل تعزيز هيمنة بلاده على دول جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا)، بالإضافة إلى الدول التي تقع مباشرة على حدود الاتحاد الأوروبي، مثل مولدوفا وأوكرانيا. يظل النفوذ الغربي كبيرا في هذه الدول؛ كما تظل هناك آمال كبيرة في تحقيق تحول ديمقراطي ورغبة في تكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي.
أصبحت كل من أرمينيا وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا في الوقت الحالي قطع شطرنج في الصراع العنيف الشهير الدائر بين روسيا والغرب. تشارك الاستثمارات الأميركية في التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي في هذه الدول بنسبة كبيرة. وتؤدي هذه الدول، التي ما زالت في مراحل انتقالية، دورا جيوسياسيا مهما في الربط بين الغرب والشرق، وأوروبا وآسيا، وتعد منطقة عازلة بين روسيا وأوروبا. تمثل أوكرانيا بمفردها مركزا ذا أهمية قصوى لنقل الطاقة بين أوروبا وآسيا، ولروسيا على وجه التحديد.
من المعروف أن بوتين يملك نفوذا كبيرا في مجال الاقتصاد والطاقة والجغرافيا السياسية في الدول المجاورة لروسيا. وكان لفرض حظر على منتجات جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا نتائج مدمرة على اقتصاد هذه الدول في الماضي. ويظل ارتفاع أسعار الطاقة أو قطع إمدادات الطاقة كلية عن مولدوفا وأوكرانيا أداة أخرى شديدة الفاعلية تستخدمها روسيا. وكما هو الحال في معظم الدول في المنطقة، تعاني هذه الدول الهشة أيضا من قضايا تتعلق بوحدة أراضيها ويستمر وجود القوات المسلحة الروسية في مناطقها الانفصالية ليمثل مشكلة كبرى. منح دور حفظ السلام الذي عينت روسيا ذاتها لتأديته فرصة دخول لا تقدر بثمن عندما اندلع الصراع في إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008. أسفر الصراع عن مقتل وتشريد الآلاف داخل الأراضي ذات السيادة الجورجية، خارج مناطق الصراع. وأدى ضعف رد الفعل الدولي مع عدم وجود إجراء من جانب الغرب لمعاقبة روسيا بسبب تدخلها غير المشروع إلى تعزيز اعتقاد بوتين بضعف وعجز الغرب.
في سبيل مواجهة محاولات الاتحاد الأوروبي للتوسع شرقا، أسس بوتين اتحاد أوراسيا الذي من المقرر أن يتكون رسميا في عام 2015. يضع الكيان الأول لهذه المبادرة، بقيادة روسيا، اتحاد الجمارك الأوراسي، روسيا البيضاء وكازاخستان من بين أعضائه. كما أدرج الاتحاد أرمينيا كمرشح للعضوية بعد أن قرر الرئيس سيرج سيركسيان الامتناع عن توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سبتمبر (أيلول) عام 2013. استغل بوتين بفاعلية الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني كاراباخ لتقديم أجندته الخاصة. بعد أن لمح علانية لاحتمالية تصعيد الصراع في هذه المنطقة ببيع أسلحة إلى أذربيجان، استطاع إقناع سركسيان بترك المباحثات المطولة من أجل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي كانت تسبق قمة فيلنيوس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013.
بعد أن استمروا في الصراع من أجل تحقيق الاستقلال الكامل عن روسيا، أصبح قادة جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا مقتنعين بأن مصير استقلالهم في يد الغرب. لا يمكن ضمان نتيجة ذلك سوى بتحقيق مزيد من التكامل الذي لا يمكن الرجوع فيه مع الغرب؛ وبالتالي، يأتي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على قمة أجندات حكومات هذه الدول.
بعد الاحتلال العسكري الروسي الحالي لإقليم القرم في أوكرانيا، والتهديد الواضح بغزو أجزاء أخرى من شرق أوكرانيا، أصبحت سيادة الدولة معرضة للخطر. تشكل أزمة أوكرانيا تحديا رئيسا للولايات المتحدة حيث إنها أدت إلى تدهور شديد في العلاقات الروسية الأميركية. وقد تحدث نتائج هذه الأزمة تغييرا كبيرا في ميزان القوى العالمي الراهن، ويعرقل النفوذ الأميركي خارج وسط أوروبا وشرقها أوراسيا. منذ عدة أشهر فقط لم يكن مسؤولون أميركيون ليعترفوا صراحة بفكرة أن هناك ما يشبه الحرب الباردة يدور الآن بيد أن المحللين يعترفون الآن صراحة بـ«لعبة الشطرنج» التي يلعبها بوتين ضد الغرب.
أصدرت واشنطن بيانات صريحة ضد تصرفات بوتين، وفرضت عقوبات على بعض الشخصيات من ذوي النفوذ في الحكومة الروسية بتجميد أرصدتهم الخارجية، وفرضت قيودا على سفرهم وسحبت تأشيراتهم. ووقفت الولايات المتحدة إلى جانب المجتمع الدولي الكبير في إدانة الاستفتاء الذي أجري في القرم لتقرير ما إذا كان الإقليم سيظل جزءا من أوكرانيا. وعلى الرغم من أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رفض هذا الاستفتاء، فإن حكومة القرم أجرت الاستفتاء غير الدستوري في 16 مارس (آذار). ووفقا للسلطات المساندة من جهة الروس في القرم، صوت 94 في المائة من المشاركين في استفتاء 16 مارس لصالح انفصال القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا. ردا على ذلك، تعهد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بزيادة العقوبات التي تستهدف شخصيات روسية أخرى مؤثرة. وفي 17 مارس، وقع الرئيس أوباما على قرار رئاسي يدرج قائمة بالشخصيات الروسية التي ستفرض عقوبات ضدها. تتضمن هذه القائمة المكونة من 11 اسما (تدرج قائمة الاتحاد الأوروبي 21 اسما) سياسيين وبرلمانيين روسا ومساعدي ومستشاري الرئيس بوتين بالإضافة إلى تجار أسلحة روس وداعمين ماليين رئيسين لأفراد في الحكومة الروسية. كما تضمنت قائمة الشخصيات التي فرضت عليها عقوبات الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش الذي هرب إلى روسيا بعد توجيه اتهامات ضده.
يسري اعتقاد بين واضعي السياسات الخارجية الأميركيين بأنه ما زال من الممكن حل أزمة أوكرانيا عن طريق الدبلوماسية. المقصود من هذه العقوبات هو بعث رسالة قوية إلى القادة الروس والضغط على الحكومة من أجل التعاون مع المجتمع الدولي. ولكن تتسم المساعي إلى إيقاف روسيا المتهورة بأنها رد فعل بدلا من أن تكون جزءا من تخطيط استراتيجي، وفي ذلك عجز عن الانتباه إلى أن اعتداء موسكو الأخير على دولة أخرى مستقلة يعد جزءا من مبادرة أكبر يقودها بوتين لتعزيز فكرة أن الاتحاد الروسي طرف قوي على الساحة العالمية.
حتى الآن أثبتت جميع العقوبات التي فرضت بسبب سياسات بوتين في أوكرانيا أنها غير فاعلة. بعد الاستفتاء، صوت مجلس الدوما الروسي لصالح ضم إقليم القرم. وفي 18 مارس، وقع بوتين ومسؤولو حكومة القرم معاهدة لضم شبه الجزيرة إلى روسيا. وسوف تتم الاتفاقية بمجرد أن تقرها المحكمة الدستورية الروسية ويصادق عليها البرلمان الروسي. ويسبب هذا التطور الأخير قلقا بالغا لدى الغرب. يعني فشل العقوبات حتى الآن في الضغط على بوتين من أجل الالتزام بمطالب الغرب واحترام حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره، أنه يجب النظر في طرق أخرى لحل الأزمة. في الوقت الحالي، تشمل هذه الطرق استمرار المباحثات الأميركية مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والناتو، ومن بينهم بولندا ودول البلطيق من أجل التأكيد على رغبة أميركا في دعم شركائها الدوليين وزيادة التكاليف التي تسددها روسيا جراء تصرفاتها غير المشروعة في إقليم القرم.

* العودة إلى التدخل في الشرق الأدنى
قبل بداية المواجهة السياسية حول القرم، كان أكبر نموذج على فشل محاولات ضبط العلاقات هو عجز القوى عن الوصول إلى طريق مشترك ذي نفع متبادل للمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية الوحشية المندلعة في سوريا. وفي ظل توفر تقييم استخباراتي يكشف عن أن عملاء الحكومة السورية استخدموا عن عمد أسلحة كيماوية ضد سكانها المدنيين، بدأ مخططو السياسات الأميركيون في صياغة ردود محتملة لما يمكن أن يمنع شن مزيد من الهجمات من جهة الرئيس السوري؛ كان أحدها شن حملة قصف جوي لمواقع وقواعد عسكرية.
بعيدا عن هذه الأحداث المتلاحقة، امتد دعم موسكو المستمر للنظام السوري منذ عقود، بداية من عام 1970 تحت حكم حافظ الأسد واستمر مع تولي ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد الحكم. بعد أن تحولت مظاهرات الربيع العربي السلمية في سوريا إلى عنف متزايد مع الاعتداءات العنيفة التي تقوم بها الدولة في صيف عام 2011، تزايد تدخل روسيا على المستويين المحلي والدولي. من وجهة نظر الكرملين هناك كثير من الأشياء المعرضة للخطر: منشأة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط في سوريا؛ ومصنعو السلاح الروس الذين يشكلون نسبة 48 في المائة من الواردات السورية أثناء توسعها المطرد في التسليح ما بين عامي 2006 و2010؛ وآخر حليف عربي جدير بالثقة في عالم ما بعد الحرب الباردة، والذي كانت روسيا تأمل من خلاله امتلاك نفوذ سياسي في الشرق الأوسط.
شن بوتين، الذي أزعجته احتمالات إضعاف الأسد عسكريا، حملة دبلوماسية لوقف القصف الوشيك، وسمح لوزير خارجيته بالتمسك بتعبير بلاغي صرح به نظيره الأميركي. منحت عدم رغبة أوباما في اتخاذ إجراء دون موافقة الكونغرس وقتا ومجالا للروس للتوسط في قرار مجلس الأمن رقم 2118، توافق بموجبه الحكومة السورية على التخلي عن أسلحتها الكيماوية، مما يلغي مبرر شن رد مسلح على المذبحة التي يرتكبها نظام الأسد ضد شعبه.
عدت جميع العواصم الغربية هذا الحل السلمي للأزمة تسوية ناجحة، وخطوة تجاه إعادة الروح إلى العلاقات، والتي كانت تلفظ أنفاسها بالكاد بسبب الخلافات حول الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، والحماية التي قدمتها روسيا للموظف المتعاقد سابقا في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودين الذي جرت إدانته؛ والطرق الدبلوماسية المسدودة بشأن الصراع السوري والبرنامج النووي الإيراني. ولكن ظهر التردد الأميركي في اتخاذ رد فعل أكثر حسما تجاه تجاوز «الخط الأحمر» في صورة ضعف العزيمة الأميركية.
كذلك كانت الحالة مع طهران، التي لم يقل دعمها للأسد قيد أنملة عندما وردت أنباء وقوع هجوم على غوطة دمشق. أدان الرئيس المنتخب حديثا حسن روحاني استخدام غاز الأعصاب سارين، ولكنه لم يحدد من المتورط في استخدامه. وبعيدا عن هذا الانتقاد، استمر إمداد إيران للقوات الموالية للحكومة بالمقاتلين والأسلحة والمال والدعم اللوجيستي دون توقف. وعكس انعدام خوف إيران من الرقابة الدولية بسبب دعمها للنظام الوحشي موقفا متجرئا يثق في أن واشنطن ستُبعد القصف الإسرائيلي وربما تكون مرنة في مفاوضات 5+1 التالية.
يرجع جزء من الفضل فيما تحقق من مكاسب إيران الأخيرة على الجبهة النووية، وتخفيف العقوبات، وما يتعلق بسوريا إلى مصالحها المتماشية مع مصالح موسكو، ويرجع أيضا إلى التخطيط الروسي. ومنذ عام 1995، صدّرت روسيا تكنولوجيا نووية إلى إيران، على الرغم من احتجاجات الحكومات الغربية. يشترك القادة الغربيون في مخاوفهم بشأن مسيرة المرشد الأعلى علي خامنئي المزعومة لتسليح برنامج بلاده للطاقة النووية. تفاقمت هذه المخاوف جراء المباحثات الجارية لإقامة مفاعل ثان يمد الحكومة الروسية بالنفط والنفوذ.
وفيما يتعلق بمجموعة الدول 5+1، قدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دعما راسخا لمساعي طهران لتخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا، في جزء كبير من حملة روسيا الواسعة لرفع العقوبات كوسيلة للحفاظ على النظام العالمي. وعلى صعيد سوريا، يتعلق التعاون الروسي مع إيران بتداخل المصالح بدلا من التخطيط للتدخل من الكرملين؛ بيد أن استخدام مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة بيدالي تشوركين المستمر لحق الفيتو حقق حماية فعالة للعرب والفرس من أعضاء هذا الثالوث الاستبدادي ضد اتخاذ إجراء أكثر حسما ضدهم في الجمعية العامة.
يجري تجديد العلاقات في مناطق أخرى في العالم العربي، تتضمن مصر الشريك القديم لروسيا. وفي ظل قرار إدارة أوباما بتقييد مبيعات الأسلحة إلى مصر في أعقاب إطاحة الجيش بالحكومة الإسلامية المدنية في يوليو (تموز) 2013، وجدت روسيا فرصة لسد هذا الفراغ. تلت زيارة وفد رفيع المستوى إلى القاهرة برئاسة الوزير لافروف في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، زيارة أخرى قام بها مؤخرا وزيرا الدفاع والخارجية المصريان - في أول زيارة رسمية منذ 40 عاما – من أجل إتمام صفقة سلاح تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار ومن المنتظر معرفة ما إذا كان الأمر مجرد صفقة أم تحولا أكبر في توجهات مصر. ولكنها تشير إلى منهج روسيا الاستباقي في إقامة العلاقات، كما حدث مع سوريا وإيران.
يأتي الأردن مثالا آخر. على الرغم من أن درجة الشراكة مع المملكة الهاشمية ومصر في عهد عبد الناصر تختلف بدرجة كبيرة (على سبيل المثال، لم يكن هناك 15 ألف خبير عسكري روسي متمركز في الأردن)، إلا أن العلاقات بين عمان وموسكو منفتحة وتشهد صفقات متبادلة منذ منتصف السبعينات، فيما عدا معارضة عمان العلنية لحرب الشيشان في الوقت الحالي، في مواجهة ازدياد احتياجات الطاقة وعدم وجود وسائل فعالة من حيث التكلفة لتلبيتها، أتمت هيئة الطاقة الذرية الأردنية الشهر الماضي عدة جولات من المباحثات تمهد نتائجها الطريق أمام «روساتوم» الروسية لإقامة أول مفاعل نووي في البلاد. قبل عامين، شكلت لجنة حكومية أردنية وروسية عندما كان بوتين في زيارة إلى عمان. وفي إطار سعيها إلى معالجة عجزها التجاري المزمن ورغبتها في زيادة تدفق السياحة، استمر تفاعل الأردن من خلال اللجنة مع نظرائها الروس.
تتشارك جميع الدول المذكورة آنفا معا في خوفها المبرر من التهديدات الأمنية للتفسيرات المتطرفة للإسلام والمنظمات الإرهابية السنية. من شمال القوقاز إلى شمال سيناء إلى غرب العراق، تجاهد كل هذه الحكومات لاحتواء الجماعات الجهادية والتخلص منها. تبلي روسيا - التي تستمر مخاوفها المبررة من تصدير مثل هذه الآيديولوجيا إلى سكانها من المسلمين الذين يشكلون قطاعا كبيرا - بلاء حسنا في دعم تلك الحكومات في المنطقة التي تعمل على منع انتشارها أيضا.
يتنوع نطاق تعاون روسيا مع دول الشرق الأوسط من اتفاقيات مشروعة (الأردن) إلى مبيعات السلاح إلى الحكومات المصرية، إلى تقديم دعم ثابت متعدد الجوانب إلى أنظمة استبدادية مثل (إيران وسوريا). الأمر المشترك في كل هذه الحالات هو تدخل روسيا الانتهازي عندما تكون هناك مساحة لتوسعة نطاق نفوذها ووقف أهداف السياسات الأميركية في المنطقة، دون أن تضع في اعتبارها معاملة هذه الحكومات لمواطنيها.

* اعتبارات السياسات الأميركية
لا تبدو نهاية الأزمة الأوكرانية قريبة، وسوف تستمر في اختبار فاعلية الدبلوماسية الغربية. وفي حين يحدو واضعي السياسات الأميركيين الآمال بأن تثبت العقوبات الراهنة المتاحة نجاحها في إجبار روسيا على الالتزام بمطالب الغرب، فإن هناك إجراءات أخرى محل دراسة مثل المساعدة على بناء الجيش الأوكراني. يدخل الاتحاد الأوروبي في مفاوضات جديدة مع الحكومة الأوكرانية المؤقتة للإسراع بتوقيع اتفاقية الشراكة، وتلتزم الحكومة الأميركية بإمداد أوكرانيا بقرض قيمته مليار دولار من أجل مساعدة اقتصاد أوكرانيا المتعثر.
يعتقد عدد قليل نسبيا من الخبراء الأميركيين أن بوتين يرتجل في القرم، وأنه يتخذ رد فعل على اتهام حليفه الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، ويستغل فرصة انعدام الاستقرار في البلاد. تقدم تصرفات بوتين الأخيرة في الخارج القريب، بالإضافة إلى نتائج الأزمة في سوريا، قصة لقائد استبدادي لديه استراتيجية كبرى بعيدة الأمد.
سوف تلقي تبعات عدم احترام روسيا لسلطة الحكومة في كييف بدرجة ما بآثار سلبية على الشرق الأوسط. وسوف تكون كلمة موسكو أقل مصداقية سواء في المفاوضات من أجل الوصول إلى حل ممكن للحرب الأهلية المأساوية في سوريا أو من أجل التسوية في قدرات إيران النووية. يمثل رفض بوتين سحب قواته من القرم مجرد قمة جبل الجليد. تحد الدولة التي تملك هذا الاستعداد المستمر للاستهانة بالقواعد الأساسية في النظام العالمي من ثقة أصدقائها وأعدائها على حد سواء.
ليس معنى ذلك عدم وجود بديل على المدى القريب. تملك سوريا قليلا من الحلفاء الذين يمكنها الاختيار بينهم، إن وجدوا؛ ومن المؤكد أنه لا يوجد من يملك مصالح ومخاطر مثل تلك التي تملكها روسيا. علاوة على ذلك، لن يمنع بوتين الأسد من اتخاذ إجراء مستقل في الداخل أو الخارج. وكذلك، لا تملك إيران أيضا نصيبها من الداعمين على الساحة العالمية وكذلك لن يكون مرجحا أن تغير موقفها في مواجهة الكرملين؛ ولكن ستقل احتمالات اعتماد الغرب على روسيا في أن تكون مُحكّما أو مشاركا في حل المفاوضات. ومع الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا، يدعو الخبراء واشنطن إلى التركيز على الدولة التي مزقتها الحرب الأهلية، حتى لا يستفيد الأسد من الاهتمام الأميركي بأوكرانيا ويقوم بتزوير الانتخابات. ربما تحيي الحكومة الأميركية مباحثات السلام السورية من أجل وقف إراقة مزيد من الدماء، إذا تفوق بوتين في القرم وأعاد توجيه أجندته بتحدي نفوذ الغرب في الشرق الأوسط.
في إيجاز، أفضل ما يقوم به واضعو السياسة الخارجية الأميركيون هو حماية وتقديم المصالح الأميركية، بأن تشمل سياساتهم إثبات روسيا الاستباقي لذاتها في الجوار والخارج. وكما يشير بعض المحللين، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد نهاية اللعبة وتطوير استراتيجية عملية لتحقيق هذه النهاية، اعترافا منها بأنه أينما وجدت حاجة أو فراغ، في الشرق الأوسط أو غيره من المناطق، سوف ينتهز الكرملين تحت قيادة بوتين الفرصة ليملؤه.

* ريتشارد كرايمر: أستاذ بالجامعة الأميركية، باحث مساعد في مشروع التحولات الديمقراطية في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا.
* مايا أوتاراشفيلي: باحثة مساعدة في معهد أبحاث السياسة الخارجية ومنسقة برنامج مشروع التحولات الديمقراطية (فيلادلفيا).



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».