في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تركز اهتمام الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول الغرب، في موضوع مواجهة الإرهاب، على التهديدات التي تطالها من المجموعات الإرهابية الخارجية. أي تلك الآتية جغرافيًا من بعيد، وبالذات من دول وكيانات العالم الإسلامي، وذلك رغم أن أكثر الاعتداءات الإرهابية ضراوة وقسوة، ارتكبتها مجموعات إرهابية أميركية، كالتفجير الذي وقع بمدينة أوكلاهوما سيتي على يد تيموثي ماكفاي. أضف إلى ذلك الانفجارات التي تعرضت لها المستشفيات التي تجري عمليات الإجهاض، إلى جوانب حوادث القتل الجماعي كتلك التي ارتكبها بيوفورد فورو عام 1999.. كل هؤلاء الأفراد كانوا ولا يزالوا ينتمون بالفعل إلى جماعات الأصولية الآرية البيضاء.
كشفت دراسة نشرتها مجلة «جورنال أوف بيهيفيورال ساينسز» Journal of Behavioral Sciences الأميركية، وشارك فيها البروفسور كيفن بورغيسون أستاذ العدالة الجنائية بجامعة سالم الحكومية (بولاية ماتشوستس الأميركية) والبروفسورة روبن فاليري أستاذة علم النفس بجامعة سيراكيوز (بولاية نيويورك)، أنه على مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان هناك ما يقرب من 60 حادثة إرهابية داخل الولايات المتحدة ارتكبها أفراد ينتمون لمجموعات الكراهية، وطبقًا لمطبوعة «إينتيلليجنس ريبورت» Intelligence Report الأميركية كذلك، فإن معظم هذه الحوادث الإرهابية المحلية كانت ذات خلفيات دينية.
قطعًا أنها تشير إلى أن إشكالية الأصولية قائمة في الغرب كما هي في الشرق، وأنه إذا كانت هناك في العالم العربي والإسلامي جماعات بعينها تتدثر برداء الدين الإسلامي لتبرير العنف والإرهاب، فيما عرف بـ«الأصوليات الإسلامية»، فإن هناك وضعا مشابهًا - بل يكاد متطابقًا - يمكننا بكل سهولة ويسر أن نطلق عليه مسمى «أصوليات مسيحية» عند نفر بعينه، داخل تلك الجماعات.. التي تتجسّد فيها أحيانا الآرية النازية - ببعدها العنصري الفاقع - والـ«مسيحانية» المغشوشة أحيانًا أخرى.
بتفسيرات مغلوطة، وقراءات مسيحية لا اتفاق على صحتها خارج سياقات الكنائس التقليدية (الكاثوليكية والأرثوذكسية)، أسّس الأميركي ريتشارد غيرنت باتلر عام 1973 جماعة «الأمم الآرية» التي ترتكز على مجموعة من المعتقدات مثل: فترة ما قبل آدم على الأرض، ونسل الثعبان، وبيت إسرائيل، معركة هرمجدون (أرماجدون). والشاهد أن تفصيلاً سريعًا غير مخل ببعض هذه المفاهيم يوضح لنا مدى ضراوة هذا الاتجاه، وبخاصة، أن قدّر له أن ينمو ويتعاظم في العقود المقبلة، خاصة في أميركا، حيث تشير اتجاهات رياح السياسة إلى جهة اليمين، بل اليمين المتطرف:
فترة ما قبل آدم: يعتقد أتباع جماعة «الأمم الآرية» أن الأرض كانت موجودة منذ زمن بعيد، وأن هناك أقليات كانت تسكنها، وكلها تابعة للجنس الأبيض، بالإضافة إلى إيمانهم بأن الجنس الأبيض، يتفوّق على غيره من الأجناس لأنه من «نسل أدم». نسل الثعبان (أو نسل الهويتين): يزعم هؤلاء أن حواء قد رزقت بطفلين، أحدهما من آدم الذي ينتهي أحفاده اليوم إلى الجنس الأنجلو سكوني، بينما الطفل الآخر هو ابن الشيطان، ونسله - حسب زعم هؤلاء - أبناء الشعب اليهودي.
بيت إسرائيل: طبقا لفكر مجموعة «الأمم الآرية»، فإن تعريف إسرائيل بأنها شعب الله المختار ينبع من القومية الإسرائيلية، أما طبقًا لقومية أتباع الهوية المسيحية، فإن شعب الله المختار هم «الأمم الأنجليساكسونية والجرمانية وكذا الاسكندينافية».
معركة هرمجدون: خلافًا حتى للفكر البروتستانتي التقليدي الذي يؤمن بأن معركة هرمجدون ستحدث في الشرق الأوسط، وبالقرب من القدس (سهل مجدّو في فلسطين)، ترى مجموعة «الأمم الآرية»، أنها ستحدث في الولايات المتحدة، عندما ينهض الجنس الأبيض من جديد، ويدمّر كل يهود الأرض، ويحقق سيطرته على العالم.
بلوَر باتلر رؤية عنصرية ذات ملامح أصولية مغشوشة لجماعته، معتبرًا في عنصرية واضحة، أن الجنس الأبيض هو الجنس الأفضل، وأن الحرب الباردة ليست ضد الشيوعيين، بل ضد من يحاربون المسيح، أي ضد اليهود تحديدًا. هذه المعتقدات أشعلت طموحات باتلر في الحياة، وارتبط مصيره منذ ذلك الوقت، واتباعه من خلقه، بتوسيع معرفته، والإحاطة الكاملة بكل شيء خاص باليهود.. «ذلك الجنس البغيض» في مقولاتهم.
ولكن، بعد وفاة باتلر حدث ما يشبه الانقلاب الفكري في جماعة «الأمم الآرية»، إذ ذهب كثيرون منهم لجهة أن مجرد الإيمان بتعاليم الهوية المسيحية بشكل أعمى لا يخدم قضية الدين المسيحي أو رسالته. وعبّر أحدهم عن ذلك بقوله: «لا يجب أن أكره شخصا لمجرد الكراهية، ذلك أن الكراهية المبنية على العنصرية ضد الأجناس الأخرى، لا تقودنا إلى أي هدف.. وأنا هنا أتفق مع تعاليم الإنجيل». وعلى أساس السماح بتنوّع وجهات النظر، سمحت بعض قيادات «الأمم الآرية بانضمام» مسلمين إلى المنظمة، واعتبروا أنهم ينفذون بذلك «بيان المهمة» لمؤسس الحركة ريتشارد باتلر.
وردًا على سيل من الرسائل الإلكترونية (الإنترنت) التي وصلت إلى المنظمة، فإن المسؤولين منهم قد ردّوا ببيان توضيحي، يصفون فيه موقفهم غير المنحاز دينيًا، بالإضافة إلى تأكيدهم أن هناك ما يؤكد أن الإنجيل يساند الراديكاليين الإسلامويين، جاء فيه: «لقد حدث سوء تفاهم على ما يبدو، فيما يخص وجهة نظرنا، بشأن تحالفنا مع الإسلامويين الراديكاليين. وهناك من أدعى أننا أصبحنا الآن منظمة إسلاموية أصولية، وهذا غير صحيح، أن منظمتنا لا تساند أي دين آخر. ولكن من ناحية أخرى، وبناء على تاريخ جماعة (الأمم الآرية)، فإن قواعدنا وسلوكنا، أساسها تعاليم الإنجيل، وتتفق آراء أعضاء المنظمة في مجموعها، على قبول الهوية الآرية المسيحية، وتعاليم الدين المسيحي المستنيرة والمعروفة للجميع». البروفسور بورغيسون، في البحث المشار إليه سالفًا يقول إنه عندما سأل جماعة «الأمم الآرية» عن سبب مساندتها للراديكاليين الإسلامويين، أجاب المتحدثون بلا تردّد أن الحركة المسيحية الحالية ماتت بعدما فقدت جوهرها و«أن أعضاء الحركة من المسيحيين البيض تنقصهم الحماسة وروح التضحية من أجل قضية يؤمنون بها، وهذا ما نجده اليوم عند المسلمين (كذا).. وحقيقة الأمر وعبر تاريخها الطويل، كانت قلة قليلة من أعضاء الأمم الآرية، هي التي على استعداد للتضحية بحياتها من أجل الحركة. فإذا استطعنا أن نغرس هذه الأخلاق داخل الحركة مرة أخرى، لاستعدنا كرامتنا المفقودة، ولخسر اليهود كل الفرص أمامنا، إذ إننا سنحارب بكل صدق وقوة».
من ناحية أخرى، مثير جدا عداء جماعة «الأمم الآرية» لحكومة الولايات المتحدة التي تتهمها بالتآمر على مواطني الدولة الأميركية المسيحية، تحت تأثير نفوذ اليهود - كما تزعم - عليها. ومن ثم، يستدعي الحديث عن مجموعة «الأمم الآرية»، تساؤلا جذريًا وعميقًا.. مَن يحاول إذكاء جذوة أصولية مسيحية عرفتها أوروبا في القرون الوسطى، تختلف شكلاً وموضوعًا عن حال ومآل الرؤية المسيحية الحالية.
إضاءة على جماعة «الأمم الآرية» المتطرفة
أصولية «صنع أميركا» من نوع آخر
إضاءة على جماعة «الأمم الآرية» المتطرفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة