بيروت منصة عربية للتشكيل والتصميم والمسرح عام 2016

الفنون البصرية واقتصاد المعرفة لهما الأولوية في لبنان

عرض كركلا في الذكرى الستين لمهرجانات بعلبك
عرض كركلا في الذكرى الستين لمهرجانات بعلبك
TT

بيروت منصة عربية للتشكيل والتصميم والمسرح عام 2016

عرض كركلا في الذكرى الستين لمهرجانات بعلبك
عرض كركلا في الذكرى الستين لمهرجانات بعلبك

إنها سنة الفنون البصرية على اختلافها. لعله المزاج العام الذي سيستمر لسنوات كثيرة مقبلة، على حساب الورقي المقروء والكلاسيكي بشكل عام، الذي يبدو أنه صار في نهاية القائمة.
«معرض بيروت للكتاب»، مع نهاية السنة، أحيا عيده الستين، وجمع حوله المحتفلين بكثافة، لكن الناشرين كعادتهم، غير راضين، عن مبيع ضحل، ومردودات زهيدة، لا تصل إلى الحد الأدنى، إلا في حفلات التوقيع التي تأخذ طابع المجاملة لا الإقبال الجاد والذاتي على المؤلفات. في المقابل، كل مرأيّ ومسلٍ يتعزز حضوره، بصرف النظر عن مستوى النتاجات أو كيف يمكن أن نقيمها، فإن السينما تعود بقوة، والأفلام اللبنانية صارت دائمة ومرحبًا بها في الصالات، بعد أن كانت بضاعة كاسدة. من «يلاّ عقبالكن شباب» الذي جاء كجزء ثانٍ لفيلم «يلاّ عقبالكن» الذي عرض العام الماضي، إلى «كاش فلو2» الذي يكمل «كاش فلو1»، وكأنما الفيلم الواحد لم يعد يكفي، لتُكمله أجزاء أخرى. خلطة لمعالجة المشكلات الاجتماعية بطابع درامي كوميدي، خفيف ظريف ومسلٍ، تجعل الإقبال أفضل والمنتجين سعداء ببيع التذاكر. «لأني بحبك»، أو «ولكم تو ليبانون»، وكذلك «بالحلال» عناوين لأفلام وجد فيها المتفرج يومياته بنوادرها وصعوباتها بقالب جذاب. حتى مسرحيات زياد الرحباني القديمة ينتظرها الجمهور وهي مصورة على شرائط، وتعرض أمام المتفرج، بنسخة مغبرة وصوت تآكله الزمن. افتتح العام بمسرحية/ فيلم «بالنسبة لبكرا شو»، وكانت حدثًا ثقافيًا حرص كثيرون على ألا يفوتهم. فهذا الأرشيف الرحباني كاد يذهب من بين يدي الجميع، وها هو يظهر من جديد. وقبل نهاية السنة ظهر تسجيل «فيلم أميركي طويل» ليستكمل هذه الاستعادة الأرشيفية الثمينة. السينما اللبنانية تعود قوية لا لروعة نتاجاتها، وإنما للطلب عليها، وكذلك المسرح الذين كان الظن أنه يغلق أبوابه وإلى الأبد، بعد أن أعلن عن نهاية حزينة لـ«مسرح بيروت» وهو الأقدم، في العاصمة وخفتت حركة الجمهور على المسارح المفتوحة، وبدا كأنها في طريقها إلى الأفول التام. وبدل أن تغلق هذه الصالات افتتحت أخرى جديدة. في الأعوام الأخيرة، صار «مترو المدينة» الملاصق لـ«مسرح المدينة» وكذلك «مسرح فردان» الذي افتتح حديثًا من بين الأكثر حيوية. الإقبال والحماسة يجعلان العمل على المسرح يستمر لأشهر، بعد أن كانت أيام قليلة هي عمر أي عمل، ومهما كانت أهميته. «أسرار الست بديعة» أداء ندى أبو فرحات وتأليف وإخراج جيرار أفيديسان، عمرت لأشهر، «اسمي جوليا» تأليف وإخراج يحيى جابر وتمثيل أنجو ريحان لاقت ترحابًا أيضًا. يحيى جابر تمكن من إحراز اختراق وتحول إلى ظاهرة بالفعل. إضافة إلى «اسمي جوليا» قدم مسرحيته (تأليفًا وإخراجًا) «بيروت طريق الجديدة» على مدى 3 سنوات وبالتزامن معها مسرحية ثانية هي «بيروت فوق الشجرة» لأكثر من 8 أشهر، وها هو جابر يصل بنا إلى ثلاثية مسرحياته البيروتية مع «بيروت بيت بيوت» برفقة ممثله الصامد إلى جانبه زياد عيتاني بعد أن رافقه في المسرحيتين السابقتين أيضًا. يحيى جابر ليس وحده من يلفت النظر، بل هناك الفنان جورج خبّاز أيضًا، الذي يقدم مسرحًا شبه يومي، وله جمهور لا يخلف الميعاد، رغم أن البعض لا يريد أن يرى ويعترف.
نضال الأشقر احتفلت هذه السنة وعلى مدى 12 يومًا، بمرور 20 سنة على افتتاح «مسرح المدينة»، ونظمت برنامجًا يوميًا، جمع عشرات الفنانين اللبنانيين، وخصوصًا المسرحيين منهم، من خلال أعمال تقدّم للمرة الأولى. حضر فؤاد نعيم بعد غياب بمسرحية «الملك يموت» ليوجين يونسكو وأتى ربيع مروة من ألمانيا، كما جاء عصام بوخالد من مكان عمله في قطر. هؤلاء وغيرهم ممن كانوا منارات على خشبة هذا المسرح التجريبي طوال عقدين، احتفلوا معًا وسط جمهور حاشد، لم يرد أن يفوت الفرصة. وفي نهاية العام حمل روجيه عساف على كتفيه «الملك لير» مقدمًا شكسبير، بالعامية اللبنانية وفضول المتفرجين لم يكن قليلاً أيضًا.
العودة إلى البصري تتجلى كذلك في «بيروت أرت فير» الذي أحيا دورته السابعة، وتعتبر رئيسته لور دوتفيل، أنه قصة نجاح لها ما يبررها، وأن بيروت تثبت لمرة جديدة، أنها مكان للإبداع التشكيلي والتفاعل مع الابتكارات، أكثر من أي مدينة عربية أخرى مجاورة، نظرًا لتاريخ فنانيها القديم في الهجرة والسعي إلى التعرف على نتاجات أوروبا وأميركا. تجربة «معرض بيروت للفن» شجعت شريك دوتفيل غيوم تاليه داليان على السعي من أجل معرض شقيق للتشكيل هو «معرض بيروت للتصميم»، الذي سيزاوج بين المحلي والعالمي، في خلطة تشبه تلك التي اتبعت في «بيروت أرت فير». وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من الآمال لتعزيز السياحة الثقافية. الفرنسيان دوتفيل وتاليه داليان يعتبران بيروت منصة المنطقة لفني التشكيل والتصميم، خصوصًا أن الخريجين في الكليات المتخصصة كثر وبينهم موهوبون يستطيعون حمل المهمة على أكتافهم.
المواعيد السنوية من معرض الكتاب الفرنسي إلى العربي، وكذلك المهرجانات الصيفية والشتوية، إضافة إلى «مهرجان بيروت للرقص المعاصر»، مستمرة.
وربما أن الحدث الأبرز الذي لم ينتبه له كثيرون من المثقفين والعاملين في المجال الفني، هو اللقاء الضخم الذي نظمه «مصرف لبنان» للمهتمين في مجال اقتصاد المعرفة، حيث التقى آلاف الشباب اللبناني بعشرات المخترعين والمبتكرين من بينهم أحد مؤسسي شركة «أبل» ستيف وازنياك، الذي كان وجوده في لبنان والمنطقة العربية بمثابة حلم تحقق لكثيرين، واللبناني الأصل طوني فاضل أحد مبتكري «الآيبود». هذه المناسبة التي نظر إليها على أنها تكنولوجية بحتة، استقطبت الشباب اللبناني من كل المناطق وعلى مدى أيام. حتى الصغار جاءوا يبحثون عن الجديد في عالم الاكتشافات والخوارزميات واستعان المنظمون بالموسيقى والغناء لجلب من لم تكن التقنيات له يومًا هوى واهتمامًا. «اقتصاد المعرفة» جزء من عالم التصميم والصحافة والكتابة الجديدة والفن التشكيلي والمسرح، لذلك ربما كان المثقفون والكتّاب هم الحاضر الغائب في هذا الاجتماع الضخم لصانعي الغد.
بيروت، لا بل لبنان كله عاش عام 2016 على وقع مختلف أشكال الفنون والابتكارات، وينتظر مزيدًا من الأمن والاستقرار لتعزيز حضور اشتاقه، بعد خفوت دام سنوات.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!