المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا

آخر الأفواج تضم عناصر خطرة من مصر وتونس والعراق وسوريا

المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا
TT

المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا

المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا

في اجتماعات لم تستغرق أكثر من يومين في قاعة مجاورة لمطار القاهرة الدولي، بدا أن مسؤولين في أجهزة أمنية إقليمية يتحركون بسرعة أكبر من المعتاد على خلفية تفجيرات وأعمال إرهابية شهدتها أخيرا دول في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا. وتشير المعلومات إلى نزوح عدد كبير من المتطرفين إلى ليبيا التي تشهد هشاشة أمنية وتهيمن فيها جماعات غير منضبطة على عدة مطارات وعلى منظومة السجل المدني وجوازات السفر. ووضع أحد ضباط الأمن خطا تحت اسم رجل ليبي يدعى «ديكنة». هل هو في تركيا أم في مصر أم في أوروبا؟ وبدا للوهلة الأولى أن الرجل خطير، وأن له علاقة بأعمال تفجيرات في مكان ما في المنطقة. لم تكن هناك إجابة واضحة. لكن الضابط، وهو ليبي أيضا، التفت وقال ما معناه إن «ديكنة» كان تحت رقابة أمنية مستمرة تتعاون عليها عدة أجهزة. ثم اختفى فجأة قبل أيام من تفجير الكنيسة البطرسية في العاصمة المصرية.
رغم كل شيء تضفي أشجار أعياد الميلاد (الكريسماس) المزينة بالفوانيس الملونة السعادة أمام القاعة في مطار القاهرة الدولي، وتنساب موسيقى البهجة من المتنزهات القريبة. لكن يوجد خلف باب غرفة الاجتماعات المجاورة للمصعد، عمل محموم يقوم به ضباط يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويقول أحد المسؤولين الأمنيين كأنه يلهث: تحركات المتطرفين سريعة... سريعة للغاية. كل يوم يجد جديد. وهذا أمر مرهق.
وفي وقت الاستراحة القصير بدا من إفادات أحد المشاركين الآخرين ممن جاءوا من وراء البحر بالطائرة على عجل، أن عبء المراقبة والتتبع للمتطرفين أصبح أكبر صعوبة من السابق بكثير، خاصة بعدما شددت القوى الدولية والإقليمية من ضرباتها على مواقع تنظيم داعش في العراق وسوريا وملاحقة المجاميع المتطرفة عبر العالم، مع التدقيق في عمليات التحويلات المالية المشبوهة وتحركات المشتبه في علاقتهم بالأعمال التخريبية. هذه ليست قضية محلية... أصبحت مسألة دولية... «الإرهابي هنا يمكن أن يتسبب في كارثة هناك».

الغالبية عرب
يقول الضابط، وهو مسؤول أمني إقليمي، إن مجاميع من المتطرفين، أغلبهم عرب وبينهم من يحمل جنسيات دول أوروبية، يعززون مواقعهم في ليبيا بشكل لافت لتنفيذ عمليات إرهابية عابرة للحدود، خاصة في دول الجوار وعدة دول شمال البحر المتوسط. وكان المسؤول المشار إليه من ضمن قادة وصلوا إلى هنا بالتزامن مع لقاء عربي - أوروبي نظمته الجامعة العربية حول الإرهاب والهجرة غير الشرعية وغيرها من القضايا الملتهبة في المنطقة.
وفي المساء رشح من كواليس المناقشات الحامية أن هناك مجموعة متطرفين عرب يقودهم رجل آخر يبدو أنه ليبي الجنسية أيضا، أفلت من المراقبة خلال الأسابيع الأخيرة، رغم خطورته، يدعى «مرجيني». ويضيف المسؤول الأمني وهو يحمل بين يديه ملفا كبيرا من الأوراق والأقراص الإلكترونية المدمجة، أن كلا من «ديكنة» و«مرجيني»، يشتبه في انتمائهما لجماعة الإخوان الليبية، وأنهما يستغلان مكتبا في مصراتة لاستقبال متطرفين من الخارج، من بينهم مجموعة تضم مصريين من سيناء وفلسطينيين من غزة، تمركزت في المدينة نفسها التي تقع على بعد 200 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس.
ويشير إلى أنه منذ مطلع الشهر الماضي، جرى التخطيط في المكتب المشار إليه لتنفيذ أعمال إرهابية عابرة للحدود. وتم تخصيص مبلغ يصل إلى نحو 30 مليون دولار لهذا الغرض، وفقا لمصادر التحقيقات.

مصراتة في الواجهة
ويقول مصدر أمني مقرب من المجلس الرئاسي الليبي إن قيادات سياسية وعسكرية تنتمي لمدينة مصراتة اكتشفت هذا النشاط الذي رأت أنه «يسيء لمصراتة التي قدمت آلافا من أبنائها بين قتيل وجريح أثناء محاربتهم المتطرفين في سرت». وبدأت إجراءات التحقيق التي يشارك فيها مسؤول مهم في الاستخبارات العسكرية الليبية. ومن بين المقترحات التي جرى التعاطي معها لكبح جماح نشاط المكتب المشار إليه، مصادرة الأموال التي تم تخصيصها للمجموعات الليبية والعربية المتطرفة. ويشمل ملف التحقيق - وفقا للمصدر نفسه - تسجيلات فيها تخطيط «ديكنة» و«مرجيني» لتنفيذ عمليات تخريبية قبل أيام من تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة. وما زال البحث عن الرجلين مستمرا عبر عدة دول في المنطقة.
ويعتقد رجال الأمن أن هناك معلومات جديدة ومهمة عن خطط أخرى لتنظيم داعش في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا انطلاقا من ليبيا. ومن هذه المعلومات أن من بين قيادات «داعش» التي فرت من العراق وسوريا إلى ليبيا أخيرا رجلا لبناني الجنسية يدعى «أبو طلحة»، وتونسيا يلقب بـ«أبو حيدرة»، وجزائريا يعرف بـ«مُعِز»، وصوماليا يدعى «حسن»، إضافة إلى اسم القائد الجديد لما يسمى «ولاية طرابلس» ويدعى «أبو حذيفة المهاجر».
وتشير المعلومات إلى تحركات تقوم بها مثل هذه القيادات في ضواحي طرابلس الغرب وما حولها. وهذا في حد ذاته أمر مربك للمحققين، لأن «أبو طلحة» و«أبو حذيفة» كان يعتقد أنهما قتلا في الهجمات التي تشنها القوات العراقية المدعومة دوليا على تنظيم داعش في الموصل. وبدأت عملية طويلة من إعادة ترتيب الأوراق وتسلسل الأحداث لمعرفة ماذا يجري على الساحل الليبي المواجه لأوروبا الذي يبلغ طوله ألفي كيلومتر.
قضبان السكك الحديدية التي تتحرك عليها المجموعة التابعة لكل من «ديكنة» و«مرجيني» تختلف تماما عن قضبان السكك الحديدية التي يسير عليها قطار الدواعش القادمين من العراق وسوريا، لكن التحقيقات تقول إن هذين الطريقين يتلاقيان أحيانا في بعض التقاطعات. ويتعاونان أيضا.
فالمجموعة التي فيها «أبو طلحة» دخلت إلى ليبيا بمساعدة من قيادي يشرف أساسا على تحركات «ديكنة» و«مرجيني». لكن مركز انطلاق هذين الأخيرين كان من خلال فرع مكتب في بلدة مصراتة يديره زعيم سياسي لحزب ديني.
أما تحركات مجموعة الدواعش فتتركز في كل من طرابلس والخُمس وصبراتة والزاوية، وكلها قريبة من الحدود مع تونس. ويديرها رجل مقرب من الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي. وهذا الرجل ما زال يقيم في الموصل على ما يبدو، ويدعى «الشيخ ياسين».

تعاون أمني إقليمي
ويظهر أن تعاون رجال الأمن في منطقة الشرق الأوسط قادر على فك الكثير من الطلاسم. فاسم «أبو طلحة» اللبناني موجود أيضا في ملفات قديمة، حيث كان من بين مجاميع متطرفة تنشط في آسيا، خاصة أثناء محاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومن الأوصاف المذكورة عن ملامحه التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر أنه ذو وجه مستدير وشعر أشقر، ويميل إلى التحدث في تخاطبه اليومي مع الآخرين باللغة العربية الفصحى المتقنة.
كما يسود اعتقاد أن المرة الأولى التي دخل فيها «أبو طلحة» إلى ليبيا كانت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث وصل إلى مدينة سرت عبر زورق بحري رفقة «أبو حيدرة» و«أبو الزبير الدمشقي» وآخرين. ثم اختفى وعاود الظهور في ليبيا مجددا بعد تزايد الضربات ضد «داعش» في الموصل.
ويعود الظهور الجديد لـ«أبو طلحة» في المناطق القريبة من طرابلس إلى منتصف الشهر الماضي. ومنذ ذلك الوقت بدأ ينشط بقوة في أوساط الدواعش، خاصة في مدينة الزاوية التي جرى فيها رصد تعاون عسكري بين قيادات التنظيم المتطرف وقيادات من جماعة «ديكنة» و«مرجيني»، خلال حرب الزاوية التي أحرقت أطراف المدينة في الأسابيع الأخيرة.
ووفقا للمصادر الأمنية يعد لواء الفاروق الداعشي الذي له وجود في كل من مصراتة والزاوية أحد المشتركات بين المجموعتين المشار إليهما. ويقود لواء الفاروق في الزاوية رجل ليبي يدعى «هدية». بينما يتولى «أبو طلحة» الإشراف بنفسه على فرع مصراتة بعد مقتل قائده «غليو» في الحرب في سرت مطلع الشهر الجاري.
وجرى جلب غالبية المنتمين للواء الفاروق منذ البداية، من جماعة «أنصار بيت المقدس» التي تنشط أساسا في سيناء بمصر، ومن بقايا لجماعة الإخوان المصريين المبعثرين في عدة دول بالمنطقة منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي... بالإضافة إلى مقاتلين تونسيين من جبل الشعانبي منتمين لما يعرف بـ«أنصار الشريعة». وتدرب كل هؤلاء لبعض الوقت في معسكر يقع في بلدة تاورغاء المهجورة قرب مصراتة.
المحزن في الأمر أن مجموعة داعشية جرى القبض على خمسة منها في نهاية المطاف، الأسبوع الماضي، يتبعون «أبو طلحة»، شعروا منذ وقت مبكر من هذا الشهر بوجود ملاحقة لهم. واتهمت مجموعة «أبو طلحة» في منطقة الخُمس عائلة رجل يسمى «إحميدة» بأنه هو من يبلغ بتحركاتهم. وعلى هذا قتل الدواعش «إحميدة» في منزله مع ابنيه الاثنين وابنته. واتضح فيما بعد أن الرجل لا علاقة له بالأمر من قريب ولا من بعيد، لكن هذا كان بعد فوات الأوان.
وبينما كانت تحركات المجموعة الإخوانية الليبية، انطلاقا من مصراتة، بمن فيها الرجلان الغامضان «ديكنة» و«مرجيني»، تستهدف الخارج، كان نشاط الدواعش يصب في اتجاه عكسي، أي من الخارج إلى الداخل، خاصة من العراق وسوريا. ويعتقد أن من دخلوا ليبيا في الأسابيع الأخيرة قادمين من الموصل، يحملون كنزا من المعلومات. لكن وصول أجهزة الأمن إلى تفاصيل كل ما يدور في ليبيا يبدو أمرا صعب المنال في ظل الفوضى التي تعم هذا البلد.

مؤشرات للمستقبل
بيد أن ما جرى التوصل إليه حتى الآن يمكن أن يكون مؤشرا لما قد يحدث في المستقبل. وتتضمن المعلومات التي جرى تسريبها خططا غامضة مبنية على رموز معقدة للتنظيم المتطرف في كل من ليبيا ومصر وتونس والجزائر ومالي إضافة لأوروبا. ويبدو حتى الآن أن هذه الخطط جرى وضعها على أيدي قادة التنظيم في العراق وسوريا وهم يشعرون بقرب الهزيمة هناك.
ومن بين المعلومات التي رشحت أن عددا ممن تم نقلهم من التنظيم من العراق وسوريا إلى ليبيا بلغ حتى منتصف هذا الشهر نحو ألف عنصر. وفيها أيضا أن قائد تنظيم داعش في مصر يلقب بـ«أبو إكرام» ويقيم في ليبيا، ومسؤول عن سيناء والإسكندرية والقاهرة.
وجرى تكليف «أبو حذيفة» بالإشراف على نشاط الدواعش على الحدود الليبية مع الجزائر ضمن مسؤولياته عن نشاط التنظيم في الجنوب. وفيما يتعلق بخطط «داعش ليبيا» في تونس فقد تبين وفقا للمعلومات التي أمكن التوصل إليها، وجود تعليمات بسحب تجمعات الدواعش من منطقة جبل الشعانبي التونسية، ونشرهم في الأوساط العامة لكي يتجنبوا أي عملية استهداف من جانب السلطات التونسية، وكذلك تحويل النشاط الداعشي إلى الجنوب التونسي خاصة في مدينة القصرين.
ووفقا لعملية تبادل لمعلومات استخباراتية بين أجهزة أمنية تعمل في المنطقة، فقد جرى الربط بين «أبو طلحة» عقب وصوله إلى ليبيا أخيرا، وخلية إرهابية تنتمي لـ«داعش» في دولة بلجيكا يقودها رجل عراقي يلقب بـ«أبو الأشعب»، وخلية أخرى في فرنسا يقودها مغربي يلقب بـ«أبو قداد». ومعروف أن هذين البلدين شهدا نشاطا دمويا لـ«داعش» خلال الشهور الماضية.
أما فيما يتعلق بـ«ديكنة» الذي تلاحقه عدة أجهزة أمنية في المنطقة، فتقول معلومات جديدة إن لديه مقرا آخر خارج مصراتة يقع في العاصمة طرابلس، وجرى رصد عملية تحويل منه لمبلغ خمسين ألف دولار وتسلمه أحد أقاربه في هذا المقر قبل يومين. ويقول مسؤول أمني: التحويل جرى من خارج ليبيا، دون مزيد من التفاصيل. لكن هذا في حد ذاته يشير إلى أن «ديكنة» ربما ما زال خارج ليبيا بالفعل.
وتضيف معلومات أشرف عليها مسؤول في المخابرات العسكرية المختصة بمنطقة شرق طرابلس، أن مطار مصراتة استقبل خلال الأسابيع الماضية مجموعات من حركة حماس ومن جماعة أنصار بيت المقدس، وأن هؤلاء عقدوا اجتماعات في المكتب الإخواني المشار إليه، ما أثار حفيظة السلطات الأمنية في المدينة. ووجه المسؤول الاستخباراتي أسئلة بهذا الخصوص إلى المكتب الإخواني بالمدينة، فأجابه بأن هذا نشاط حزبي ومن جاءوا هم ضيوف على الحزب.

نشاط غير مسبوق
ورفع المسؤول الاستخباراتي مذكرة إلى أعضاء في المجلس الرئاسي من بينهم مختص بالأمن القومي، ذكر فيها أن الاجتماعات التي تعقد في المكتب الإخواني في مصراتة «موجهة ضد مصر» و«تتضمن إدارة مجموعات للتخريب في مصر يجري تدريبهم في منطقتي زوارة والزاوية (قرب طرابلس)». وبالإضافة إلى اسمي «ديكنة» و«مرجيني» ظهر اسم ثالث لرجل ليبي يدعى «حويتة»، يقوم بالتنسيق العابر للحدود بين المجاميع العربية المتطرفة انطلاقا من الأراضي الليبية، وقالت المذكرة إنه يعد الأخطر من بين من شاركوا في اجتماعات المكتب الإخواني أخيرا.
ويقول مسؤول في الاستخبارات الليبية على علاقة بالمجلس الرئاسي، إن أعضاء في المجلس تسلموا عدة مذكرات عن نشاط كبير وغير مسبوق لقيادات من عدة تنظيمات من بينها أنصار بيت المقدس (معظمهم مصريون) وجماعة الإخوان (بينهم ليبيون أحدهم عضو في التنظيم الدولي) وتنظيم داعش (منهم فارون من الحرب في العراق وسوريا) وتنظيم القاعدة (معظمهم ليبيون).
وأضاف أن من بين هذه المذكرات ما قدمه مسؤول في فرع الاستخبارات العسكرية في شرق العاصمة الليبية، وتبين منها أن معظم تلك التنظيمات استغلت انشغال القوات التابعة للمجلس الرئاسي في الحرب على «داعش» في سرت طيلة الشهور الخمس الماضية، واتخذت لها مقرات لإدارة عمليات داخلية وأخرى عابرة للحدود، انطلاقا من مدن ومناطق «مصراتة» و«الخُمس» و«الزاوية» و«زوارة» و«مسلاتة».
وكشفت تقارير أمنية ليبية اطلعت «الشرق الأوسط» على جانب منها خلال اليومين الماضيين، عن أن آخر الأفواج التي دخلت ليبيا تضم عناصر خطرة من مصر وتونس والعراق وسوريا وغيرها. وعلى صعيد الموقف في مدينة سرت، التي جرى الإعلان عن تحريرها من الدواعش الأسبوع الماضي، تقول أحدث معلومات فريق الاستطلاع في مصراتة عن الوضع في سرت إنه جرى رصد تنظيم داعش وهو يعيد رص صفوفه فيها من جديد، مع توافد مقاتلين من العراق وسوريا على المدينة، وإن «أبو حذيفة» يتولى ترتيب هذه العملية، حيث قام بزيارة إلى سرت يوم 19 من الشهر الجاري.
ويبدو التطور في عمل المتطرفين في ليبيا مثيرا للقلق في أوساط الاستخبارات الليبية والقيادات السياسية في طرابلس الغرب. ووفقا لمصادر عسكرية مسؤولة عن مناطق شرق العاصمة الليبية، وتتعاون مع حكومة الوفاق الوطني، فقد جرى إخطار كل من الأمم المتحدة وأطراف عربية وأوروبية بالخطر الجديد.
وفي اليوم التالي من اجتماعات القاعة القريبة من مطار القاهرة بدا أن هناك اتفاقا بين أطراف من عدة دول على مواصلة التعاون وبذل مزيد من الجهود لملاحقة قيادات المتطرفين، خاصة أولئك الذين يتخذون من ليبيا مركزا للانطلاق في دول الجوار وعبر البحر المتوسط.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.