ليبيا في قبضة الميليشيات

تتصارع على حكم طرابلس... وعمليات «الجيش الوطني» طردت معظمها إلى غرب البلاد

ليبيا في قبضة الميليشيات
TT

ليبيا في قبضة الميليشيات

ليبيا في قبضة الميليشيات

لا يمكن الجزم بما إذا كانت العمليات العسكرية الكبرى الجارية في ليبيا، منذ قرابة العامين حتى اليوم، تهدف إلى تقليم أظافر مئات الميليشيات المدججة بالأسلحة الثقيلة، وفقا لخطة معدة مسبقا، أو أن التطورات والتداعيات والاحتراب تسببت كلها في تغيير مواقع هذه الميليشيات مؤخرا، وانحصارها في المنطقة الغربية من البلاد، ومن ثمَّ انشطار كثير منها إلى مجاميع أكثر اختلافا وصراعا مما كانت عليه في الماضي القريب. تأتي هذه التساؤلات في وقت يحاول فيه المجلس الرئاسي، برئاسة فايز السراج المدعوم دوليا، إيجاد قوة يعتمد عليها في فرض سيطرته على البلاد وعلى العاصمة الغارقة في الفوضى. وفي حين تبدو فرص التوافق بين السراج، وقائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر، ضعيفة، تجري الآن محاولة لتأسيس قوة شبه نظامية لكي تحل محل الميليشيات التي نزح معظمها إلى طرابلس بسبب هزائمها في الشرق وفي مناطق بالجنوب أمام قوات حفتر.
ومما ينذر بمزيد من الاقتتال بين الميليشيات داخل العاصمة وجود حكومتين فيها، واحدة برئاسة السراج والثانية برئاسة خليفة الغويل. وكل من هاتين الحكومتين لديها من يساندها من المجاميع المسلحة داخل طرابلس، بما فيها تلك المجاميع التي انتصرت مؤخرا في الحرب على تنظيم داعش في مدينة سرت الواقعة في الشمال الأوسط من البلاد، على بعد نحو 400 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس. ويجري الاحتشاد في الوقت الراهن بين الميليشيات التي أصبحت تستعد لمقاتلة بعضها بعضا بعد أن كانت حتى أشهر قليلة مضت في حلف كبير ضد حفتر.
اليوم أصبحت توجد ثلاثة أنواع من المجاميع الميليشاوية في غرب البلاد... النوع الأول جهوي. وهذا يتركز في مدينة مصراتة الثرية، مثل «كتيبة المحجوب والحلبوص» إضافة للمجلس العسكري للمدينة، وفي عدة ضواحي في طرابلس مثل ميليشيات وكتائب التاجوري وكاره والمتحركة وسوق الجمعة وفرسان جنزور، وغيرها. وفي مناطق أخرى من غرب العاصمة مثل الزنتان والزاوية وورشفانة.
وكل ميليشيا تقريبا لديها جهاز مخابرات صغير خاص بها ولديها سجن ومساجين وترتكب فظائع بعيدا عن سلطة القانون، مثل معسكر معيتيقة بالعاصمة الذي يوجد فيه نحو ألفي محتجز. ووقعت أعمال تعذيب، ضمن المنافسة على بسط النفوذ داخل العاصمة أدت إلى القتل مثلما جرى مع الشيخ نادر العمراني. وآخر الضحايا مصري متطرف اسمه حسام محمود جرى تصفيته يوم الاثنين الماضي في استراحة أحد قادة الميليشيات وذلك بعد تسرب معلومات عن تعاونه مع ميليشيا منافسة.
ويشار إلى أن أغلب المدن الليبية، وبخاصة في الغرب، ما زالت تحتفظ بمجالس عسكرية أسستها أثناء الثورة على معمر القذافي. ويحاول كل مجلس عسكري، وبخاصة في المناطق المهمة بالعاصمة وما حولها، استقطاب الميليشيات لتعزيز قوته ونفوذه، كما حدث في بلدتي صبراتة والزاوية. ويبدأ راتب عضو الميليشيا من نحو 300 دولار ويصل إلى أضعاف هذا المبلغ لمحترفي القنص وقيادة الدبابات. والقسم الأكبر من المخصصات المالية يأتي من خزينة الدولة.
والنوع الثاني ميليشيات مذهبية لديها فهم خاص ومزاعم عن تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة دولة دينية، منها ميليشيا أبو سليم التي توجد شكوك عن تعاونها مع «داعش». وأبرز هذه الميليشيات «كتيبة الفاروق» التي لها فرع في مصراتة وفرع في مدينة الزاوية، وهي ميليشيا «داعشية» بالأساس. وبعد تعرض «داعش» لضربات في سرت بدأت عناصره في التمركز في منطقتي الخُمس ومسلاتة قرب العاصمة، وبعض البلدات الصحراوية في الجنوب.
وتحصل ميليشيات «داعش» على الأموال والدعم من جهات غامضة من وراء البحر. وهناك الميليشيات التابعة للجماعة الليبية المقاتلة الموالية لتنظيم القاعدة، ومركزها طرابلس. وميليشيات «الغرياني» وهي خليط من جماعة الإخوان ومنشقين عن الجماعة المقاتلة. وينتشرون بين طرابلس ومصراتة والجفرة (جنوب سرت). وأغلب هؤلاء تتدفق إليهم الأموال من طريقين. الأول مخصصات باسم وزارتي الجيش والداخلية أي من خزينة الدولة، والثاني أموال خاصة تأتي عبر الحدود سواء في شكل أموال سائلة أو أسلحة ومعدات حربية ومقاتلين أجانب.
أما النوع الثالث فيطلق عليه البعض هنا «ميليشيات المرتزقة» ويقودها تجار بشر وسلاح يقومون بجلب المقاتلين والأسلحة من دول أفريقية وآسيوية وتسليم «البضاعة» لمن يريد من باقي الميليشيات الجهوية والمذهبية نظير مبالغ مالية كبيرة. ويحصل السمسار على مبلغ يصل إلى نحو نصف مليون دولار في مقابل جلب خمسين مقاتلا مدربا وذا خبرة من دول الجوار. ويتقاضى المقاتل من هؤلاء مبالغ تتراوح بين ألف دولار وألفي دولار في الشهر سواء شارك في الحرب مع الميليشيا أو لم يشارك. وآخر من وصل من هذا النوع مجموعة أفارقة تمركزوا في منطقة الجفرة. وقام بجلبهم سمسار من الزنتان لصالح ميليشيات تحاول استعادة الموانئ النفطية من سيطرة حفتر. وهدد السمسار، وهو عسكري سابق، بسحبهم حين تأخرت عنهم رواتب الشهر الماضي.
وأشهر مجموعة ظهرت مؤخرا من هذا النوع من المقاتلين الأجانب الذين يغذون الميليشيات الليبية، ما أصبح يعرف بـ«كتيبة جامعي القمامة»، بسبب تهريبهم في الملابس البرتقالية لجامعي القمامة. ويبلغ عددهم نحو مائتي مقاتل من متوسطي التدريب ويبلغ راتب الواحد منهم نحو 500 دولار، وجرى جلبهم من شمال مالي إلى أحد القيادات السياسية في مدينة مصراتة. ثم حاول هذا القيادي التخلص منهم خوفا من العقوبات الدولية، وقام بمنحهم لميليشيا تدين له بالولاء في طرابلس.
ومنذ سقوط نظام القذافي في 2011 ورث المسلحون المنتفضون الذين كانوا مدعومين من حلف شمال الأطلسي «الناتو» معسكرات الجيش الليبي وأسلحته. أما الروافد الأساسية للميليشيات فكانت تتمثل، بعد القذافي، في المجالس العسكرية للمدن التي تشكلت أثناء الانتفاضة من شخصيات منشقة في الجيش والشرطة والمخابرات، مع مجاميع من المتطوعين المدنيين، لكن بمرور الوقت تمكنت قيادات جهوية وأخرى دينية متشددة من الإمساك بزمام الأمور، وطرد المخالفين لهم وحرمانهم من تقلد أي مناصب رسمية. كما جرى طرد البرلمان المنتخب إلى أقصى مدينة في الشرق الليبي.
ومن أبرز أسماء قادة الميليشيات ممن ظهروا من طرابلس على سطح الدولة عقب سقوط نظام القذافي، شخصيات من مواليد الستينات، كانت تحارب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، من بينهم عبد الحكيم بلحاج، وخالد الشريف، وسامي الساعدي، وعبد الوهاب قايد وغيرهم. وفي مقابلة سابقة مع بلحاج قال إنه أسس حزبا سياسيا ولم تعد له علاقة بالميليشيات.
لكن تقارير أمنية رصدت في الأسابيع الأخيرة نشاطا محموما لجمع الأسلحة وتدريب المقاتلين من جانب ميليشيات موالية لبلحاج في مناطق داخل طرابلس وأخرى مجاورة لها من ناحية الغرب. وعلاقة بلحاج جيدة مع المجلس الرئاسي ومع جماعة الإخوان ومع بعض من رفاقه القدامى ممن عادوا إلى ليبيا من أفغانستان، وشكلوا ميليشيات خاصة بهم في طرابلس مثل الساعدي.
ومن جانبه، شغل الشريف موقع وكيل وزارة الدفاع في حكومات ما بعد القذافي لفترة، ويتولى في الوقت الحالي إدارة سجن الهضبة الذي يوجد فيه قادة كبار من النظام السابق، ولديه قوات كبيرة على طريق مطار طرابلس، ويمتلك إمكانية تسيير دوريات في العاصمة. ويقول إن السجن يتبع وزارة العدل الليبية. لكن مسؤولا أمنيا في العاصمة قال إن هذا أمر يجري معظمه على الورق فقط.
وحشد الشريف رجاله قبل أسبوع لمنع ميليشيات منافسة من اقتحام مبنى السجن. ويقول إنه يسعى لترسيخ الاستقرار في العاصمة والدفاع عن مبادئ الثورة. لكنه لم يعد على درجة الوفاق القديم نفسها مع رفاق الجبهة الأفغانية مثل بلحاج، والساعدي الذي يشغل حاليا موقع عضو دار الإفتاء ورئيس هيئة العلماء المسلمين في ليبيا.
وولد الساعدي في طرابلس عام 1966 في السنة نفسها التي ولد فيها بلحاج. وبدأ الرجل حياته أديبا وشاعرا، وكان محبوبا من المقاتلين الأفغان، ومن أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة. وحتى يومين ماضيين كان الساعدي يدير محاربيه انطلاقا من مصراتة، لكن تعدد الميليشيات في تلك المدينة وتربص بعضها ببعض جعل أصدقاءه من جماعة الإخوان ينصحونه بسرعة الانتقال بمقاتليه إلى طرابلس خوفا من تعرضهم للأذى. ويعد الساعدي حاليا من أكثر المقربين من مفتي البلاد المعزول من البرلمان، صادق الغرياني.
ولا توجد معلومات كثيرة عن خلفية عبد الوهاب قايد، ربما بسبب نشأته في بلدة مرزق النائية في جنوب ليبيا، وانطلاقه منها إلى أفغانستان في سن مبكرة. لكن أشهر ما هو معروف عنه أنه شقيق أبو يحيى، نائب الظواهري. وقتل أبو يحيى في غارة أميركية في باكستان عام 2012. ويعاني قايد في الوقت الحالي من أزمة صحية ويعالج في أحد المشافي خارج ليبيا. ويقول تقرير أعدته المخابرات الليبية إن توليه مسؤولية حرس الحدود والمنشآت الحيوية والاستراتيجية، عقب مقتل القذافي، سهل له جلب محاربين مرتزقة من دول أفريقية لصالح جماعته «الليبية المقاتلة».
ويرصد التقرير أن عزوف الليبيين عن الالتحاق بالميليشيات المسلحة أو الاشتراك في حروبها أدى خلال العامين الأخيرين إلى اتساع تجارة استيراد المقاتلين من دول الجوار ومن بلدان أخرى، ليس لصالح ميليشيات الجماعة المقاتلة فقط، ولكن لميليشيات منافسة أخرى بما فيها تلك التابعة لتنظيم داعش. وجرى نقل «كتيبة جامعي القمامة» في سيارات الدفع الرباعي عبر الصحراء بهذه الطريقة. ويلقب بعض رجال المخابرات المساندين للميليشيات عبد الوهاب قايد بـ«الفهد الأسود» و«رجل المهام الصعبة».
بالعودة إلى الماضي، يقول سالم أبو جديدة، القيادي السابق في ميليشيا 17 فبراير (شباط)، التي تأسست في بنغازي في 2011، إن منتمين لمدن بعينها وآخرين من جماعات متطرفة، كان لديهم حرص منذ بداية الثورة على الاستحواذ على أسلحة الجيش من معسكرات القذافي وتخزينها في مواقع خاصة بهم بعيدا عن أعين باقي الثوار. ويضيف: «لم نكن نعلم إلى أين يتجهون بها. كان من حقنا بصفتنا مجلسا عسكريا لثوار بنغازي أن نعرف لكن الأمور بدأت تتغير إلى الأسوأ... أصبحت كل جماعة تشكل ميليشيا تعمل لحسابها... فيما بعد صوبوا تلك الأسلحة إلى صدورنا وطردونا من الساحة».
ومن جانبه، يقول إسماعيل الغول الشريف، النائب في البرلمان الليبي عن بلدية الجفرة، التي كان يوجد فيها أكبر مخازن لسلاح الجيش في عهد القذافي، إن كل هذه المخازن أصبحت خاوية على عروشها ولم يعد فيها طلقة واحدة بعد أن كانت ممتلئة عن آخرها بالدبابات والمدرعات والصواريخ والقذائف والذخيرة. وانتشرت هذه الترسانة من الأسلحة في أيدي ميليشيات ليبيا. وقام اللصوص ببيع جانب منها لمن يطلبها في دول الجوار، خصوصا في أفريقيا.
وفوق ترسانة الأسلحة التي استحوذت عليها، جلبت قيادات متطرفة للميليشيات، بعد أن وضعت يدها على مؤسسات الدولة، آلاف الأطنان من الأسلحة الحديثة ومنظومات التجسس والمراقبة. ويقدر عدد قطع السلاح في أيدي الميليشيات حاليا بنحو 20 مليون قطعة.
ومما ساعد على تقوية الميليشيات لنفسها استيلاؤها أيضا على أرشيف المخابرات والأمن في طرابلس، وتقاسمها السيطرة على مطارات وموانئ بحرية ومعسكرات الجيش في المنطقة الغربية داخل العاصمة وفي محيطها مع ميليشيات أخرى، واتسع على هذا نشاط الهجرة غير الشرعية عبر المراكب في البحر المتوسط، وتحول قادة المجاميع المنفلتة إلى حكام على ضواحي طرابلس، وانتشرت أعمال القتل والنهب وسرقة المصارف ومحال المجوهرات وخطف المواطنين للحصول على فدى مالية من ذويهم.
ويقول رجب بن غزي، المحلل السياسي الليبي: «لم يعد أحد يطيق الحياة في العاصمة في ظل هذه الظروف. لا توجد خدمات. والرعب في كل مكان». ومما زاد من معاناة سكان العاصمة الذين كان عددهم يبلغ نحو مليوني نسمة، ارتفاع وتيرة الصراع على السلطة بين الميليشيات طوال السنوات الخمس الماضية. أصبح مستقبل طرابلس غامضا وأكثر تعقيدا من السابق بعد انسحاب غالبية المجاميع المسلحة من المنطقة الشرقية إلى العاصمة وضواحيها، بمن في ذلك مقاتلو الميليشيات المتطرفة ممن قدموا من بنغازي ودرنة وسرت، كما جرى قبل أيام طرد آخر بقايا الميليشيات من منطقة براك الشاطئ في الجنوب على يد عسكريين محترفين يعلمون تحت إمرة المشير حفتر.
ومما ساهم في إنهاء تواجد الميليشيات في الشرق الليبي التماسك القبلي الأكثر وضوحا مما هو عليه في طرابلس ودعم الجيش الوطني بغض النظر عن اسم من يقوده. يقول صالح بوخريس، من قيادات قبيلة العواقير في بنغازي والرئيس السابق لغرفة التجارة بالمدينة: «نريد دولة نشعر فيها بالأمان»، مشيرا إلى تمكن الجيش من فرض سيطرته على الشرق. لكنه يتطلع إلى المستقبل وهو ينظر إلى انتشار الميليشيات في غرب البلاد قائلا: «وماذا بعد؟».
وفي الجانب الآخر يشعر مارتن كوبلر، المبعوث الأممي إلى ليبيا، بالقلق من تزايد حشود الميليشيات في طرابلس، ويسعى لاستبدال حرس رئاسي بها يتولى تأمين العاصمة. ويقول إن هذا الحرس لن يكون بديلا عن «جيش ليبي موحد». وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى محاولة مماثلة كان رئيس الحكومة الليبية الأسبق، الدكتور علي زيدان، قد بادر للقيام بها وقتذاك، وهي ضم الميليشيات في جهاز اقترح أن يكون اسمه «الحرس الوطني»، إلا أن المهمة لم تكتمل بسبب مقاومة قادة الميليشيات لها. وبعد مرور أكثر من عامين على تجربة زيدان لا يبدو أن خطة كوبلر ستجد آذانا صاغية إلا إذا جدت في الأمور أمور.
* خلافات حول إعادة بناء مطار طرابلس الدولي
أحد قادة الميليشيات الكبيرة في العاصمة طرابلس يضغط على المجلس الرئاسي برئاسة فايز السراج من أجل الموافقة على صفقة يريد أن يمررها لصالح عدد من أصدقائه من رجال الأعمال الأتراك. تبلغ قمية هذه الصفقة نحو ملياري دولار وتخص إعادة بناء مطار طرابلس الدولي الذي كان قائد الميليشيا نفسها من المتسببين في إحراقه وتدميره أثناء الحرب بين ميليشيات طرابلس والزنتان في عام 2014.
وفي يوم السبت الماضي تقدمت ميليشيا منافسة اسمها «ميليشيا محفوظ» إلى محيط المطار المحترق لمنع دخول أي مستثمرين إلى المنطقة، بينما توجهت ميليشيا أخرى إلى مبنى المصرف المركزي في محاولة لمنعه من تخصيص الأموال المطلوبة لبناء المطار، وقامت ميليشيا ثالثة بالتمركز بأسلحتها وعناصرها قرب المطار للتدخل لصالح هذا الطرف أو ذاك. وقال مسؤول أمني في العاصمة: «بعض الميليشيات تؤجر نفسها لمن يدفع أكثر».
* سبائك الذهب وحظ «خشيبة» العاثر
وصلت معلومات إلى سبع ميليشيات على الأقل في طرابلس عن أهمية رجل اسمه «خشيبة». تقول المعلومات إن «خشيبة» مخزن أسرار قائد كبير في الجماعة الليبية المقاتلة ممن أصبح بعد سقوط نظام القذافي من أصحاب المليارات ويمتلك قصورا وفيلات وسيارات فخمة في عدة دول في البحر المتوسط.
وبدأ التنافس المحموم بين هذه الميليشيات للقبض على خشيبة لمعرفة باقي ثروة القائد، الذي كان حتى سنوات قليلة مضت مسجونا لدى المخابرات الدولية بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة. وتمكنت اثنتان من الميليشيات المتعاونة من القبض على خشيبة أخيرا في منطقة قرقارش بطرابلس، في عملية معقدة قادها رجل يدعى «طنيش» وجرى فيها استخدام جواسيس بالعاصمة ودفع أموال ضخمة. الميليشيا الأولى «داعشية» يقودها رجل يدعى المدهوني مقره في زوارة. والثانية يقودها رجل يدعى غنيوة مقرها في أبو سليم.
وبدأت عملية مشتركة من أبشع أنواع التعذيب لإجبار خشيبة على الكلام، وبعد أن شارف على الموت بدأ في الكشف عن مخابئ ما تبقى من ثروة الملياردير المشار إليه. وتقول التحقيقات في القضية إن المدهوني وغنيوة وباقي الميليشيات كان لديهم علم بأن الملياردير وضع يده أيام الفوضى في ليبيا في 2011 وما بعدها على أكثر من عشرة آلاف كيلوغرام من الذهب، إضافة لصناديق من العملات الأجنبية.
لهذا كان خشيبة صيدا ثمينا، خصوصا أن ما جرى إخراجه من ليبيا حتى ذلك اليوم لم يزد على عشر حقائب من سبائك الذهب تزن 650 كيلوغراما. وكشف خشيبة عن مكان جانب من كميات الذهب والأموال، وقال، وهو تحت سياط التعذيب وأسلاك الكهرباء، إنها مخبأة في كسارة حجارة مهجورة بمنطقة جبل قديح.
جانب آخر من الثروة كان في مقر سكني مغلق في سوق الخميس، وفي مزرعة للبطيخ والخضراوات، وفي منطقتي قرقاش وزناتة، وفي استراحة مهجورة على طريق خلة الفرجان. ودل خشيبة أيضا على من جرى نقل الأموال إليهم داخل ليبيا وخارجها من قيادات إخوانية وأخرى في الجماعة الليبية المقاتلة. وظهرت جثة خشيبة مؤخرا ملقاة على قارعة الطريق قرب ضاحية الأندلس في العاصمة.
* تعاون واحتراب وتعاون جديد
من الصعب أن ترصد تعاونا على طول الخط أو احترابا على طول الخط بين الميليشيات الليبية. وجاء اسم الميليشيات للقوى المسلحة على الأرض لأنها لا تتبع القوانين النظامية العسكرية المتعارف عليها سواء كانت ميليشيات جهوية أو مذهبية أو حتى «داعشية». فبعض ميليشيات مصراتة كانت تتعاون مع ميليشيات بنغازي رغم أن ميليشيات بنغازي كان فيها «دواعش». ثم حين بدأت مصراتة تقود الحرب ضد «داعش» ضمن عملية البنيان المرصوص، وجدت نفسها في مواجهة أصدقاء الأمس الذين انتقلوا من بنغازي للانضمام لدواعش سرت.
الحال نفسها بين الميليشيات التي يقودها زملاء سابقون في الجماعة الليبية المقاتلة؛ فبعضهم يؤيد المجلس الرئاسي وحارب مع قوات البنيان المرصوص، وبعضهم يؤيد مناوئيه وقدم دعما لدواعش سرت. وعلى سبيل المثال، يوجد تعاون وخيوط اتصال بين دواعش طرابلس وبعض عناصر مجلس أبو سليم العسكري في العاصمة، وبين ميليشيات الغرياني وميليشيات مصراتة، رغم أن ميليشيات الغرياني تقف ضد شن الحرب على «داعش» في ليبيا. وكذلك الحال بين ميليشيات جديدة لرجل يدعى الورفلي وميليشيات زميله أبو المنذر في طرابلس. وبعد أن كانا يتعاونان في تمرير صفقات الأسلحة والمقاتلين من جنسيات مختلفة، دخلا في اقتتال ضار قبل يومين بسبب خلاف على صفقة تضم سبعين شابا متطرفا جرى جلبهم من تونس.
وعموما ظهر خلال الحروب التي خاضتها الميليشيات بما فيها الحرب ضد «داعش»، عدم انضباط أو التزام بالأوامر ما تسبب في مقتل كثير من الشبان. فقد كانت بعض الميليشيات تنسحب فجأة بقرار منفرد وتترك جبهة الحرب وتترك ظهور الميليشيات التي تحارب معها مكشوفة للخصم.
* نهاية مدير السجل المدني
* في مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قتلت ميليشيا في العاصمة الليبية، الصديق النحايسي، مدير مصلحة السجل المدني وأحد مساعديه. وتشير التحقيقات الجارية حول هذه القضية إلى أن عناصر من الجماعة الليبية المقاتلة وراء تصفية الرجل ومن كان معه، بسبب رفضه الانصياع لطلب عدة ميليشيات تسجيل مقاتلين أجانب على أنهم ليبيون. وفي دولة تعاني من الفوضى قاوم مدير المصلحة رغبات قادة ميليشيات من طرابلس ومصراتة، لمنح ما يعرف بـ«كتيبات العائلة» لهؤلاء الأجانب، وهي كتيبات تشبه بطاقة الهوية لكنها تعطي الحق لحاملها في صرف أموال شهرية من المصارف يبلغ قدرها نحو 500 دولار. كان الخلاف الذي أدى لمقتل النحايسي يدور حول تسجيل 250 من المقاتلين المصريين والتونسيين والجزائريين والسوريين على أنهم ليبيون.
* ميليشيا تبيع معدات وأجهزة مطار طرابلس
* ميليشيا كبيرة في طرابلس يديرها عسكري سابق من مصراتة، تتعرض للابتزاز من قائد ميليشيا أخرى، يديرها رجل يدعى «الشركسي»، لها تواجد في كل من طرابلس ومصراتة والجفرة. الموضوع تحقق فيه جهات أمنية ليبية، ويدور حول تسجيلات فيديو لدى كتيبة الشركسي تزعم أنها تثبت قيام الميليشيا الأولى بنزع معدات مطار طرابلس قبل حرقه وبيعها لتجار في تونس.
ووفقا للتحقيقات، فإن كميات الألمنيوم وحدها التي جرى سرقتها من المطار وصل وزنها إلى خمسين ألف طن، وجرى تهريبها في شاحنات إلى تونس عبر الحدود البرية لصالح تجار تونسيين، وبلغت قيمة الصفقة من ألمنيوم وأجهزة ومعدات أكثر من عشرة ملايين دولار، واستمرت عملية النقل عبر عشرات الشاحنات لمدة أسبوعين. وتحقق الجهات المعنية في مزاعم الشركسي عن أن المطار جرى حرقه بعد الاستيلاء على ما فيه من معدات وهياكل ثمينة، وليس قبل ذلك كما يزعم القائد العسكري، الذي شارك في قيادة الحرب على ميليشيا الزنتان، التي كانت تتحصن في ذلك الوقت في المطار. وتتضمن تحقيقات الجهات المختصة عمليات نهب أخرى جرت لمعدات تخص الحقول النفطية خلال العامين الماضيين، منها سيارات ومولدات كهرباء وحواسب آلية وأطنان من الحديد وغيرها.
* ميليشيا تتخصص في سرقة الوقود
* في يوم من أيام شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سرقت واحدة من ميليشيات بلدة الزاوية ما يقرب من خمسة ملايين لتر من البنزين في يوم واحد من مصفاة المدينة للنفط التي تقع قرب طرابلس؛ جرت السرقة على يد ميليشيا يديرها رجلان الأول يلقب بـ«المصري» والثاني بـ«الحنيش».
وباستخدام المدافع المنصوبة على 20 من سيارات الدفع الرباعي، أجبرت الميليشيا نحو مائة شاحنة تحمل كل منها نحو 50 ألف لتر من البنزين على التوجه إلى الميناء البحري، حيث جرى إتمام صفقة البيع لصالح تاجر تونسي وآخر مالطي في البحر المتوسط.
والمثير في الأمر أن التحقيق في هذه الواقعة كشف عن تورط ميليشيا أكبر تتمركز قرب الزاوية في إدارة مثل هذه العمليات، وتعرف باسم «ميليشيا كشلاف»، عن طريق الاستعانة بميليشيات أصغر، بشكل يومي. ووفقا لتقديرات مسؤول في وزارة الداخلية الليبية، زادت الكميات المسروقة إلى نحو سبعة ملايين لتر يوميا من البنزين والديزل.
وتتجه التحقيقات الأمنية إلى فتح ملف سرقة النفط عموما على أيدي الميليشيات سواء تلك التي كانت تهيمن على موانئ التصدير في شرق أو في غرب البلاد.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».