لا يستطيع أحد التكهن بما سيحدث في إثيوبيا في مقبل الأيام، فالحكومة تقول إنها سيطرت على الأوضاع بعدما أعلنت حالة الطوارئ، والمعارضة صعّدت من لهجتها ومطالبها من التهميش إلى تغيير نظام الحكم. الحكومة تمسك بزمام الحكم بقوة، وتجد تأييدًا دوليًا وإقليميًا قويًا، وقوميتا الأورومو والأمهرا اللتان تقودان الاحتجاجات تستندان إلى ثقل سكاني كبير، لذا فإن صيف «الهضبة» المعتدل الذي رفعت درجة حرارته الاحتجاجات، قد لا يتطور قريبًا إلى شتاء ثقيل يعقبه ربيع على غرار ثورات «الربيع العربي». بل ما يحدث هنا في الدولة الأكثر نموًا في أفريقيا، والأكثر تأثيرًا ونفوذًا، يشبه لعبة «شد العضل»، قد تنتهي بارتخاء زند المعارضة أو زند الحكومة.. ومن يرتخي زنده أولاً هو الخاسر. ولكن لحسابات إقليمية ودولية كثيرة، فإن تطور الأوضاع فيها وبلوغها مرحلة الاضطراب غير مرغوب فيه، إذ الحكومة باعترافها بـ«مشروعية» المطالب وتعجيلها بتكوين مجلس وزراء جديد، تكون عمدًا قد أرخت قبضتها قليلاً.. لعل الطرف الآخر يدرك أصول اللعبة ويقبل بـ«التعادل الإيجابي» حيث الكل كاسب. أما إذا أصرّ المحتجون على مواصلة الضغط فإن الإقليم كله مهدد باضطراب كبير.
لقد اعترفت الحكومة الإثيوبية بالأخطاء التي أدت لاحتجاجات الأورومو والأمهرا الأخيرة، وأعلنت عن تشكيل وزاري أخيرًا أشركت فيه عددا كبيرا من المنتمين للقوميتين المحتجتين، بعدما حمّلت «جهات خارجية» في بادئ الأمر مسؤولية حدوث تلك الاحتجاجات، وخففت من لهجتها التجريمية للمحتجين.
وزير الشؤون الفيدرالية كاسا تكلي برهان قال في تصريحات نقلتها «الشرق الأوسط» من العاصمة السودانية الخرطوم، إن التشكيل الوزاري الجديد محاولة لـ«جعل الحكومة تشبه الشعب الإثيوبي»، وإن مطالب المجموعة المحتجة عادلة، وإنها تعبير عن اتساع تطلعات الشعب التي نتجت عن التنمية، وأضاف: «مطالبهم مشروعة لكن تحقيقها دفعة واحدة يعد امتحانًا للدولة، ولتقصير منّا نحن في الحكومة».
وتعد تصريحات المسؤول الإثيوبي البارز، الأولى من نوعها التي تعترف بشرعية الاحتجاجات، وتبين أن الحكومة في أديس أبابا راجعت موقفها من الاحتجاجات التي اعتبرتها «أعمالاً تخريبية» في بادئ الأمر، ومن ثم قمعتها بشدة. وأعلنت في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حالة الطوارئ في البلاد لمدة ستة أشهر، اعتقلت خلالها وفقًا لتقارير صحافية غربية 1600 نقلاً عن مسؤول حكومي إثيوبي.
ونقلت مجموعات حقوقية مقتل زهاء 500 شخص على الأقل خلال تلك الاحتجاجات، وهو الرقم الذي لم ينفه رئيس الوزراء هيلا مريام ديسالين بقوله وفقًا لـهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) «هذه التقديرات قد تكون دقيقة»، قبل أن ينحى باللائمة على ما يسميه «قوى معادية لحالة السلم».
وعلى الرغم من تجديد الوزير للاتهامات لكل من مصر وإريتريا بتأجيج الأوضاع في بلاده، فإن اعترافه بجذور الأزمة وشرعية المطالب، عبر قوله «التقصير منّا نحن في الحكومة»، يمكن أن يعتبر توجهًا جديدًا في التعامل مع القضايا الداخلية، والتخلي عن توجيه الأنظار إلى قوى خارجية مثلما تفعل أنظمة المنطقة عادة.
من ناحية ثانية، يؤكد اعتراف أديس أبابا أن الاحتجاجات والمظاهرات التي اشتعلت ضدها، ليست وليدة سخط شعبي طارئ، أو تعبيرًا عن مطالب سياسية أو مظالم اقتصادية فحسب، بل إنها مرتبطة عميقًا بتاريخ وجغرافيا وثقافة إثيوبيا الدولة التي قارب عدد سكانها المائة مليون نسمة، بعدما كان في حدود 79 مليونا وفقًا لتعداد عام 2008، ثار منهم أكثر من 60 في المائة نظموا الاحتجاجات التي اندلعت في البلاد منذ أغسطس (آب) الماضي.
ولا يمكن النظر إلى التعديل الوزاري الذي أعلنه رئيس الوزراء هيلا ماريام ديسالين بمعزل عن هذه الأوضاع، ذلك أن التعديل منح القوميتين المحتجتين أكثر من ثلث الحقائب الوزارية بينها وزارة الخارجية، في حين احتفظت قومية التيغراي التي توجه إليها أصابع الاتهام بتهميش الأورومو والأمهرا بأربع وزارات فقط.
ووفقًا للمحلل السياسي عبد القادر محمد علي في مقال نشر على موقع «عدوليس» الإريتري المعارض، فإن خطوة أديس أبابا يمكن أن تُفهم على أنها محاولة لتهدئة غضب الحركة الاحتجاجية، رغم النفي الرسمي لربطها بما يجري في البلاد، لكن المعارضة الأورومية كانت قد رفعت سقف مطالبها لإسقاط النظام. وبالتالي، اعتبرت التغيير «مجرد مناورة ومحاولة لذر الرماد في العيون»، ونقل عن زعيمها مرار غودنا نفيه وجود علاقة بين التعديلات الوزارية والمطالب الشعبية نهائيًا.
خلفية ديموغرافية
جدير بالذكر، أنه تسكن إثيوبيا أكثر من 80 قومية ومجموعة عرقية وثقافية، تمثل الأورومو منهم 34.5 في المائة، والأمهرا 26.91 في المائة، وتبلغ نسبة قومية التيغراي - التي يتهمها الثوار الغاضبون بتهميشهم - 6.07 في المائة فقط من جملة عدد السكان، لكنها اليوم تملك السلطة والثروة.
ولقد بدأت الاحتجاجات القومية منذ عام 2001، ثم تصاعدت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، وشارك فيها بداية طلاب المدارس والجامعات. ثم التحق بهم بقية السكان في إقليم أوروميا، ما تسبب في اضطرابات في أكثر من مائة مدينة وقرية، ويومذاك جرى التعامل بقسوة لافتة، ما أدى إلى مقتل أكثر من مائة قتيل، واعتقال الآلاف. وللعلم، يرفض الأورومو خططًا حكومية لتوسيع الحدود الإدارية للعاصمة أديس أبابا التي تقع في إقليمهم، واقتطاع أراضيهم وإضافتها لإقليم العاصمة، وتوزيعها على الاستثمارات الأجنبية. ويرون في هذه الخطط أنها أتت على حساب مزارعهم وأراضيهم وحياتهم الاجتماعية والثقافية التي تقوم على الأرض، وأنها تعد اعتداء على قوتهم وخصوصيتهم الثقافية.
ولكن مع مشاركة قومية الأمهرا – أكثر من 26 في المائة من نسبة السكان، التي كان ينسب إليها الإمبراطور السابق الراحل هيلاسيلاسي - في الاحتجاجات الأعنف التي اندلعت أغسطس الماضي، واتهامها الحكومة الفيدرالية بالتدخل في شؤون إقليمهم وعاصمته مدينة غوندر، اكتسب العمل المعارض شكلاً جديدًا. إذ ما زالت قومية الأمهرا تحتفظ بموقف سياسي سلبي من حكم الرئيس الراحل ملس زناوي - وهو من التيغراي -، وبالتالي حزبه وجبهته. وتتهمه بالتفريط في وحدة إثيوبيا والاعتراف باستقلال دولة إريتريا. كذلك لا تخفي موقعها المعارض هذا، على الرغم من تمثيلها في التحالف الحاكم والبرلمان.
الاحتجاجات ذات الطابع القومي، استعرت في الواقع لعشر سنوات، بيد أن تصاعدها في الأسابيع الأخيرة الماضية أعطاها زخمًا جديدًا، ودفع منظمات دولية للحديث عن قمع السلطات الإثيوبية للمعارضين وتقييدها للحريات العامة. بل وجعلها تنتقد صراحة «قمع الحريات الصحافية»، خاصة، أن إثيوبيا تحتل اليوم المركز الثاني في أفريقيا من حيث سوء أوضاع الصحافة. وهذا ناهيك من اتهام تدخل أديس أبابا في شؤون المسلمين، وعجز الائتلاف الحاكم عن تمثيل شعوب إثيوبيا، أو قومياتها المختلفة.
اتهامات.. ونفي
منظمة «هيومن رايتس ووتش»، في تقريرها الصادر في يونيو (حزيران) الماضي، ذكرت أن قرابة 400 إثيوبي لقوا حتفهم خلال الاحتجاجات الأخيرة، واعتقل أكثر من 20 ألف سياسي أورومي منذ مارس (آذار) 2014. واتهم التقرير الذي تنفي صحته حكومة أديس أبابا وتصفه بـ«الكاذب والملفق» الحكومة الإثيوبية بشن «حملة قمع وحشي ضد متظاهرين سلميين بشكلٍ عام».
ومن جانبه، يرجع فيصل محمد صالح، الصحافي والخبير في شؤون القرن الأفريقي، جذور الاحتجاجات الحالية إلى أيام حكم الرئيس الأسبق منغيستو هيلا ماريام ذي الطابع الماركسي. إذ استفز منغيستو قوى سياسية إثيوبية كثيرة. وفي الوقت ذاته، كانت قوى قومية تنظر إليه باعتباره امتدادًا لحكم قومية الأمهرا المسيطرة منذ عهد الإمبراطور هيلاسيلاسي.
ووفقا لصالح، فإن اعتبار الحكم في إثيوبيا امتدادًا لحكم جماعة عرقية أو قومية، تسبب في قيام معارضة قومية وعرقية، فنشأت عدة جبهات مناوئة ذات طابع مثل جبهة تحرير التيغراي وجبهة تحرير الأورومو وجبهة تحرير أوغادن (الممثلة للقومية الصومالية في جنوب شرقي البلاد). وفي تطور لافت دعمت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا (حيث الثقل السكاني للتيغرينيا أولاد عمومة التيغراي الإثيوبيين) التي كانت تحارب حكومات أديس أبابا مطالبة بالاستقلال، جبهات المعارضة الإثيوبية ودربتها.
يقول صالح إن الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا التي كان يقودها الرئيس آسياس أفورقي في ذلك الوقت، أسهمت في تمكين الزعيم الإثيوبي الراحل ملس زناوي، لأن مصالحهما الاستراتيجية تكمن في قيام حركات معارضة داخلية ضد النظام الذي يقاتلونه من أجل تحرير بلادهم. وتبعًا لهذا الحلف نشأت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا (EPLF) والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي (TPLF)، كحليفين استراتيجيين.
ولأن الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا كانت لها اليد العليا في التحالف، فقد كانت تدعم جبهة تحرير التيغراي بأفراد الجيش الإثيوبي الذين يقعون تحت أسرها، فيعيدون تجنيدهم لصالحهم، ثم تمدها بالسلاح وغيره «وكانت رؤية بعيدة صائبة». وأثمر التحالف بين الحركتين المسلحتين في إبراز وتقديم الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، في الوقت الذي وجدا فيه الدعم من الحكومة السودانية، لأنها هي الأخرى كانت تريد إسقاط نظام منغيستو لأنه يدعم حركة التمرد الجنوبية (الحركة الشعبية لتحرير السودانية) ضدها.
تغيّر الظروف
ويوضح صالح أن الظروف والمتغيرات الدولية أضعفت نظام حكم منغيستو، صاحب التوجه الاشتراكي، فاضطر للدخول في حوارات مع الجبهات المعارضة الداخلية والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا في أوروبا. وبفشل هذه الحوارات صعدت الجبهتان المسلحتان العمل العسكري، وشنتا هجومًا متزامنًا على العاصمتين الإثيوبية أديس أبابا والإريترية أسمرا، لإسقاط منغيستو واستعادة أسمرا من السيطرة الإثيوبية.
ولكن وقبل دخول الثوار أديس أبابا شكّل قادة التيغراي تحالفًا مع عدد من الجبهات القومية ضم حتى جبهة تحرير الأورومو، وبعد سقوط حكومة أديس أبابا كونوا «حكومة تنوع» برئاسة ملس زناوي (من التيغراي)، ترأس مجلس وزرائها تامريت لاين (من الأمهرا)، بجانب ممثلين عن القوميات الأخرى، وأطلقوا عليه مسمى «الجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي».
واستفادت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا من الاتفاق الاستراتيجي مع جبهة تحرير التيغراي، وحصلت بموجبه على حق تقرير المصير. ثم سيطرت في مايو (أيار) 1991 على إريتريا، وبعدها وافقت الجبهتان الإريترية والإثيوبية في يوليو (تموز) من ذلك العام على إجراء استفتاء بإشراف دولي. وبالفعل، أجري الاستفتاء في أبريل (نيسان) 1993 وفيه صوّت فيه الإريتريون بغالبية ساحقة تجاوزت الـ90 في المائة لصالح استقلال بلادهم، ووافقت إثيوبيا على نتيجة الاستفتاء، معترفة بإريتريا دولة مستقلة، ورفعت راياتها دولة مستقلة في 24 مايو 1993.
سيطرة التيغراي
لاحقًا، بدأ الحديث يتردد في إثيوبيا عن سيطرة قومية التيغراي على مقاليد الأمور. وأبدى بعض شركاء الحكم تململهم من هذه السيطرة وعلى رأسهم قادة الأورومو، ثم انضم إليهم آخرون ما كانوا مشاركين في التحالف الحاكم. ووفقًا لفيصل محمد صالح فـ«إن الأورومو الغاضبين انتقدوا بعنف ما سموه سيطرة التيغراي على قلب الدولة رغم تمسكهم الظاهري بالتحالف القديم، وسيطرتهم على حركة الاقتصاد والأعمال، واتجاه قادة كبار منهم نحو الأعمال، أشهرهم سبحت نقا، الذي يصنف بأنه الزعيم التاريخي والأب الروحي لجبهة تحرير التيغراي».
وكان التحالف الحاكم قد تبنى بادئ الأمر دستورًا فيدراليًا (اتحاديا) أعطى حتى حق تقرير المصير للقوميات الإثيوبية، ما جعله دستورًا نموذجيًا وقتها. غير أن الاتهامات توالت بأن حكومة أديس أبابا مارست قمعًا وحشيًا ضد القوميات، وأنها لم تلتزم بنظام الحكم الفيدرالي الذي يعطي كل إقليم الحق في حكم نفسه، ما جعله لا يبدو في نظر كثيرين نظامًا فيدراليًا حقيقيًا.
ولم تتوقف المعارضة ضد نظام الحكم. وبينما كان البعض يعارض من داخل البرلمان، صنع آخرون معارضة خارج البرلمان، بل إن بعضها كانت مسلحة تقوى وتضعف حسب تطور الأوضاع الإثيوبية. وحسب الخبير صالح «من الواضح أنها (أي المعارضة) في الآونة الأخيرة أصبحت كبيرة خاصة بين أفراد قومية الأورومو، التي مع أنها الأكبر من حيث الحجم، فهي الأقل حظوظًا في السلطة والثروة والتعليم، وبينها نسبة كبيرة من المسلمين».
ثم تزامن الغضب العرقي ضد الحكومة مع شكاوى من المسلمين (من الأورومو وغيرهم) الذين يزعمون أنهم يعانون من التهميش، والإبعاد عن مركز صناعة القرار، رغم اقتناعهم بأنهم أكثر عددًا من المسيحيين، وهنا نشير إلى أن الدولة الإثيوبية كانت تعد تاريخيًا دولة مسيحية مرتبطة بالكنيسة الأرثوذكسية.
ويذهب المسلمون إلى أكثر من ذلك بالقول إن الحكومة في نزاعها معهم فتحت الباب أمام مجموعات إسلامية أخرى، مثل مجموعة «الأحباش» - الذين يختلف مذهبهم عن المذاهب الأخرى - بسبب خوفها من تقدم «حركة الشباب الإسلامي» المتشددة في الصومال وكذلك «القاعدة» ومجموعات أخرى، فحاولت تغليب مذهب «الأحباش» لأنه مذهب سلمي لا يتبنى التطرف والعمل المسلح.
فشل بتلبية المطالب
ويقطع صالح أن الإطار الدستوري الإثيوبي لم يفلح في معالجة مطالب الاحتجاجات المتكررة، والمتمثلة في كيفية توزيع الأرضي واقتسام السلطة، والمشاركة السياسية والتهميش والتنمية غير المتوازنة. وهذا، بالإضافة إلى تفشي موجات قمع الصحافة والمدوّنين على الإنترنت، إذ يفيد «لا توجد حرية صحافة يقال عليها في إثيوبيا، مع أن الدستور يعطي حريات واسعة تبلغ حد تقرير المصير للمجموعات المختلفة، وكانت الممارسة العملية سلطوية وقمعية أدت لمزيد من الاحتقان أفرز الاحتجاجات الأخيرة». ويضيف أن «النجاح الاقتصادي الإثيوبي غطى في مرحلة ما على هذه التناقضات، وجعل العالم يتغاضى عن السياسات السلطوية والقمع الذي كان يمارسه النظام الحاكم». وبسبب النجاح الاقتصادي كانت إثيوبيا تقدم في المؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كـ«قصة نجاح» من العالم الثالث، فضلا عن كونها توصف بأنها الأقل فسادًا بين الدول الأفريقية.
وحقًا، شجعت قصة النجاح الاقتصادي بمعدل نمو سنوي قدره 10 في المائة على التغاضي عن القصور السياسي في التجربة، و«لكن - حسب الصحافي والخبير السوداني - الواضح أن النموذج ما عاد يستطيع السير أكثر، فالاضطرابات السياسية تهدد الاقتصاد والاستقرار والتنمية». وفي إشارة للتعديل الوزاري الأخير قال صالح «لا أعلم ما إذا كانت إعادة تشكيل الحكومة وتركيبها من جديد، يعكس فعلاً تغييرًا في النظرة السياسية لجبهة تحرير التيغراي، أم أنها مجرد تغيير شكلي يهدئ الأمور لفترة قليلة لتنفجر مرة أخرى». وهو يرى أن المجتمع الدولي «راهن على الاستقرار الإثيوبي، وعلى اعتباره نموذجًا تنمويًا يمكن أن يعطي إشارات إيجابية في الجوار المضطرب وغير المستقر اقتصاديا... والاقتصاد المتنامي والاستقرار السياسي أعطى إثيوبيا نفوذًا سياسيا كبيرًا في الإقليم، لكن هذه الاضطرابات إذا أثرت على الاقتصاد ستؤثر حتمًا على النفوذ الإثيوبي في المنطقة، وسيفقد الإقليم فرصة وجود دولة مركزية، لأن الفكرة الغربية مبنية على وجود دولة مركزية في الإقليم مستقرة ونامية اقتصاديا وتؤثر في الآخرين ليوكل لها بعض المهام».
وفيما يتعلق باتهامات إثيوبيا لكل من مصر وإريتريا بالضلوع في الاحتجاجات، يرى صالح أن إريتريا «أصلا لا تستطيع الاستثمار في النزاعات الإثيوبية بسبب ضعف إيراداتها ونفوذها وتأثيرها المحدودين، بل على العكس فإن إثيوبيا هي التي تؤوي المعارضة الإريترية... لكنها حتمًا تسعد بأي ململة ونزاعات في إثيوبيا». وهنا يشير أن هناك حساسية شعبية تاريخية بين البلدين ترفض فكرة انطلاق معارضة إحداهما من أراضي الأخرى: «فالمعارضة التي تعمل من إثيوبيا ترفضها جماهير إريترية كبيرة لأنها ترى أن خلافها وصراعها مع حكومة الرئيس آسياس أفورقي يختلفان عن خلافها مع إثيوبيا، وبالمقابل، توجد نفس النظرة عن الإثيوبيين».
وبعد مجيء ملس زناوي للحكم 1991 عبر جبهة تحرير التيغراي، ذات العلاقة القوية مع السودان، تحسنت علاقات إثيوبيا مع جوارها، عدا إريتريا تحت حكم آسياس أفورقي، قائد الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، بسبب النزاعات المتكررة بين الدولتين، والتي تفاقمت رغم العلاقة القديمة بين الزعيمين اللذين كانت علاقاتهما شديدة القرب عرقيًا وسياسيا خلال سنوات الثورة، كما أنهما ينتميان لقومية واحدة.
أما عن العلاقات المصرية الإثيوبية فإنها تعيش اليوم أسوأ فتراتها، وفاقمت منها مخاوف مصرية بسبب بناء إثيوبيا «سد النهضة»، الذي ترى فيه مصر تهديدًا لمصالحها المائية، في حين تعزز إسرائيل علاقاتها مع أديس أبابا، التي ارتفعت صادراتها إلى إثيوبيا بنسب كبيرة، وزار عدد من رجال الأعمال الإسرائيليين إثيوبيا مرات كثيرة.