من التاريخ: «صلح وستفاليا».. والقياس الخاطئ للتاريخ

من التاريخ: «صلح وستفاليا».. والقياس الخاطئ للتاريخ
TT

من التاريخ: «صلح وستفاليا».. والقياس الخاطئ للتاريخ

من التاريخ: «صلح وستفاليا».. والقياس الخاطئ للتاريخ

ما زلت أومن بأن الإنسان مقيد جزئيًا بتجربته، كما أن الدول قد تصبح أسيرة فكريًا لماضيها، وهذا شعور إنساني طبيعي. لكني من خلال هذا الباب نبهت مرارًا إلى خطورة محاولات تطبيق مسيرة التاريخ الأوروبي والغربي في كل بقاع العالم على أنها أمر مسلم به في العصر الحديث.
هذا خطأ فادح لا يزال كثيرون من الغربيين يقعون فيه، استنادًا إلى الحقيقة السابقة الذكر. ولقد تابعت المبارزة الفكرية بين مفكرين غربيين يطرحون فيها إمكانية تطبيق ما يعرف بمعاهدة «صلح وستفاليا» - التي وقعت في مدينتي أوزنابروك ومونستر بشمال ألمانيا، عام 1648، وأنهت الحرب الدينية في أوروبا المعروفة باسم «حرب الثلاثين سنة» - على الشرق الأوسط. وأذكر أنني تناولت هذين الحدثين في هذا الباب مرات كثيرة، باعتبارهما أساس مفهوم السيادة الذي بني عليه مفهوم الدولة الأوروبية الحديثة، بعدما خاضت الإمبراطورية الرومانية المقدسة حربًا ضروسًا بين معتنقي المذاهب البروتستانتية من ناحية، وبين البابا (رأس الكنيسة الكاثوليكية) والإمبراطور اللذين حاربا للإبقاء على الطبيعة الكاثوليكية للقارة الأوروبية من ناحية أخرى.
وفي هذا الإطار، نشر مقال في مجلة «نيو ستيتسمان» البريطانية، بعنوان «نهاية حرب الثلاثين سنة»، تطرق لكيف أنه يمكن لـ«صلح وستفاليا» أن يكون نموذجًا عظيمًا للتطبيق على الشرق الأوسط حاليًا، وقد كتبه ثلاثة من المفكرين الغربيين. المفكرون الثلاثة رأوا أن حال الشرق الأوسط اليوم يشابه حال أوروبا خلال القرن السابع عشر، وبدأوا طرحهم بالقول إن «حرب الثلاثين سنة» نشبت بسبب حالة التعصب الديني في أوروبا، وإن ما أشعل فتيلها كان تدخل الدول الخارجية على أساس مذهبي في هذه الحرب، وذهبوا أيضًا إلى القول إن معاهدة «الصلح» لم تخلق مفهوم السيادة المطلقة كما هو شائع، بل ما أسموه «السيادة المشروطة» على أساس وجود ضامنين خارجيين وداخليين للسلام في المناطق التي دارت فيها الحروب بعد إقرار السلام. ومن ثم، استخلص كتّاب المقال أن الشرق الأوسط اليوم في خضم صراع مذهبي، وأن التسوية تحتاج إلى خريطة جديدة، من خلال مؤتمر موسع تشارك فيه كل القوى، على غرار ما حدث في المدينتين الواقعتين بإقليم وستفاليا الألماني، أوزنابروك ومونستر، وذلك لفرض سيادة مشروطة لضمان الوئام الداخلي، وضمان التسامح الديني، باعتباره الأساس السياسي لأي تسوية.
على الفور، رد الكاتب سليم جان على هذا الطرح، من خلال مقال له نشر في مجلة «فورين أفيرز»، بعنوان «لا وستفاليا للشرق الأوسط: لماذا سيفشل هذا الإطار»، وناقش على أساسه فكرة المقال السابق ولفظها، على أساس أن تلك المعاهدة جمعت بين إقرار مفهوم السيادة والمنظومة العلمانية في أوروبا، وهو ما لم يتطرق إليه المقال السابق. وأكد على أن السلام لم يصنع التسامح الديني في الممالك الأوروبية لأن الفصل الديني كان قد حُسم بقوة السلاح خلال الحرب. وبالتالي، فإن التجانس الديني الداخلي كان نتاج وسائل قسرية نجمت عن هجرات واسعة للمذاهب المختلفة من المناطق التي كانت فيها أغلبية مذهبية مناوئة. ثم إن صراع الدول تحوّل من داخل القارة إلى خارجها، عبر ما هو معروف بالحروب الاستعمارية الخارجية.. التي نقلت بؤرة الصراع إلى المستعمرات على حساب الداخل الأوروبي. وبناء عليه، لا ينطبق نموذج «صلح وستفاليا» على الشرق الأوسط.
حقًا، أيًا كانت الحجج المطروحة، سواء المؤيدة لمفهوم انطباق «صلح وستفاليا» على الشرق الأوسط اليوم أو المعارضة له، فإن ما يهمنا إبرازه وجود مجموعة من الحقائق التي تجعل الحوار السابق مجرد رفاهية فكرية مضللة، بالنظر إلى الطبيعة والهيكل المختلف لـ«حرب الثلاثين سنة» عن الشرق الأوسط اليوم. وفي هذا السياق، فإنني أطرح ما يلي:
أولاً: لا خلاف على أن معاهدة «صلح وستفاليا» أنهت صراعًا طائفيًا في أوروبا، فالكيانات البروتستانتية كانت رافضة لفكرة «التزاوج السياسي - الديني» بين مكانتي الإمبراطور الروماني المقدس وبابا الفاتيكان التي ولّدت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد» للهيمنة على الحكم الأوروبي، ولكن في الحقيقة إن «حرب الثلاثين سنة» كانت تخفي في طياتها صراعًا سياسيًا عميقًا متأصلاً داخل الإمبراطورية، يتجسد في رغبة الزعماء الإقليميين في الاستقلال عن حكم الإمبراطور، ولقد وجد هؤلاء في التفتت المذهبي وسيلتهم للتخلص من السيطرة المركزية للإمبراطور. وطبعًا، هذا الأمر لا ينطبق أصلاً على الشرق الأوسط اليوم، لا من بعيد ولا من قريب، بل العكس هو الصحيح.
ثانيًا: واتصالاً بما سبق، كانت الكيانات السياسية الداخلية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة تتطلع إلى السيادة. ومن ثم، تولدت عن هذه الحرب اللبنة الأساسية لمفهوم السيادة كما هو متعارف عليه اليوم، وبالتالي فهي كيانات صغيرة كانت تسعى للتوسع السياسي الداخلي بفرض سيادة الحاكم، أي من المقاطعة أو الولاية إلى السيادة أو الدولة أو الدويلة. أما عن الشرق الأوسط، فإنه اليوم يشهد عملية تفتت لمفهوم الدولة ذاته وهياكله، وهكذا تكون هذه الفرضية معاكسة للواقع ولحركة التاريخ في الشرق الأوسط.. وهذا اختلاف حيوي يجعل من القياس على «وستفاليا» عملاً أقرب إلى المهاترة السياسية عن واقع جدلي ذي فائدة.
ثالثًا: يستند المقالان إلى أساس أن وسط أوروبا والإمبراطورية كانا يعانيان من مشكلة اضطهادات دينية، وهو أمر لا خلاف عليه مثبوت تاريخيًا منذ «الحروب الهاسية» إلى «حرب الثلاثين سنة»، مرورًا بحروب «الهوغونوت» في فرنسا بين البروتستانت (الكالفينيين في الأساس) والغالبية الكاثوليكية، إلا أن هذا ليس موجودًا في تركيبة الدول الشرق أوسطية، ذلك أن هذه الدول لم تبحر في الحروب الأهلية لأسباب مذهبية في الأساس، بل لأسباب سياسية أو قُل: عرقية بحتة. وبالتالي، فالدين ليس العنصر الحاكم في هذا الإطار، حتى وإن كانت بعض الفرق السياسية تلبس رداء الدين. ثم إن بعض الديكتاتوريات التي توارت في الشرق الأوسط لم تكن دولها تعاني من اضطهادات مذهبية، بل اضطهادات سياسية وتهميش اجتماعي واقتصادي، حتى مع الاعتراف بوجود بعض التفرقة المذهبية.
رابعًا: إن محاولة تطبيق عناصر «صلح وستفاليا» يمثل في واقع الأمر خروجًا عن نمط التاريخ، إذ لا بد من حماية مفهوم سيادة الدولة باعتبار أن الدولة هي حامية الحقوق الأساسية لشعوبها بكل مذاهبها وقطاعاتها وفئاتها. ومن ثم، فإن السيادة المطلقة للدولة على أسس مقبولة بعقد اجتماعي هي مصدر التسامح والتعايش بين أبناء الدولة الواحدة، حتى وإن اختلفت مذاهبهم، إذ إن مفهوم المواطنة اليوم هو أساس مفهوم التسامح، وهذا المفهوم لا يمكن أن ينبع من دون وطن، والوطن لا يتأسس إلا بالدولة وسلطاتها. أما فكرة «السيادة المشروطة»، فهي في حقيقة الأمر تمثل التحرك بعجلة التاريخ إلى الخلف، سواء لأهداف التفلسف العقيم أو لأهداف سياسية مغرضة.
خامسًا: إن تلميح المقال الأول إلى أن تقسيم الشرق الأوسط جاء لأسباب استعمارية، وأن «خريطة الشرق الأوسط The cartography» يجب أن تأخذ في الاعتبار الاختلافات العرقية والمذهبية بين الدول، على أساس تطبيق نموذج «وستفاليا» إنما يمثل في حقيقة الأمر تلميحًا غير منطقي على أقل وصف، ومحاولة للعودة بعقارب الساعة إلى الخلف، ذلك أن الدول، حتى مع اختلافاتها الحدودية عند استقلالها في القارة الأفريقية على سبيل المثال، طبقت المبدأ القانوني Utis Possidetis، أي «إبقاء الملكية على ما هي عليه»، فيما يتعلق بالحدود حتى بعد الصراعات. ومن ثم، فإن التلميح إلى أن الحدود الحالية للدول غير المطابقة مذهبيًا أو عرقيًا إنما هو سكب للزيت على الحريق ومدعاة للصراع!
واقع الأمر، ومع الاحترام الكامل للاجتهاد الأكاديمي والثقافي والعلمي للتعلم من التجارب الماضية ولأخذ العبر من التاريخ باعتباره مدرسة الحاضر، يجب أن يتواكب القياس السياسي والفكري مع الحاضر، إذا ما كنا نريد إفساح المجال لفكر جديد يضيف ولا ينتقص، ويثًّبت ولا يخلخل. ولكن محاولات البعض للسعي لفرض الأنماط الحتمية المستقاة من تجربتهم، باعتبارها المنارة المطلوب اللجوء إليها، التي نلاحظ نماذج منها في الآونة الأخيرة، تجعل من التاريخ أداة للتسلط الفكري والتمركز الثقافي. وتقديري أن الدراسة الأولى هي مثال لهذا، بينما الثانية تعد مقاومة منقوصة لطرح مشؤوم.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.