تم افتتاح مهرجان القاهرة، يوم الثلاثاء الماضي، بالفيلم المصري الجديد «يوم للستات» للمخرجة كاملة أبو ذكري لتنقسم الآراء من حوله إلى حد التباين. البعض تحدث عن جودة المخرجة «في معالجة شخصياتها»، والبعض الآخر تحدث عن تكرار المفادات وعن «الموسيقى التي لا تتغير» من بين أشياء أخرى.
على ذلك، فإن اختيار هذا الفيلم للافتتاح له ما يبرره. فيلم العودة للمخرجة التي توجهت للتلفزيون منذ خمس سنوات والتي سبق لها أن قدّمت عملاً جيدًا سنة 2006 هو «ملك وكتابة» سبقت به تيار السينما المستقلة في هذا القرن وطرحت نفسها فيه كموهبة جادة، بعد فيلم مبكر توجه وجهة تجارية («سنة أولى نصب»، 2004).
«يوم للستات» يحكي عن «حالة التناقض التي يعيشها الناس في الأحياء الفقيرة» كما صرّحت المخرجة في مقال للزميلة عالية قاسم في مجلة «7 أيام».
والفيلم بالفعل يهوي بمطرقته النقدية على وضع يظهر التفاوت بين الفقر والرخاء. فيه أن الحكومة قررت إنشاء مسبح شعبي في أحد الأحياء المكتظة ما يصبح مثار السخرية لأن ساكني الحي يحتاجون للمقومات الأولى من الحياة، حسب الفيلم، قبل ما يعتبرونه من الكماليات.
على ذلك، قبول المشروع أو رفضه، يبرهن الفيلم، مسألة نسبية، فما أن يتم افتتاحه حتى يتدفق الناس إليه، وتنسج المخرجة من كل ذلك حكاياتها حول شخصيات الفيلم الرئيسة التي تتماوج بين الدراما الاجتماعية والعاطفية.
مشاهد مشكلة جيدًا
فيلم المخرجة لا يزال يمكنها من الانتماء إلى فئة المخرجين الباحثين، من خلال أسلوب المعالجة وتصميم الإخراج، عن تميّز بعيد عن الأعمال السهلة التي تعيش عليها صالات وسط البلد في القاهرة. ويمكن ضمّه إلى تلك المجموعة المتزايدة من الأفلام المستقلة والمختلفة التي بات توقعها من السينما المصرية أمرًا شبه مفروغ منه.
ففي العامين الماضيين ووصولا إلى نهايات السنة الحالية، ارتفعت نسبة تحقيق هذه الأفلام التي تشق طريقها بعيدًا عن جادة العمل الجماهيري البحت. نعم كل فيلم يحتاج إلى جمهور، لكن هناك أكثر من جمهور وهذه الأفلام تريد جمهورًا معينًا لا تشعر حياله بأنها تخون رسالاتها في الحياة.
قبل عامين دشن المهرجان ذاته مستقبل مخرج جديد اسمه كريم حنفي آلى على نفسه تقديم فيلم فني خالص بعنوان «باب الوداع». 3 شخصيات هي الابن والأم والجدّة. في فيلم بلا حوار. هناك أصوات تأتي من الراديو القديم وتعليق مسموع، ومؤثرات خافتة. لكن هذه الأصوات ليست بدورها مهيمنة. الفيلم يتّخذها للمساعدة على ردم الفواصل أو ما تيسر له منها.
البطولة هي للبصريات. لتلك المشاهد المشكّلة جيّدًا. للكاميرا، محمولة حينًا وثابتة في أحيان أكثر، وهي تؤطّر الجميع وتضفي ظلالها المستنتج من التصوير بالأبيض والأسود. حكاية ثلاثة أجيال، كل بمعزل عن الآخر (غالبًا) ولكل مساحته الزمنية لكي يعيش على الشاشة مجبول بحب الآخر وذكراه. يميل السرد إلى البطء خصوصًا في ثلثيه، ثم يتسارع الإيقاع قليلاً بسبب تقصير مدى عرض اللقطات الطويلة على الشاشة. عوض مشهد يأخذ خمس دقائق أو أكثر، يكتفي المشهد الوارد في النهايات بدقيقة أو دقيقتين، قبل أن ينجلي كل ذلك عن عمل قريب من التحفة الفنية الكاملة.
وفي مطلع عام 2014 نفسه، وبعد عرضه في ديسمبر (كانون الأول) في مهرجان دبي السينمائية، وجد «أوضة الفيران» لمجموعة من ست مخرجين جدد، مجالاً ولو محدودًا من العروض. احتوى الفيلم على ست قصص لكل شخصياتها لكنها تسير في ركب حياة واحدة في مدينة واحدة (الإسكندرية) ويتم الانتقال بينها بلا عثرات أو إخفاقات.
«الخروج للنهار» لهالة لطفي كان من بين الأهم الذي أنجبته السينما المصرية خلال تلك الفترة، إنتاجًا ينتمي إلى العام 2013 لكن عروضه انطلقت مباشرة بعد مهرجان أبوظبي إلى برلين وثيسالونيكي وقرطاج وسواها من المهرجانات الدولية.
محنة عائلية
الفيلم دراما اجتماعية معالَجَة بأناقة وسوداوية لحال عائلة اعتادت العيش في كنف أزمة دائمة. بطلتها تلك الفتاة الشابة (دنيا ماهر) التي تستيقظ في كل يوم على الوضع ذاته. تصحو على العناية بوالدها المقعد (أحمد لطفي) ثم لنحو ثلاثة أرباع الساعة تلتزم المخرجة البيت مع هذه الأسرة الصغيرة. تتابع (بكاميرا مقتصدة الحركة وبإضاءة طبيعية جدًّا) نمو الحياة في الصباح، وهي لا تحتاج إلى نمو كبير، فأعمال الأسرة اليوم هي ذات أعمالها بالأمس. التنظيف والغسيل وتقاسم العناية بأب لا يستطيع تنظيف نفسه أو ارتداء بيجامته أو الذهاب إلى الحمّام وحده. تمضي الحياة بلا شغف. بعد تلك الدقائق تخرج الكاميرا إلى الشارع لأول مرّة. تقرر سعاد زيارة صديقتها والتقاء صديقها وتخفق في الاثنين. هاتف من أمها يخبرها أن والدها دخل المستشفى. بعد ذلك تستقل حافلة عامّة وتلحظ أن السائق يتحاشى قبول ركّاب آخرين. عندما تسأله عن السبب يجبرها النزول في مكان بعيد. تمضي الليل جالسة بالقرب من «ترعة» على النيل. هناك رجل وحيد هارب من الحياة إلى صيد السمك. ينبلج النهار. تعود إلى البيت. والدتها بدأت عمل الصباح. والدها ما زال في المستشفى. تجلس سعاد بالقرب من أمّها وتسألها: «هوا حندفن بابا فين؟». لم تحر الأم جوابًا، فتلحق سعاد بسؤال ثان أفدح وقعًا: «وإحنا المدافن بتاعتنا فين؟».
إذا ما كانت هذه هي البدايات الحديثة، ولكل فترة بداياتها، فإن آخر ما حققته السينما المصرية من هذه الأعمال لا يقل إجادة واهتمامًا، فإن ما ظهر من هذه الأفلام خلال العام الحالي لا يقل إجادة. في المقدّمة «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد وهو مثل كريم حنفي مخرج يقدم فيلمه الأول. في الوقت ذاته، ثابر مخرجو الأمس تقديم أعمالهم المختلفة: داود عبد السيد أنجز «قدرات غير عادية» ومحمد خان أنهى رحلته الرائعة بفيلم ممتاز آخر له هو «قبل زحمة الصيف».
لا يسمح المجال لمزيد من النماذج، لكن مهرجان القاهرة الحالي يعد بأن يفصح عن مواهب جديدة أخرى في صناعة من المهم أن تحافظ على شقيها الجماهيري الواسع والفني المحدود.