الفرنسيون في مخادع الرؤساء

بعد نشر مذكرات هولاند وقبلها مراسلات ميتران مع عشيقته

الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وكتابه
الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وكتابه
TT

الفرنسيون في مخادع الرؤساء

الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وكتابه
الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وكتابه

احتفظت فرنسا - ربما حتى نهاية الأسبوع الماضي على الأقل - بتقليد خاص في الحياة السياسية والاجتماعية يقضي بالفصل التام بين الحياتين الخاصة والعامة للمشاهير، على خلاف الحال في البلاد الأنغلوساكسونية، حيث تكاد فضائح المشاهير في حياتهم الخاصة أن تكون مادة يوميّة في الصحف والمجلات ومحطات التلفزة.
هذا التقليد انتهى رسميًا، وعلى مستوى لا يقل ببساطة عن مؤسسة الرئاسة الفرنسيّة نفسها، بعد أن تم نشر نصوص أكثر من ألف رسالة كتبها الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران لعشيقته طوال فترة 33 عامًا، وكذلك نصوص مذكرات الرئيس الحالي فرانسو هولاند التي أملاها عبر 5 سنوات على صحافيين من «اللوموند» الفرنسيّة (جيرارد دافي وفابريس لوم)، في 60 مقابلة مختلفة، تضمنت مواقف مثيرة للجدل بشأن شخصيات وقضايا ما زالت في الفضاء العام.
هذا التزامن غير المقصود بين الحالتين الرئاسيتين أثار موجة عارمة من الاهتمام في الحياة السياسية والثقافيّة في البلاد. وفي حين بدا نشر رسائل الغرام بين ميتران وعشيقته عملا رومانسيا، وإضاءة تأريخية ربما على آخر تجربة تبادل للرسائل العاطفية المكتوبة بين عشاق مشهورين، بعد انتصار وسائل التواصل الإلكتروني النهائي في القرن الحادي والعشرين، فإن نشر مذكرات هولاند عن أحداث لا تزال ساخنة نوعًا ما اعتبر ضربا من الجنون، وانتحارا سياسيًا للرجل الذي سيخوض انتخابات رئاسية لتولي فترة ثانية، وذلك خلال أشهر قليلة مقبلة؛ أبريل (نيسان) 2017.
فنصوص مقابلات «اللوموند» مع الرئيس هولاند تضمنت مواقف صريحة من قائمة طويلة من الأشخاص والمؤسسات والمجموعات في فرنسا، احتوت على انتقادات لقضاة ومحامين (النظام القضائي الفرنسي مليء بالجبناء)، ومهاجرين ومسلمين (في فرنسا عدد كبير فائض عن الحاجة من المهاجرين، وهناك مشكلة في الإسلام ذاته)، ومثقفين وسياسيين (لا يلقون بالاً لفكرة فرنسا)، بالإضافة إلى هجومات على أجهزة الاستخبارات الفرنسيّة (كاشفًا أنه أصدر الأوامر شخصيًا لاغتيال أعداء للدولة الفرنسيّة)، ولاعبي كرة القدم (هم بحاجة لبناء عقولهم أيضًا)، والرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي وصفه بأنه (ديغولي صغير خام) وأشبه بأرنب ديوراسيل (كما في الدعاية التلفزيونية المشهورة عن البطاريات التي تدوم وتدوم)، والمتمردين عليه في اليسار الفرنسي الذين أطلق عليهم (مجموعة من الأغبياء)، وحتى صديقته السابقة فاليري تريروالار التي وصفها بـ(الخائنة والكاذبة). وقد نشرت نصوص المذكرات في كتاب مطبوع بموافقة الرئيس هولاند، وهو الذي التقى الصحافيين في الإليزيه عشرات المرات، وكان متيقنا تمامًا أنها ستنتهي بنشر نصوص المقابلات على شكل كتاب في مرحلة ما.
المدافعون عن الرئيس هولاند يقولون إن التعليقات الحادة يجب ألا تنتزع من سياقها، وإنه يجب أن تفهم في الأجواء المحددة التي قيلت خلالها في الـ5 سنوات الأخيرة. واعتبرت بعض أوساط أنصار الرئيس مسألة الموافقة على نشر الكتاب في هذا الوقت إنما هي محاولة لإظهار قرب الرئيس من الجمهور، عبر الانفتاح على الصحافة والشفافيّة. لكن معظم الفرنسيين لا يتبنون هذا الموقف فيما يبدو، وهم في استطلاع للرأي اتفقوا بأغلبيّة 78 في المائة على أن نشر المذكرات في هذا الوقت كان خطأ فادحا، واقترح 86 في المائة منهم عدم ترشح هولاند لفترة رئاسيّة ثانية. وقد نقل على لسان أحد نواب البرلمان الفرنسي من الحزب الاشتراكي، المنتمي إليه الرئيس، قوله بعد اطلاعه على مقتطفات المذكرات: «إني لا أجد كلمات للتعبير هنا؛ هذي المذكرات أشبه ما تكون بشيء ما بين ضربة مطرقة على الرأس، والقشة التي قصمت ظهر البعير». في مقابل هذه العاصفة الهوجاء، بدا نشر رسائل الرئيس ميتران لعشيقته بموافقة العشيقة و3 من أولاد ميتران مناسبة نوستالجية لاستعادة الأيام الجميلة، وكأننا سافرنا في آلة الزمن إلى عدة عقود مضت، حين كان العشاق يتبادلون الرسائل المرسلة بالبريد، وينتظرون أيامًا قبل تلقي الجواب. ولعل ما أثار اهتمام الفرنسيين هو ذكرياتهم عن الرئيس الفرنسي الراحل الذي اشتهر بكونه ميكافيلليًا قاسيًا، شديد البرودة في علاقاته على العموم، وأنه لم يتخلَ عن زوجته ولا عن عشيقته طوال عقود. وقد بدت الصحافة الفرنسيّة على العموم مرحبة بنشر الرسائل، وإنْ وصفه بعض المعلقين بأنه عمل يفتقد إلى اللياقة، مسيء للعلاقات الزوجيّة الطبيعيّة.
الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران الذي حكم فرنسا من 1981 حتى 1995، استمر متزوجًا لعقود من دانييل ميتران، وأنجب منها ولدين، لكنه لثلاثة وثلاثين عامًا احتفظ كذلك بعلاقة غير شرعيّة مع آن بينجيو، أثمرت في ١٩٧٤ عن ابنة سماها مازارين، وقد جمعت رسائله لها منذ تعارفهما في الستينات من القرن الماضي حتى وفاته في عام ١٩٩٦، ونشرت في كتاب بعنوان «رسائل إلى آن». وتبدو معظم الرسائل حميمية مليئة بالعواطف الدّفاقة: «كأنّك موجة عميقة».. «عندما لا أعلم أين أنت، تملأني كل مشاعر التعاسة في هذا العالم»؛ ومثلها الكثير. وقد نشر بموازاة الكتاب دفتر قصاصات كان يجمعها الرئيس ميتران لعشيقته لعدة سنوات في بداية علاقتهما، وفيه إشارات عن المزاج الثقافي الذي كان سائدًا في فرنسا وقتها.
العشيقة آن، التي تبلغ من العمر الآن 73 عامًا، بدت مترددة في مقابلة لها مع محطة إذاعيّة، غير واثقة من قرارها الموافقة على نشر الرسائل التي عدد قليل منها ردود كتبتها للرئيس. أما الرسائل ذاتها، فتظهرها كامرأة قويّة، تعلم تمامًا ما تريد، قاومت محاولات تودد ميتران لعامين فيما يبدو قبل أن تقع في غرامه، وكانت عندها في سن العشرين بينما كان هو في الأربعينات، ولديه زوجة وولدان. وقد تبين بعد رحيل الرئيس أن الأمن الفرنسي كلّف بحماية العشيقة وابنتها، لا سيما أن الرئيس كان كثيرًا ما يقضي بعض الليالي معهما، بعيدًا عن قصره الجمهوري. وقد التقت المرأتان وأولادهما لأول مرّة في جنازة الرئيس، لكنهما ستقتسمان عوائد الكتاب الآن مع الأولاد!
كان بعض المعلقين قد قارنوا بين نثر السيد ميتران الكلاسيكي الرفيع، وكتابته التي تبدو كنصوصٍ كما لو أنه كان يعرف أنها ستكون في وقت ما وثائق تاريخية، فاعتنى بها شديد الاعتناء، واهتم بالتفاصيل، وبين أحاديث السيد هولاند التي سمتها المباشرة والسطحيّة أحيانا. لكن مهما يكن الأمر، فإن نشر أسرار الحياة الخاصة للرئيسين الأسبق والحالي هذا الأسبوع، سيكون بمثابة باستيل رمزي آخر أسقطه الفرنسيون، بعبورهم إلى مخادع الرؤساء والمشاهير. «إنه عالم مختلف لا مكان فيه الآن للأسرار»، على حد تعبير محرر كتاب «رسائل إلى آن».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!