العراق بعد مائة عام

قصص خيال علمي صدرت باللغة الإنجليزية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

العراق بعد مائة عام

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

هل بمقدورنا امتلاك فضاء من المخيلة العقلية والفانتازية، وتصوير رؤانا المستقبلية، في قصص من جنس الخيال العلمي، لما قد يجري في العراق بعد مائة عام؟
سؤال حوّلته دار «كوما برس» مشروع تأليف مبتكرا دعت فيه كتّابًا عراقيين إلى كتابة عشر قصص قصيرة تنبع من خصوصية وتاريخ عشر مدن ومناطق عراقية، وما سيحدث فيها عام 2103، أي بعد مائة عام من التغيير الذي حدث إثر الغزو الغربي للعراق عام 2003، وما أعقبته من صراعات طائفية وسياسية وإرهاب.
كيف سيكون الناس آنذاك؟ هل سينعمون بوضع مستقر وسلام؟ هل ستتغير قيمهم ومجريات حياتهم اليومية وفضاءاتهم المعرفية والسلوكية؟ ما مدى تأثير التطورات المتسارعة الحاصلة في مجال العلم والتكنولوجيا عليهم؟
يقينًا لا نتوقع الحصول على إجابات حتمية وفق منظور واقعي لكل تلك الأسئلة بقدر ما تتطلب الأجوبة تصورات متخيلة بمعطيات حضارية وعمرانية ولغوية مستحدثة، تتلاءم مع زمن مستقبلي، وتكون بمثابة وسيلة للنظر نحو الحاضر الراهن عبر المستقبل، أو بالأحرى نقل الحاضر إلى فضاء غريب وإلباسه رداء فنتازيًا بأسلوب رمزي يحثّ القراء على الاستقراء والاستنباط والتفكير بتأثير ما هو موجود اليوم على ما يمكن أن يكون بعد مدة من الزمن، في دعوة للنظر إلى الأمام من دون الركود والركون إلى الماضي، دعوة إلى عدم اللجوء إلى استعراض المعاناة والدموع للحصول على تعاطف القراء، إلى تصوير الدراما الإنسانية بأسلوب غير معهود أو مألوف، أو تناول قضايا ماضوية خلفية لإسقاطات ضرورية على أمور تحدث لاحقًا.
يكمن الهدف من تلك المبادرة الرائدة في إعطاء الكتاب العراقيين فرصة للتعبير عما يحدث حاليًا من خلال رؤى فردية مستقبلية تشبه الخيال العلمي، تتضمن أفكارًا وشخصيات بألوان وأسماء وتفاصيل عيش جديدة ومبتكرة.
صدر الكتاب (+100) باللغة الإنجليزية وسيصدر قريبًا باللغة العربية إلكترونيًا، وساهم فيه عشرة كتاب عراقيين، من بينهم الروائي علي بدر، ومحرر المشروع، الروائي حسن بلاسم، الذي يعزي سبب عدم شيوع هذا الجنس الأدبي في العالم العربي إلى افتقاد كتابنا التنوع والموسوعية والابتكار، والتفكير بالوحدانية في الدين والسياسة؛ مما ينجم عنه الحاجة إلى التعريف بالعراق أدبيًا وليس سياسيا، كما تنقل وسائل الإعلام العالمية، ذلك يدعو إلى ترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغات العالمية، وإلى تغيير نمط التفكير التقليدي للكتاب، الذين فيما لو كتبوا عن الحياة الواقعية ينتهون بنقد الوضع السياسي والتدخلات الدولية.
لا يمكننا نكران بعض الكتابات التاريخية التي جعلت من الخيال «العلمي» موضوعًا لها كالأساطير والملاحم وكتب التراث، وهكذا نوع من الكتابة ينبغي أن يتطور اليوم وينتشر بفضل التطور المتاح للتكنولوجيا وتبدل لغة العصر وأساليبه التعبيرية؛ إذ من الجائز، برأي بلاسم، أن «تصبح الرواية على شكل لعبة إلكترونية مستقبلاً، وربما ستشتري شركات عالمية مدنًا بكاملها وتوفر لها الخدمات»؛ لذا فإن هذا المشروع يجمعنا بصفتنا عراقيين بعدما نسينا مفهوم الوحدة والاشتراك في مشروع موحّد، والميزة الوحيدة التي استفدنا منها في مرحلة ما بعد الاحتلال هي الصدمة الإيجابية التي مكنتنا من طرح أفكارنا بجرأة وبشكل أرحب عبر وسائل الاتصالات الحديثة؛ لذا فإن اهتمامنا لا ينبغي أن ينصب على اللغة وجمالها ومصطلحاتها فحسب، فكيف يمكن لابن عربي بلغته الفخمة أن يكتب عن السيارات المفخخة؟ فهل ستكون البرامج والتطبيقات الرقمية بديلا للكتاب التقليدي المقروء؟ وهل من الضروري أن تتغير أدوات التعبير الأدبي بتقادم الزمن وتغيّره؟
لنر ما يمكن أن يطرحه مشروع «كوما برس» المقبل حول الكتابة عن البصرة وما سيرويه الكتاب العراقيون عنها للقارئ الأجنبي.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.