طقوس الكتابة عند الأدباء العرب.. و«الانسداد الكتابي»

كان محفوظ يمشي مسافات طويلة.. وتاج السر يكتب في الصباح ولا يزيد على ألف كلمة

الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد
الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد
TT

طقوس الكتابة عند الأدباء العرب.. و«الانسداد الكتابي»

الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد
الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد

هل هناك طقوس للكتابة؟ نعرف من سير الأدباء، قديمًا وحديثًا، أن هذه «الطقوس»، أو فلنقل شحن النفس بالاستعداد لدخول هذا المحراب، موجودة عند غالبيتهم، وقد تكون شاقة أحيانًا، وحتى إن بعض الأدباء يستعد لذلك.. عضليا، مثلما كان يفعل نجيب محفوظ حيث كان يسير مسافات طويلة في الصباح الباكر. والبعض لا يكتب إلا وبجواره فنجان القهوة، مصحوبة بعلبة السجائر، مثل بلزاك وفولتير اللذين كانا يحتسيان ما بين 40 و50 فنجان قهوة، والبعض يفضل الجلوس بالمقهى، فيما يعشق البعض الآخر العزلة والهدوء التامين، وهناك من يعشق الموسيقى، وهناك من يرتدي ملابسه كاملة كمن يستعد لمغادرة المنزل. وما بين الغرابة والطرافة والتلقائية تتنوع «العادات الكتابية» أو الطقوس، لكن ذلك لا يمنع أيضًا من أن يطارد المبدع شبح «الانسداد الكتابي»، وحينها قد يغير من عاداته أو يثور عليها أو يستسلم للانسداد ريثما يغادره ذاك الشبح. «فضاءات» دخلت محراب عدد من الأدباء العرب للتعرف على عاداتهم وطقوسهم، وأيضًا أسلحتهم لمحاربة الانسداد الكتابي:
الروائي اللبناني جبور دويهي، صاحب «شريد المنازل» يكشف عن عاداته الكتابية قائلا: «الواقع أني رجل عادات ومقاهٍ. أكتب في الخارج، أبعد ما يكون عن غرفة نومي، يوميًا من دون استثناء عندما انطلق في مشروع روائي، بين العاشرة صباحًا والواحدة، في مقهى يكون متوسط الضجيج.. أبدأ بقلم الرصاص وأنتهي أمام لوحة مفاتيح حاسوب (أبل). وقبيل الفراغ من الكتابة أترك ذخيرة لليوم التالي أبدأ منها من جديد. لكني عموما بطيء.. فلا يتجاوز عدد كلماتي التي أعدّها دائمًا المائة كلمة».
أما الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية»، فهو لا ينام فعلا طوال الليل، المخصص كله للكتابة. يقول: «علاقتي بالكون هي الكتابة. وعاداتي أثناء الكتابة بسيطة للغاية ولم تتغير منذ بدأت أمارسها، حتى عند انتقالي من منزل لآخر لم أغير غرفة مكتبي بما تحويه، أحتفظ فيها بثلاثة دواليب للكتب، وما يزيد عنها أتبرع به أو أهديه للأصدقاء.. أحب الضوء الأبيض (الفلوريسنت). أكتب الروايات عادة من بعد منتصف الليل وحتى شروق الشمس، لا بد أن أرى ضوء الصباح قبل أن أخلد للنوم، وأراجع ما كتبته بالنهار». وعن نمط كتابته الروائية، يقول: «لا أعمل بشكل منتظم. قد أكتب 3 سطور أو 3 صفحات. استمع إلى الراديو وتحديدًا (إذاعة البرنامج الموسيقى)، التي تبث الموسيقى الكلاسيكية والخفيفة طوال الليل دون انقطاع.. بجواري زجاجة مياه.. أشرب كثيرًا منها، وربما هي سبب بقائي على قيد الحياة.. كنتُ في الماضي أشرب الشاي والقهوة. مع التقدم بالعمر أصبحت أراجع قبل منتصف الليل فلم أعد أملك ترف الوقت»، أما كتابة المقالات فهو يكتبها في أي وقت وأي مكان. ويذكر أنه «في الماضي كنت أسافر للإسكندرية كل أسبوع وأزور معالمها لأن مشروعي الروائي كان مرتبطًا بها، لكني أومن بأن النسيان هو الثروة الحقيقية». ويتقبل صاحب «البلدة الأخرى» عقبة الانسداد الكتابي ويعترف: «تزورني من وقت لآخر لكني أعرف أنها ستزول تلقائيًا، وأحاول أن أسافر كثيرًا، وأستمع للموسيقى وأقرأ أكثر من أي وقت».
«لا توجد لدي طقوس للكتابة» هكذا يوضح الروائي الأردني صبحي فحماوي، صاحب «الإسكندرية 2050»، ويفسر ذلك «لأنني متورط في أكثر من مجال ثقافي، وكثيرًا ما اضطر لتحويل وقت قراءتي إلى كتابة.. والعكس صحيح.. فأنا أقرأ بغزارة يوميًا، ثم أكتب القصة، أو الأقصوصة، أو أواصل متابعة كتابة روايتي، أو أتابع نسج الدراما في عمل مسرحي، أو أكتب النقد.. ثم أعد وأقدم برنامجي الثقافي التلفازي الأسبوعي بعنوان (قناديل) على قناة (برايم) الفضائية». وعن نمط كتابته الروائية، يقول: «أصدر سنويًا رواية، أو عدة كتب منها قصص أو نقد، ولهذا لا توجد لدي طقوس كتابة.. فأنا لا أدخن، ولا أشرب الكحول، وقليلاً جدًا، ما أزور مقهى، ذلك لأن معظم المقاهي الأردنية مريضة بالتدخين والأرجيلة أولاً».
أما عن أسلوب حياته، فيقول: «منذ السادسة صباحًا أغسل، وأمارس الرياضة سيرًا سريعًا لمدة ساعة، أتفقد فيها نباتات حديقتي، وأُفتِّح في كل زهرة جديدة من أزهار حديقتي الحبيبة، أو أودع محزونًا كل زهرة تذبل لتجف.. حيث إنني مهندس حدائق.. أعبر في عبير الحدائق وأتأمل كل زواياها خمسين دورة يوميًا.. ثم أعود لتصفح وقراءة الصحف. وأكتب مقالاتي. وبعدها أنام القيلولة لأعود بعد ذلك للكتابة التي لا تكون مبرمجة، بل تكون مثل موج البحر».
أما عن الانسداد الكتابي، فيقول صاحب «قصص عشق كنعانية»: «لا أشعر به، فمثل شراهتي في الأكل، عندي شره في الكتابة التي ابتدأتها بتوسع عام 2005، فأنجزت حتى اليوم أكثر من 20 كتابًا.. وكثيرًا ما أشعر بألم المخاض في حمل صادق لرواية يثقلني حملها.. فأواجه هذه الآلام بالقراءة أو الابتعاد برحلة سياحية.. أو بالنوم.. نعم أنام مرة في الليل، ومرة أو مرتين في النهار لمدة ساعة في كل مرة، (أفلتر) خلالها تراكم الكتابات والمعلومات والقضايا الشائكة التي تملأ رأسي.. وأحاول التخلص من فضلاتها التي تملأ رأسي».
وتقول الروائية المصرية منة الله سامي عن عاداتها الكتابية: «عادة أكتب في وقت متأخر من الليل بعد أن يخلد الجميع إلى النوم، حينئذ تستنفر في داخلي طاقة الإبداع بعد أن تتبدد طاقتي في مواجهة متطلبات حياتي اليومية وعملي. وأنا لا أستجدي فكرة لأشكل منها قصتي لأنني لا أكتب إلا إذا كنت مسكونة تمامًا بهذه الفكرة التي تلح علي في صحوي وفي منامي، وعادة ما تكون مرتبطة بحدث يؤلمني مثل اجتياح الدواعش لآثار (نينوى)، في العراق، ومحاولتهم محو أثر إنساني قاوم الزمن لقرون وقرون. وقد تكون الفكرة أقرب إلى شطحة من شطحات العلماء الذين يتطلعون إلى مستقبل البشرية فتجيء ومضة خاطفة يصنفها النقاد تحت (أدب الخيال العلمي)».
وعن نمط كتابها الروائية توضح: «أنا ممن يكتبون القصة دفقة واحدة، ربما على الورق وربما على الحاسوب مباشرة أو ربما على هذه الهواتف الذكية التي فقدت من خلالها كثيرًا من نصوصي. وعادة ما تجر القصة أخواتها لتشكل مجموعة قصصية في موضوع بعينه، هكذا فعلت في (مخدع) التي تستلهم أساطير اليونان والشرق القديم، أو (كِمت) التي تتساءل عن أصل مصر، وتدين السفهاء منا، أو (فلول وأنوف) التي تعالج ما طرأ على المجتمع المصري من متغيرات عجيبة إبان ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، ومحاولة الالتفاف عليها من جماعة بعينها».
ويتحدث لنا الروائي والطبيب السوداني أمير تاج السر، صاحب «صائد اليرقات» عن طقوس الكتابة لديه قائلاً: «لا أكتب في البيت إلا نادرًا، ولا أكتب في الليل كما يفعل الكثيرون، وقد قمت منذ سنوات طويلة، باختراع مكان خاص بالكتابة، ارتاده يوميًا حين أكون منغمسًا في نص جديد، أو حتى لكتابة مقال من تلك التي أكتبها بصفة دورية، هذا المكان هو ركن ليس هادئًا تمامًا، في فندق متوسط بمدينة الدوحة حيث أقيم، وفي ذلك الركن أفتح كومبيوتري، وأنغمس بسرعة في كتابتي، ويمكن أن أرد على تحية عابر بقربي، ولا أنفصل عن الكتابة، أو أنهض وأتمشى قليلا وأعود».
وعن نمط كتابته الروائية، يكشف: «أكتب في العادة صباحًا، من الثامنة حتى الثانية عشر ظهرًا، وفي العادة أكتب ألف كلمة في اليوم، لا أزيدها إلا نادرًا، وحين يكون الزخم شديدًا، ويجبرني على الكتابة، في الثانية عشرة أغلق الكومبيوتر، وأذهب لعملي الرسمي، الذي أحوله للمساء، وكما ترين فهي مسألة مرهقة أن يقوم الإنسان بكل ذلك، وهي حقيقة أيام اكتئاب قصوى، أنفصل فيها عن عالمي المعتاد، ولا أتحدث مع أفراد أسرتي إلا قليلا. في اليوم التالي أعود صباحا، أقرأ ما كتبته بالأمس قبل الانتقال لفقرات جديدة، وحقيقة أنا لا أخطط لأي نص، تأتيني الفكرة وأقوم بكتابتها مباشرة وأترك النص يقودني إلى حيث يريد، وكثيرا ما ينتهي نهاية لا أتوقعها قط، لكني أتركها ولا أقوم بتعديلها».
وعن العادات المصاحبة للكتابة الروائية، يقول: «أشرب القهوة بكثرة أيام الكتابة حتى ينتهي النص، وتتراوح عادة بين شهر وثلاثة أشهر، بحسب طول النص واتساعه. في الماضي كنت أدخن كثيرا، لكني تركت التدخين منذ سنوات واستطعت أن أواصل الكتابة بلا سجائر. حين ينتهي نصي، أقوم بمراجعته وإجراء بعض التعديلات البسيطة، لأنني أومن بأن النص الحقيقي، هو الذي يجيء في دفقة الكتابة الأولى، ولا ينبغي تخريبه بالحذف والإضافات الكثيرة».
أما عن الانسداد الكتابي لديه، يقول صاحب «مهر الصياح»: «ليس لدي مسألة انسداد الكتابة، فأنا أعتقد أنها عمل احترافي، أو صنعة مثل غيرها من الصنع، وعلى الكاتب الموظف في الكتابة، أن يعمل باستمرار، أو على الأقل، يترك للقراءة والكتابة بضع ساعات في يومه».
وعن الكتابة وطقوسها لدى الروائي المصري ناصر عراق، صاحب «الأزبكية» يقول: «الكتابة بالنسبة لي ومضة فرح.. الكتابة فعل حياة ممتع ومعذّب.. إنها عمل مجهد ومضن، مثل الفلاحة في الأرض، حيث لا يمكن أن تمنحك ثمارها الشهية إلا عندما تخلص لها ويسيل من روحك عَرَق الإبداع».
أما عاداته الكتابية فيلخصها بقوله: «منذ زمن بعيد أدركت أن الكتابة الناجحة المؤثرة لن تتأتى إلا بالالتزام الصارم، بمعنى، الإقبال عليها وممارستها بشكل يومي، دون انتظار وحي يأتي من هنا، أو خاطر يطل من هناك. إن الدأب والمثابرة والاستمرارية هي التي تولد الوحي، وهي التي تشحذ سلاح الإلهام، وقد تعلمت هذه الحكمة من والدي المرحوم عبد الفتاح عراق الذي اعتبره مثقفا عصاميًا بامتياز».
ويستطرد: «هكذا إذن أصبحت أعانق الكتابة كل صباح منذ سنوات طويلة.. أعانقها بشغف ومحبة.. أستعجل النوم مبكرًا في الليل، لأصحو صافي الذهن قادرًا على استقبال معشوقتي التاريخية. أجل كل صباح دون مبالغة، ففي تمام السادسة صباحًا أجلس إلى مكتبي، سواء في العمل أو في البيت، في حضرة الورقة والقلم فيما مضى، أو أمام شاشة الكومبيوتر حاليًا.. أكتب نحو ساعتين أو ثلاث في صمت تام، لا حركة.. لا صوت.. لا نأمة.. ولا موسيقى ناعمة، ولا زقزقة عصفور.. ففي حضرة الكتابة لا يعلو صوت فوق صوت الكلمة!».
أما القاصة والروائية سعاد سليمان، صاحبة «شهوة الملايكة» فتقول: «لا توجد لدي طقوس خاصة للكتابة. أستعد للكتابة بالقراءة المكثفة التي قد تصل إلى 100 كتاب، حتى أجد نفسي أمسكت بالقلم الجاف والورق المسطر وبدأت أكتب». وعن نوعية قراءاتها التي تستعد بها للكتابة، قالت: «أقرأ في جميع المجالات.. تاريخ وأدب وفلسفة وشعر ومسرح». أما عن عاداتها في الكتابة فتقول: «أكتب في عزلة وأنا بمفردي، لا أحدد لنفسي وقتًا محددًا للكتابة، وقد أظل 5 سنوات دون كتابة أي عمل جديد».
وعن اختلاف عادات الكتابة ما بين القصة والرواية، تقول سليمان الحائزة على جائزة «متحف الكلمة» العالمية في القصة القصيرة: «القصص تخرج كلها دفعة واحدة، لا يمكن أن تتم على مراحل، لا بد أن أنتهي منها في جلسة واحدة. قد أعدل بعضا منها أو كلها أو حتى أتخلص منها أو أقطعها.. هي بالنسبة لي (موال الإبداع) الذي يخرج دفقة واحدة، أما الرواية فقد أكتب كل شهر فصلا مثلا».



«سادن المحرقة»... حوار مع الجلاّد

باسم خندقجي
باسم خندقجي
TT

«سادن المحرقة»... حوار مع الجلاّد

باسم خندقجي
باسم خندقجي

في تحدٍ جديد لسجَّانه الإسرائيلي، يصدر الأسير باسم خندقجي، المحكوم بثلاثة مؤبدات، الجزء الثاني من روايته «قناع بلون السماء» التي حازت «جائزة الرواية العربية» في دورتها الـ17، وأُعلن عنها في أبريل (نيسان) من العام الحالي. ويحمل الجزء الجديد الصادر عن «دار الآداب» عنوان «سادن المحرقة»، وهو يرتبط بالكتاب الأول بلعبة ذكية، وشيقة، بحيث بالإمكان قراءته ربطاً بما قبله، أو منفصلاً عنه. لكن مَن يعرف الكتاب الأول لا يمكنه إلا أن يعقد مقابلات دائمة، أو يستبطن أبعاد ما يقرأ، معتمداً على الأحداث السابقة.

الظريف في الرواية الجديدة، أن اليهودي الأشكنازي، أور شابيرا، الذي كان الفلسطيني، باحث الآثار نور الشهدي (بطل الجزء الأول) قد عثر على هويته في معطف أسود مستعمل اشتراه، وتقمّص اسمه واستخدم هويته ليلتحق ببعثة أثرية؛ شابيرا هذا هو الذي سيكون محور الرواية الجديدة. وهي مفاجأة للقارئ، الذي لم يكن يعرف عن هذا الشخص شيئاً على الإطلاق، وظنناه مجرد اسم يستخدمه الشهدي وتنتهي حكايته.

شابيرا الشخصية الرئيسية

من مطلع الرواية، نعرف أن أور (37 عاماً) كان من نخبة لواء المظليين في الجيش الإسرائيلي، شارك في حرب غزة عام 2008، وحرب 2006 في لبنان؛ حيث نجا من الموت بأعجوبة في بلدة بنت جبيل، بعد أن قُتل مَن معه، وبقي أياماً بين الجثث. وهو مصاب بعد كل ما عاناه، بـ«اضطراب ما بعد الصدمة». لذا تم تسريحه من الخدمة، والترخيص له بتعاطي الماريغوانا. وها هو يتردد للعلاج عند طبيبته النفسية هداس التي تنصحه بأن يكتب كل ما يخطر له على دفتر صغير، كي تتوصل معه إلى «نقطة التعيين» أو العقدة الأساس.

بمرور الأحداث، نكتشف خلفيات شابيرا وأزماته الشخصية والعائلية المركبة؛ والده في غيبوبة، وأمه مثل جدّيه ماتوا بفيروس «كورونا»، وأخوه الأكبر جدعون قُتل في أثناء تأدية خدمته العسكرية في مخيم في رام الله، وخاله قضى محارباً في سيناء عام 1973.

بروفايل نموذجي

أور هذا، له بروفايل نموذجي لشخص إسرائيلي، ليس فقط من حيث الصلة العضوية بين عائلته والجيش أو الحياة العسكرية، ولكن أيضاً هو واحد من أحفاد الناجين من المحرقة النازية، وتربى على ذاكرة المحرقة وذيولها. وإن نشأ في عائلة علمانية لا علاقة لها بالدين، إلا أن ذاكرته مضمخة برائحة مخيمات التعذيب، التي لم تتوقف جدته عن الكلام عنها. هو نفسه زار مخيم الإبادة النازي «أوشفيتز» في بولندا، ولا تزال تلك الزيارة، على الرغم من أنها كانت وهو في المدرسة، تؤرقه.

تاريخ مليء بالعنف والتراجيديا. والده كان مُصرّاً، رغم اعتراض والدته، على أن يلتحق ابناه، جدعون وأور، بالجيش. الأب نفسه كان عسكرياً، وهو ما يجعل أور يتخيل باستمرار الفظائع التي يمكن أن يكون قد ارتكبها، ويحاول أن يفهم منه ذلك، حتى بعد أن دخل في غيبوبة.

عبء نفسي ثقيل، يرزح تحته أور، الذي نراه متعباً في منزله في جفعات شاؤول، خصوصاً حين يكتشف أن اسمها العربي هو «دير ياسين»، بكل ما يحمله اسم المكان من ذكريات دموية، وسمعة مرعبة. تزداد هلوساته، يعيش منعزلاً دون أصدقاء، بلا نوم، يحاول مكافحة أخيلة تظهر له، تثير في نفسه الرعب. «فتاة القبو» التي تطارده، أشباح المتألمين، ما يسمعه من جرائم ارتُكبت، لعل أحداً من عائلته ارتكب أفعالاً شائنة! كل شيء يدعو للأرق، حتى أحلامه، لا يعرف لماذا يراها بالعربية، منذ سنتين! ما تراه يستطيع أن يفعل؟ لجأ إلى معلمة فلسطينية، وها هو يتابع دروساً باللغة العربية لعل هذا يقربه، من فهم نفسه! وما لا يقوله، إنها قد تكون في لا وعيه، طريقة لفهم مَن حوله.

عبثاً يفعل. إضافة إلى أعراض ما بعد الصدمة، بدأت تظهر عليه علامات انفصام. انتقاله إلى منزل العائلة في تل أبيب؛ هرباً من لعنة دير ياسين، ليس كافياً ليخرجه من الجحيم.

مفاجآت السرد

ينجح باسم خندقجي، في مفاجأتنا، بقدرته الساحرة على الربط بين جزئَي روايته. فإذا كان في الجزء الأول قد نجح في رسم سيكولوجية الشخصية الفلسطينية عبر نور الشهدي، والدخول إلى دهاليزها، من خلال استقراء أزمة الهوية والوجود الملتبس، فهو هنا يفعل العكس. هذه المرة، يأخذنا في رحلة إلى أعماق شخصية أور شابيرا، بكل ما تنطوي عليه من أسئلة وضياع، واستفهامات، ومحاولة فهم للتاريخ المتصدع، وعلاقته بالواقع المنفصم. وتكاد تكون الرواية كلها، محاولة بحث عن الذات، وعقد مصالحة مع مكونات في تركيبة الشخصية، من الصعب الجمع بينها.

لكن الرواية لا تكتفي بهذا، فثمة مفاجآت عديدة تتوالى، تجعل القارئ، متعجلاً معرفة إجابات عنها، خصوصاً عندما يعرف أور بالصدفة أن هويته التي ضاعت في جيب معطف أخيه جدعون وقعت في يد شخص آخر، وأنه استخدمها بالفعل، وعمل بموجبها.

هنا يبدأ البحث الفعلي، وتتوالى اكتشافات أور، ومغامراته لمعرفة حقيقة ما حدث، ومَن هو هذا الشخص المجهول؟ وماذا فعل بعد أن تقمَّص شخصيته؟

كل ذلك سيساعده على بدء فكفكة أزماته الشخصية، حيث يظهر نور الفلسطيني في النصف الأخير من الرواية، بصورة غير متوقعة. ولا داعي لمزيد من التفصيل، كي نبقي للقارئ متعة الاكتشاف. فالكاتب يتمتع بأسلوب سردي منساب، مع حيل روائية تأخذنا إلى حبكات متوالية، تجعلنا في حالة انجذاب متواصل.

الوجه والقناع

تُسجَّل للكاتب، مهارتُه في إعادة استخدام أدوات الجزء الأول نفسها، بطريقة جديدة. فهو أديب يحب اللعب، وبمقدوره أن يسلي القارئ بهذه الحبكات القائمة على المصادفات تارة، والأخيلة تارة أخرى. فهو يعيد إحياء صاحب الهوية اليهودي الذي لم يكن له أي وجود فعلي في الجزء الأول، ويبني له شخصية وعائلة، وحياة كاملة وتاريخاً مديداً. كما أنه يجعل اللغة العربية محوراً من المحاور الرئيسية، تماماً كما كانت العبرية في الجزء الأول. وثمة في الجزأين صديقة أو حبيبة عربية، وأخرى إسرائيلية، تلعب كل منهما دوراً في الإضاءة على الشخصية الرئيسية. ونرى الكاتب في النَصَّين، يركز على استبطان الجانب النفسي، وما يدور من حوارات ذاتية، في محاولة لولوج الدواخل المركبة سواء فلسطينياً أو إسرائيلياً. هذا الصراع الدموي الكبير، يصبح في مستواه الأكثر دراماتيكية حين نعاينه فردياً، ونجد الأشخاص المفترض أنهم أعداء في حالة تواصل إنساني، يلزمهم بمراجعات مؤلمة. أما الكلمة التي لا بد أنها أساس في النَصَّين معاً فهي «الكولونيالية» التي تستغرق من الكاتب عبر شخصية نور كثيراً من الجهد لفهمها وإفهامها.

رواية على الوتر الحساس

تأتي «سادن المحرقة» بصدورها في هذا التوقيت تحديداً، رغم أنها أُنجزت على ما يبدو قبل حربَي غزة ولبنان الحاليَّتين، وكأنها تجيب عن أسئلة كثيرة، صارت تتردد على الألسن. إذ وأنت تقرأ النصَّ، كثيراً ما تلحظ أنه يحاول، من خلال استفهامات أور شابيرا، أن يجيب عن أسئلة من نوع: لماذا كل هذا العنف عند الشخصية الإسرائيلية؟ أو ما الخلفية التي تجعل مجتمعاً يفكر على نحو انتقامي؟ وفي محاولة من أور للعثور على إجابات، يتحاور مع معلمة اللغة العربية، ويصطدمان باستمرار، يكتب على دفتره وكأنما ليفهم، يحاول أن يستنطق والده تكراراً، وهو في غيبوبته، عن تلك الحادثة الشهيرة في النقب للاعتداء الجماعي على فتاة صغيرة، من قبل الجنود، وفي قلبه خشية أن يكون والده مَارَسَ نوعاً من هذه البشاعات.

الأسير والغفران لسجَّانه

يبقى أن باسم خندقجي، يكتب هذه الرواية بعد مرور 20 سنة من عمره خلف قضبان السجن، لكنه متحرر من الجدران، كما في الجزء الأول، ويسطر حكايته، مثل طليق يحب التجول في الشوارع، يصف لنا القدس وتل أبيب، يجلس في المقاهي. يبدو خندقجي مثل مَن يأنف من الكتابة عن السجن، أو يعدّ الكتابة الروائية انتقالاً إلى عالم الحرية. والسؤال الذي من المحال أن تنهي قراءة الرواية، دون أن تتساءل حوله، هو: كيف يمكن لسجين، عاش حالات اضطهاد قصوى، وعانى من سجَّانه ما عانى، يمكن له ليس فقط أن يتقمَّص عدوه، وإنما أن يسخِّر قلمه للكتابة عن معاناته، بل يُقدِّم صورته ضحيةً أكثر مما هو مستعمرٌ مغتصبٌ، ومرتكب جرائم؟

يُشار إلى أن باسم خندقجي اعتُقل في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2004 وكان لا يزال في الـ19 من عمره، أصدر ديوانين، و3 روايات: «نرجس العزلة» عام 2017، و«خسوف بدر الدين» عام 2019، و«أنفاس امرأة مخذولة» عام 2020. ونشر أكثر من 200 مقالة، وأكمل دراسته في السجن. ومع صدور روايته «قناع بلون السماء»، وعدنا أنها ستكون ثلاثية تحمل عنوان «ثلاثية المرايا»، أي أننا لا نزال بانتظار جزء آخر، وهو ما يبرر النهاية المفتوحة والمعلقة التي تنتهي بها «سادن المحرقة».