نادية دو موند: حدود الهيمنة الذكورية

أين أصاب إنجلز في حكمه على مجتمعات ما قبل التاريخ وأين أخطأ؟

نادية دو موند: حدود الهيمنة الذكورية
TT

نادية دو موند: حدود الهيمنة الذكورية

نادية دو موند: حدود الهيمنة الذكورية

سنسلط الضوء في هذا المقال، على جانب من جوانب فكر نادية دو موند، كواحدة من أبرز نساء اليسار الإيطالي، الأكثر دفاعًا عن نسوانيَّة ديناميَّة قادرة على الرقي بالوضع النّسائي نحو التحرُّر. مُدافعة شرسة عن مجتمع المساواة بين الرجل والمرأة، في سبيل تحرير المجتمع المعاصر من كل أنواع وأشكال الأبويَّة: كيف تفهم نادية دو موند إذن المجتمع الذكوري؟ هل هناك تغييرات جذريَّة في التحليلات الأنثربولوجيَّة التي أتحفنا بها منظرو القرن التاسع عشر لأصل المجتمعات البشريَّة؟
لمقاربة موضوع الذكوريّة، تنطلق نادية دو موند من سؤال مهم: هل كانت الهيمنة الذكوريّة موجودة دومًا في تاريخ البشريّة؟ يستوجب السؤال أعلاه، العودة إلى ما قبل التاريخ لدراسة عمليّة دقيقة، وذلك لتجاوز مجموع الأساطير التي تحبك ضد النساء، من قبيل أن «الرجل صياد بارع»: «طور خصائص فيزيولوجية ونفسيّة للهيمنة مثل: العدوان، المكر، التخطيط الاستراتيجي». لهذا تدعو إلى ضرورة فحص أمهات الكتب متسلحين بسؤال: هل كانت الهيمنة الذكوريّة موجودة دومًا؟
نعود، على الأغلب، في الأدب الماركسي، إلى الكتاب المهم لفريديريك إنجلز في نهاية القرن التاسع عشر: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة». لم يكن فريديريك إنجلز متفقًا مع كون فكرة اللامساواة (الاستغلال، الجور) بين الأشخاص موجودة دومًا. فبناء على الدراسات الأنثروبولوجيّة الأولى للويس مورغان، اتفق إنجلز مع فرضيّة وجود مجتمع بدائي مبني على المساواة، المشاعيّة وانعدام الطبقات، يسميه «الشيوعيَّة البدائيَّة» (أو المشاعيَّة البدائيَّة)، التي لم تكن فيها المرأة تابعة في وضعها إلى الرجل. كان إنجلز بحق، يفكر على العكس تمامًا، بأن هذه المجتمعات كانت أموميّة، حيث أسست النّساء نواة العشيرة، وكن من يُحدِّدن النَّسل. وبالتالي يتمتعن بسلطة واسعة وباحترام كبير من قبل الرجال. وقد بيّنت الدراسات الأنثروبولوجيّة الحديثة، خطأ هذه الفكرة، بحيث لا يمكن الحديث عن مجتمعات أموميّة، وإنما عن عصر أمومي؛ إذ لا يمكن الحديث عن نظام أمومي حقيقي، حيث يخضع الرجال للنساء، ليس فقط من حيث إن لهن دورًا مهمًا داخل تقسيم العمل، وفي الاقتصاد المنزلي، أو في اتخاذ قرارات تتعلق بالعمل المنزلي (كما اليوم على سبيل المثال عند قبائل الموسو في الصين)، وإنما حينما تخترق سلطتهن الفضاء العمومي والعلاقات الخارجيّة؛ حينما يتخذن قرارات مهمة تتعلق بالجماعة، ومنها أساسًا سلطة معيرة - ضبط ومراقبة السلوك الجنسي لدى الرجال. ويقود هذا أيضا، إلى سلطة تحديد القيم والأنظمة الرمزيّة. هكذا ترى نادية، أن إنجلز قد فشل وأخطأ في حكمه على مجتمعات ما قبل التاريخ لهذا الاعتبار. غير أن خطأه لا يعني بطلان المنهجيّة التي استخدمها، والتي نلخصها فيما يلي:
أولا: ربط وضعيّة النساء بالسيّاق المادي، الاقتصادي، والاجتماعي، وبالتقسيم الجنسي للعمل، وبمساهمة كل جنس في تغذية القبيلة، ثم وهذا مناسب تمامًا؛ بعد معرفة أن إعادة الإنتاج البيولوجي والاجتماعي كعامل ورهان، مهمين بالمقارنة مع الإنتاج المادي. إنه نقاش راهن في الحركة النسويّة وفي مدارس الماديّة الجدليّة التي تعيد النظر حاليا في قيمة العمل: الإنتاج وإعادة الإنتاج في الموجة الثالثة للرأسماليّة. وبحسب الدراسات الأنثربولوجيّة المعاصرة، يوجد في كل الحضارات المعروفة في التاريخ، شهادات مكتوبة حول اضطهاد النساء، ابتداء من 1500 سنة قبل الميلاد. ولهذا تفحص نادية مرحلة ما قبل التاريخ، والتي تمتد ما بين 35 ألف و6000 سنة قبل الحضارات، والمُسمَاة بالعصر الحجري القديم جدًا، حيث لا توجد لدينا أي شهادات مكتوبة. كيف حدد المؤرخون والأنثروبولوجيون هذه المرحلة؟
تستند نادية على قول ج. ليرنر: «نربط بين القطع (أدوات، مقابر، فخار، ما تبقى من المباني، هياكل عظمية..) والأساطير التي وصلتنا شفويًّا، ونقارنهُ مع ما نتعلمه من الشعوب البدائيّة التي ما تزال موجودة اليوم». ليس لدينا إذن أدلة دامغة، بل نقدم فقط افتراضات، ونحاول بفضل هذه الدراسات العلميّة القيام بتغذيَّة الماديّة التاريخيّة، بوضع نساء ورجال ما قبل التاريخ في سياق جغرافي وبيئي، حيث كانت المجتمعات البشريّة الأولى تتشكل من مجموعات صغيرة (عشائر، قبائل..) غير مهيكلة، بدويّة، مع تنظيم محكم للعمل. كانوا يعيشون من جني الثمار، وصيد الأسماك، والطرائد الصغيرة. وهو صيد يشارك فيه الجميع، ويستهلك الجميع كل ما يصطادونه، من دون أن يحصل هناك أي فائض.
بدأ أول تقسيم للعمل (احتمالاً) مع صيد الطرائِد الكبيرة - بالتزامن مع التطور التكنولوجي في إنتاج الأسلحة - الذي يتطلب ضرورة اللِّحاق بها لمدة طويلة، وأحيانا غياب غير متوقع، وهو ما يصعب التوفيق بينه وبين الحمل والرضاعة. هذا ناهيك عن أن النِّساء يتفرغن لإعادة الإنتاج الطبيعي للعَشِيرة، ومن غير المناسب وضع حياتهن في خطر.
بدأ تقسيم العمل وظيفيًّا، ولا يرتبط «بالقدرات الفيزيائيّة»؛ ففي الواقع، هناك، على سبيل المثال، مشاركة الإناث العازبات، واللَّواتِي ليس لدينهن أطفال، في الصيد. لا تلغي الفروق الجنسيّة المساهمة المشتركة لكلا الجنسين في الحفاظ على بقاء الجماعة، كما لا تقلل من قيمة جنس على جنس آخر. وأكثر من ذلك، ففي معظم مجتمعات الصيد وجني الثمار، في الحاضر كما في الماضي، لا يمثل الصيد إلا نشاطًا مساعدا وعرضيًا؛ حيث تساهم النساء بـ60 في المائة من الغذاء. وللقيام بذلك، عليهن أن يتحركن على مساحات كبيرة من الأراضي حاملين معهن أطفالهن. وتتطلب أنشطتهن المتنوعة معرفة عميقة بالوسط، وبالنباتات والمناخ، وبخصائصها الغذائيّة والطبية: الحفاظ على النار، اختراع الأواني وامتهان الفخار، ناهيك عن كل الأعمال المرتبطة بالطرائد الكبيرة التي يجلبها الرجال في الصيد (الطبخ، الحفاظ على المؤونة، الخياطة..).
هناك شيئان أسهما بشكل أساسي، في ضمان بقاء القبيلة: إنتاج الغذاء، وإعادة الإنتاج الطبيعي، حيث لعبت النساء دورًا قياديا، في علاقة غامضة بالحياة وبالموت. لقد وجدن في مختلف الأماكن مجموعة من تماثيل «الأُمهَات الإله» التي تشهد على عبادة النِّساء اللَّواتِي يتمتعن بالقدرة على إعادة الإنتاج، وبالاحترام خِشية من سلطة المرأة التي يمكن أن يستوحيها الرجال.
تخلص س. كونتز إلى القول: «أكدت الدراسات الراهنة صحة استنتاجات إنجلز: لقد كانت العلاقات بين الجنسين متكافئة - المساواة في مجتمعات الصيد والجني البدائيّة، في حين يزداد وضع المرأة تفاقمًا مع ظهور التفاوت الاجتماعي والملكيّة الخاصة والزراعة والدولة».
وفي بحثها للحقبة الرَّاهِنة، حيث تسيطر الرأسماليّة العالميّة على كل العالم، ترى أن النِّساء يستعملن كجيش احتياطي للصناعة (ماركس) في الاقتصاد الرأسمالي - يدمج في فترات التوسع الاقتصادي، ولكن يسرح في فترة الانكماش الاقتصادي أو فترات الأزمة. ويتم تبرير هذه الممارسة بفكرة آيديولوجيّة، مفادها أن الرجل هو من يلبي أساسًا حاجيات الأسرة، وأن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل كربة بيت. كما تستخدم النساء مكان قوة العمل الذكوريّة لأضعاف الطبقة العاملة وتقسيمها. كما تستعمل النساء بطبيعة الحال، في أقسام «ضعيفة»: «هامشيّة» من الطبقة العاملة، كما هي حال المهاجرين. ويؤدي ذلك إلى اشتغال النساء بأجور زهيدة، وفي ظروف عمل جد هشة، ليتمكنّ من الجمع بين الشغل من أجل السوق، وبين مهام إعادة الإنتاج الأسري. وهو ما يؤدي إلى وظائف غير مضمونة ومؤقتة، ومعاش بئيس. وبالجملة، تجد النساء في وضعية استقلال اقتصادي جزئي بالمقارنة مع الرجال.
نشهد حاليًا، تأنيثًا حقيقيًا لعالم الشغل. وهذا لا يعود إلى الزيادة القويّة في عدد النساء النشيطات في الاقتصاد في العقود الأخيرة، وفي كل العالم الرأسمالي المعولم، وإلى استعمال ما يسمونه تأنيث الشركات: القدرة على ربط العلاقات والتواصل، الاهتمام والعناية بالمهمة، التفاني، اللّيونة، الانصياع كطباع.. الاندماج الهش في عالم الشغل؛ ارتباط ليِّن بالشركة؛ ساعات عمل متغيرة في خدمة الشركة بين وقت العمل وانشغالاتها (وقد تصحب معها العمل إلى المنزل). لقد صار هذا نموذجًا لجميع الأجراء رجالاً ونساء. إننا نتحدث عن استغلال مزدوج للنساء اللواتي يزاولن عملاً مأجورًا.
تعرج نادية على الإشارة إلى مقاربة مهمة لتيار جديد من النسويّة نسميه نسويّة العناية، حيث الاهتمام متزايد بوضع النّساء في عالم الشغل، كساعات الرضاعة، للتخفيف من حدة التوتر جراء العمل وللزيادة في المردودية. ويجري الشيء نفسه بخصوص القروض الصغرى، حيث تعمد الرأسماليّة إلى انسحاب الدولة من مسؤوليتها اتجاه مواطنيها، من خلال تحميلهم المسؤولية في ضمان عملية إعادة الإنتاج. فعلى الفرد وخاصة النّساء، اللّواتي يزاولن عملاً اجتماعيًا غير مؤدى عنه، أن يتحملن المسؤولية في إعالة أسرهن، لذلك تُقدم لهن قروض بشعة بدعوى التنمية الذاتيّة والمستدامة. إنه استعباد جديد ما بعده استعباد.
ولهذه «العناية» تأثير حقيقي على ولوج النساء للمجال العمومي. ففي بلدان أفريقيا الشماليّة وفي أغلب دول الخليج والشرق المتوسط ما تزال النساء مقصيات من العملية السيّاسيّة ومحرومات من حقوقهن الدستوريّة، ويتعرضن لكل أشكال الاضطهاد في المجال العام. فإذا استطاع الجيل الأول من الحركة النسويّة في عشرينيات القرن الماضي، انتزاع مكاسب المشاركة السيّاسيّة: الحق في التصويت (حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية)، وفي ولوج المؤسسات العموميّة، كما هي الحال في أوروبا مثلا، فإن ذلك الولوج لا يزال ضعيفا حتى في المجتمعات الغربية، لأن عدد النساء في الحكومات والبرلمانات والمجالس الجهويّة والإقليميّة، ما يزال محتشمًا بالمقارنة مع حضور الرجال.
توهمنا الليبرالية أن ولوج النساء للفضاء العام، قد تحقق بشكل يخدم المساواة. ولكن في حقيقة الأمر، لا تزال النساء حبيسات المنازل كرقم مهم في عملية إعادة الإنتاج، وفي العمل الاجتماعي غير المؤدى عنه.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.